مجلة الرسالة/العدد 561/أطوار الوحدة العربية

مجلة الرسالة/العدد 561/أطوار الوحدة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 04 - 1944



القضية العربية

في المرحلة الحاسمة

فضل مصر على بلاد العرب

للأستاذ نسيب سعيد

لقد مضى زمن غير يسير انقطعنا فيه عن التحدث إلى القراء عن أطوار الوحدة العربية، وتركنا ذلك البحث القومي الذي بدأناه في العام المنصرم لأسباب قاهرة وهي سفرنا إلى الجزيرة في أقصى تخوم بلاد العرب مما سنتحدث عنه في المستقبل

ولابد لي من القول قبل مواصلة حديثي الماضي عن تاريخ الوحدة العربية من أن أستعرض في هذا المقال التطور الرائع والخطوات السريعة التي خطتها القضية العربية في هذه الأيام القليلة مما يبشر بمستقبل لامع لبلاد العرب، وبأمل باسم لأبناء العروبة، يعيدون به مجدهم التالد، وعزهم الخالد، وأرى لزاماً على أيضاً أن أسجل هنا بكل فخر وإعجاب للذكرى والتاريخ، فضل مصر العظيم على هذا التطور السريع الذي تجتازه القضية العربية في هذا الدور الخطير، فكلما كان لعزيز مصر محمد علي باشا الكبير الأثر البارز في بعث الفكرة العربية، والوعي القومي العربي، واليقظة الوطنية في بلاد العرب حينما حلم بتأسيس إمبراطورية كبرى تضم شتات هذا الشرق العربي، فكذلك قام اليوم رئيس حكومة مصر صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا يدعو لهذه الوحدة، ويعمل لها، ويسعى في سبيل تحقيقها ليل نهار، بدون كلل ولا ملل ليخرجها من الفكرة إلى الواقع، ومن الحلم إلى الحقيقة، بل قل من الظلمات إلى النور

وقد قام لأجل ذلك بمشاورات الوحدة العربية مع سائر دول العرب المستقلة واجتمع إلى أقطاب هذه الدول ورجال حكوماتها المسئولين، واستمع إلى آرائهم في جمع شمل العرب، ولم شعثهم، وضمهم في منظومة دولية واحدة. وكان أول من دعى إلى هذه المشاورات رئيس الحكومة العراقية نوري باشا السعيد في أول مايو عام 1943 ثم دعى رئيس الحكومة الأردنية واستقبل بعد ذلك الوفد السعودي، ثم الوفد السوري، وتلاه الوفد اللبناني، ثم اليماني. مما سنتحدث عنه مفصلاً

وإني لمن المؤمنين بأن التاريخ العربي، سيسجل بأحرف من نور على صحائف غر، هذه اليد البيضاء التي تسديها مصر العظيمة إلى القضية العربية، وهذا السعي الحثيث في سبيل وحدة العرب، تلك الوحدة التي فيها سعادتهم ورفع شانهم بين الدول فتعيد مجدهم وعزهم، وتفتح أمامهم آفاقاً جديدة، أبواباً واسعة للتقدم والرقي، فيد الله مع الجماعة وفي الاتحاد قوة، وفي التفرق ضعف ووهن

وليس أدل على عمل مصر وجهادها في هذا السبيل، من ذلك البيان الخطير الذي أذاعه رفعة النحاس باشا رئيس الحكومة المصرية على العالم في شهر فبراير سنة 1943 قبل البدء بمشاورات الوحدة على الدول العربية، وألقاه في مجلس الشيوخ المصري وزير العدل الأستاذ محمد صبري أبو علم باشا باسم رفعته رداً على سؤالين وجها إليه بشأن موقف مصر من الوحدة العربية. وإني لناشر هذا للبيان الخطير في مجلة الرسالة اليوم بكامله، لأنه ولا شك صفحة لامعة لمصر الخالدة، في التاريخ العربي. قال رفعة الرئيس الجليل: (إنني معنى من قديم بأحوال الأمم العربية، والمعاونة على تحقق آمالها في الحرية والاستقلال، سواء في ذلك أكنت في الحكم أم خارج الحكم، وقد خطوت إلى ذلك خطوات واسعة صادفها التوفيق، فاتجه نظام الحكم في بعض الأقطار العربية الاتجاه الشعبي الصحيح

ومنذ أعلن المستر إيدن تصريحه فكرت فيه طويلاً، ولقد رأيت أن الطريقة المثلى التي يمكن أن توصل إلى غاية مرضية هي أن تتناول هذا الموضوع الحكومات العربية الرسمية، وانتهت من دراستي إلى أنه يحسن بالحكومة المصرية أن تبادر باتخاذ خطوات رسمية في هذا السبيل، فتبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية المختلفة فيما ترمي إليه من آمال، كل على حدتها ثم تبذل جهودها للتوفيق والتقريب بين آرائها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ثم تدعوهم بعد ذلك إلى مصر معاً في اجتماع ودي لهذا الغرض حتى يبدأ المسعى للوحدة العربية لوجهة متحدة بالفعل، فإذا ما تم التفاهم أو كاد، وجب أن يعقد في مصر مؤتمر برئاسة رئيس الحكومة المصرية لإكمال بحث الموضوع واتخاذ ما يراه من القرارات محققاً للأغراض التي تنشدها الأمم العربية هذه خير السبل للسير بالموضوع سيراً يكفل له النجاح ويضمن التوفيق

والواقع أن رفعته قام بعد ذلك بمشاورات الوحدة مع سائر الدول العربية المستقلة لأجل خير العرب وتحقيق أمانيهم.

