مجلة الرسالة/العدد 561/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 561/القضايا الكبرى في الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 04 - 1944



قدامة بن مظعون

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

هذه القضية تبين أصلاً مهماً من أصول التشريع، اشتبه أمره على قدامة بن مظعون رضى الله عنه، فأقيم عليه بسبب هذا حد الخمر، وهو صحابي بدري من السابقين إلى الإسلام، وممن حاز شرف الهجرتين، وكان زوج صفية بيت الخطاب أخت عمر رضى الله عنه، وهو خال حفصة وعبد الله ابني عمر، فإذا اشتبه عليه ذلك الأصل التشريعي وهذا أمره فغيره أجدر بذلك الاشتباه، وإذا لم ينجه ذلك الاشتباه من حد الخمر لم ينج أحداً منه ولا من غيره من أنواع الحدود والتعازير

لما ولى عمر الخلافة استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، وكان في قدامه نزعة إلى الشذوذ في الاجتهاد، ومن ذلك أن أخاه عثمان بن مظعون لما توفى أوصى إليه بعد موته، وكان لعثمان بنت من خويلة بنت حكيم، فخطبها إلى قدامة عبد الله ابن عمر بن الخطاب، فأجاب خطبته ورأى أن يزوجها له، ولكن أمها خالفته في ذلك، ودخل عليها المغيرة بن شعبة فأرغبها في المال، فرغبت فيه زوجاً لبنتها، وكان رأي الجارية مع أمها، فبعث النبي إلى قدامة فسأله، فقال: يا رسول الله، هي ابنة أخي ولم آل أن أختار لها. فقال النبي : هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها. تم انتزعها من قدامة وزوجها المغيرة بن شعبة

وقد أوقع قدامة شذوذه في الاجتهاد في مخالفة ظاهرة للشرع، فشرب الخمر بعد استعماله على البحرين، وقد رآه الجارود سيد عبد القيس، فقدم من البحرين على عمر بالمدينة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قدامة شرب فسكر، وإني رأيت حداً من حدود الله حقاً على أن أرفعه إليك. فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال: أبو هريرة. فدعا أبا هريرة وسأله: بم تشهد؟ قال: لم أره شرب، ولكني رأيته سكران يقيئ: فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة. يعني أنه تأنق فيها وأظهر أنه يتحرى الحق، ولكنه أتى في ذلك بضد ما يقصد، لأن رؤيته إياه سكران لا يقطع في إقامة الحد عليه، ولهذا اختلف الأئمة في هذه الشهادة، فذهب بعضهم إلى أن من تقيأ الخمر يحد حد شارب الخمر. وذهب بعضهم إلى أنه لا يحد بذلك، لأنه يجوز أن يكون شربها جاهلاً أنها خمر أو مكرهاً على شربها، إلى غير هذا من الأعذار المسقطة للحدود

وقد رأى عمر مع هذا أن يستقدم قدامة من البحرين، فكتب إليه أن يقدم عليه فقدم، فلم يلبث الجارود أن رآه حتى ذهب إلى عمر فقال له: أقم على هذا كتاب الله. فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد. فقال: قد أديت شهادتك. فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حد الله. فقال عمر: ما أراك إلا خصما، وما شهد معك إلا رجل واحد. فقال الجارود: أنشدك الله. فقال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنّك. فقال الجارود: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني. وقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فاسألها، وهي امرأة قدامة. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها، فأقامت الشهادة على زوجها، وثبت عليه بذلك شرب الخمر، ولا شك أن في موقف عمر مع الجارود أكبر دلالة على أن الغيرة على الدين يجب أن تكون في اعتدال واتزان، ألا يكون معها تحامل ولا شهوة انتقام، فإذا لم تكن الغيرة الدينية بهذا الشكل لم يكن لها قيمة في الدين، واستحق صاحبها أن يردع بما ردع به عمر الجارود. وما أحوج كثيراً ممن يصيحون بالغيرة على الدين في عصرنا إلى من يردعهم ذلك الردع، ليقفوا عند حد الاعتدال في غيرتهم على الدين، ولا يصلوا في ذلك إلى حد التهور الذي يضر الدين ولا ينفعه، ويجعلهم كالصديق الجاهل الذي يضر صديقه من حيث يريد النفع له، وقد آثر القدماء في ذلك العدو على الصديق، وذهبت فيه حكمتهم المشهورة: عدو عاقل خير من صديق جاهل

وإنما سقطت شهادة الجارود بطلبه أقامة الحد بعد تأدية الشهادة، لأن طلب الحكم من حق المدعي لا الشاهد، فإذا طلبه الشاهد بعد تأدية شهادته وأصر عليه كما أصر الجارود بطلت به شهادته، وكان ذلك مما يدعو إلى الشك في أمره

ولكن ذلك التأويل الخاطئ إذا لم ينفع قدامة في إسقاط الحد عنه، فإنه لم يتخذ وسيلة للتشهير به وقد أخطأ فيه خطأ ظاهراً، ولم يطعن به أحد عليه في دينه وقد خالف فيه إجماع أهل عصره. وما كان لمثله أن يخفى عليه ذلك النص المحكم في تحريم الخمر، بل بقى له دينه صحيح الأديم، وبقى له شرف هجرته وبدريته وسبقه إلى الإسلام. وقد غاضب عمر لأنه أقام الحد عليه ولم يسقطه عنه، وهجره إلى أن أتى موسم الحج فحج عمر وحج قدامة وهو مغاضب له، فلما قفلا من حجهما ونزل عمر بالسقيا نام، فلما استيقظ من نومه قال: عجلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آت في منامي فقال لي سالم قدامة فإنه أخوك، فعجلوا علىّ به. فلما أتوه أبى أن يأتي، فأمر به عمر إن أبى أن يجروه إليه، فكلمه واستغفر له

فرحم الله ذلك السلف الصالح الذي كان يزن أموره بالحكمة ولا يأخذ فيها بتفريط أو إفراط، فيأخذ قدامة بالحد الذي يستحقه من غير تفريط، ولا يضيق صدره بتأويله الخاطئ الذي خالف الإجماع، وأنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، لأنه لم يكن في ذلك سيئ القصد، ولم يقصد به إلى عناد أو كفر. وإنه ليجب الأخذ بالتسامح في خطأ الرأي وإن وصل إلى ذلك الحد، لأن الخطأ من طبيعة الإنسان، وما من أحد وأن علا قدره إلا وهو عرضة لأن يقع في مثل ذلك الخطأ الظاهر، فلو ضيقنا الأمر في خطأ الرأي ولم نتسامح مع من يصل فيه إلى ذلك الحد لتهيبه كل من هو أهل له، وآثر عليه السلامة لدينه وعرضه، فيسود الجمود بين الناس، ويحرم الأمة من الآراء النافعة لأصحاب الرأي فيها

فليتعظ بهذا الذين أصبحوا حرباً على أصحاب الرأي في عصرنا وضاقت صدورهم بكل جديد ولو كان صواباً، وليس لهم سند في ذلك إلا الصخب واستفزاز العامة باسم الدين، والسعي في إيذاء أصحاب الآراء في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ولم يجن المسلمون من صخبهم إلا ذلك الجمود الذي خيم على الأفكار، ووقف عقبة في سبيل الإصلاح، فتقدمت الأمم وتأخرنا، وضعف الدين وفشا الإلحاد في بلادنا، وقد استعصى الداء، وعز العلاج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عبد المتعال الصعيدي