ولا يسعنا في هذا المقام إلا القول أن مصر تولت بحق زعامة القضية العربية فرعتها باهتمام وقوة، وأن هذه المشاورات للوحدة التي قام بها زعيم العرب الأكبر رفعة النحاس باشا الذي تخطت جهوده الآفاق الإقليمية الضيقة إلى الوطن العربي الكبير هي خير وسيلة للوحدة، والنحاس باشا بما يكنه قلبه من الإخلاص لفكرة العروبة والإيمان بالقضية العربية، يعتبر خير من يقوم بتوجيهها الوجهة الصحيحة التي ستنمو وتزدهر وتتطور مع الزمن تطوراً يؤدي إلى تحقيق الأمل المنشود والأماني العذبة التي ينتظرها العالم العربي بأجمعه

على أن هذا الدور الذي يقوم به رفعة الرئيس المصري كجندي أمين في تطور الوحدة العربية واتجاهاتها، وانتقالها من الطور التجريبي الذي سارت فيه متعثرة متلكئة مدة ربع قرن، إلى الدور الإنشائي الإيجابي الصحيح المثمر المستند إلى حقائق التاريخ والواقع والمنطق، والذي يمكن أن تقبله عقول الأجانب ويستقر في أعماق نفوسهم ويشعرون معه بالسرور بالتسليم بحق العرب في التضامن والتآزر والتكتل والتعاون، نقول إن هذا الدور الذي يقوم به الرئيس المصري له أثره لا في بلاد العرب فحسب بل في العالم الشرقي بأجمعه. ولمصر الفضل الكبير بالدعوة إلى الوحدة العربية دعوة عملية. وقد نشر النحاس باشا بعمله هذا صفحة جديدة لامعة ستجعل البلاد العربية في وقت قريب بلاداً واحدة تخضع لنظام واحد، وتشريع واحد، وتنسجم فيها المناهج الثقافية، والأساليب الاقتصادية، وقد خلقتها الطبيعة موحدة فيأبى العقل والتفكير أن تكون هذه الحواجز الضيقة الوهمية التي فصلت بين أجزائها

وليس من شك في أن مصر الخالدة ستقود العالم العربي في تطوره السياسي العتيد، خلال المرحلة الجديدة فتسير في طليعة الشعوب العربية وتكون واسطة عقدها، وقطب رحاها، فتؤلف بينها وتقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها في الجامعة العربية، ولا غرو فإن مركز مصر الجغرافي، ومقامها الثقافي والاقتصادي ومكانتها العلمية الممتازة تضمن لها هذا التفوق وهذه الزعامة الصحيحة، فهي من الناحية الواحدة واقعة في وسط بلاد العرب، فالشام والحجاز واليمن والعراق ونحن وجميع هذه الأقطار تقع في شرقي مصر، كما تقع برقة وطرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش في غربها، والسودان يقع في جنوبها؛ وتقوم سواحلها على البحرين الأحمر والأبيض، وللعرب فيهما أوسع المصالح وأكبرها، ثم إن لها مقاماً علمياً وثقافياً وأدبياً لا يجاري ولا ينافس، كل ذلك يجعل مصر زعيمة العرب، فتقود شعوب الشرق العربي إلى المثل العليا

وأجد نفسي قد أطلت القول، لذلك أرى أن خير ما أختم به حديثي اليوم هو أن أنقل إلى القراء خلاصة وجيزة عن مقال لجريدة التيمس الكبرى عن أطوار الوحدة العربية قالت: (إن تجدد المساعي لتحقيق الوحدة العربية بما يجري في هذه الآونة من مباحثات جدية بين حكومات الشرق العربي ليس في الواقع إلا ترديداً لصدى التصريح الذي أدلى به المستر إيدن في (مانشان هاوس) بشهر مايو عام 1941 وقطع فيه عهداً بتأييد أي مشروع يظفر بالاتفاق التام ويرمي إلى تعزيز الروابط الاقتصادية والثقافية والسياسية بين الدول العربية

وليس هنالك ما يحول دون تحقق مشروع الاتحاد العربي إذا استطاع العرب تسوية المسائل التي تعترض سبيلهم، ولاسيما وإن المشروع يتألف من أقطار تجمع بينها روابط تاريخية وجغرافية وجنسية ولغوية، ولم تفقد هذه الأقطار في الماضي روابطها واتصالها برغم الصحاري البعيدة التي تفصل بينها. وقد زاد تقاربها وقويت صلاتها بعد ظهور السيارة، وأصبحت الصحراء كالبحر تجتازها السيارات دون مخاطرة) هذا ما يقوله الأجانب عنا، وسنتحدث في الأسبوع المقبل عن مشاورات الوحدة العربية مع العراق

(دمشق)

نسيب سعيد

المحامي