مجلة الرسالة/العدد 563/الميل إلى الهدم

مجلة الرسالة/العدد 563/الميل إلى الهدم

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 04 - 1944



وصراع الديكة بين الأدباء والفنانين

للأستاذ دريني خشبة

يحيا الأدباء والنقاد ورجال الفكر والموسيقيون وسائر الفنانين في مصر كما تحيا الديكة. . . يعدو بعضها على بعض، ويحاول أحدها أن يمزق جلد الآخر إن لم يستطع أن يقتله. . . والناس مغرمون بهذا بالرغم مما ينطوي عليه من شر، وما يفسر ما في غرائزنا من نقص، بل نكسة إلى الحيوانية. . . فهم يقفون ليلتذوا صراع الديكة التي يدمى بعضها بعضاً، وكلما ازداد هذا الإدماء ازداد التذاذ المتفرجين على حساب الآلام القتالة التي يألمها الطائر المسكين، وقل في الناس من يحمل قلباً يأنف أن يلتذ آلام الغير

ويلذ الناس في مصر أن يشهدوا هذا الضرب من صراع الديكة بين الكتاب والنقاد ورجال الفكر والموسيقيين وأبطال المسرح وسائر الفنانين. . . ثم بين المشتغلين بسياسة البلد العليا من رجال الأحزاب بوجه خاص. على إنه إن جاز شيء من صراع الديكة بين رجال الأحزاب السياسية، فلست أدري لماذا يشتد هذا النوع من الصراع بين رجال الفكر والفنون؟ هل قال أحد إن الحكومة ستنشئ وزارة للأدب، فالأدباء يصطرعون عليها؟ أم زعم زاعم أن الدولة سوف تنشئ للنقد المناصب العوالي فالنقاد يستعدون ويستعدون ويشرعون الأسنة والرماح؟

1 - كتبت مرة كلاماً في المسرح المصري أدعو فيه إلى الوحدة والتعاون من أجل الخير العام، ثم جعلت أشيد بالجهود الكبيرة التي بذلها فلان وفلان من أبطالنا المسرحين، فما أصبحت حتى زارني بعض رجال أحد المعسكرات المسرحية، ثم شرعوا يعاتبونني معاتبة شديدة لأني عددت هؤلاء الأبطال المسرحيين أبطالاً حقيقيين جديرين بأن تذكر أسماؤهم في صفحات الرسالة، بله أن يشاد بجهودهم فيها؟!. . . ولقد كانوا يتدفقون حماسة وهم يقذفون في وجهي بهذا العتب، حتى كددت أركن إليهم شيئاً قليلاً لو لم يعجلوا بالانصراف. فلما انصرفوا، لم يزد دهشي إلا إقبال نفر من المعسكر المسرحي الآخر، جاءوا للسبب نفسه الذي جاء من أجله إخوانهم السابقون! وبالطبع لم يكن قدح هؤلاء في أولئك أهون من قدح أولئك في هؤلاء! وبالطبع، كدت أركن إلى هؤلاء كما أوشكت أن أركن إلى أولئك. .

وقلت في نفسي: هذا سبب أليم من أسباب انحطاط المسرح المصري!

2 - وكتبت مرة كلاماً أدافع به عن الموسيقيين المصريين مما رماهم به الأستاذ توفيق الحكيم من جمود وعقم، ثم ذكرت بعض أسماء هؤلاء الموسيقيين، ولاحظت أن تمثل هذه الأسماء المدارس أو المذاهب الموسيقية المختلفة في مصر. . . فما أصبحت حتى زارني بعض الأساتذة الأفاضل المشتغلين بالموسيقا ليخبرني أنه يوشك أن يغير رأيه في، لأني أعد فلاناً وفلاناً وفلاناً من الموسيقيين أو الذين يعرفون شيئاً في الموسيقاً؟!. . . ثم انطلق، حفظه الله، يبرهن لي على جهل هؤلاء الزملاء، إن صح أن يتشرفوا بزمالة الأستاذ العظيم، ثم انتهى إلى التصريح بأن الذين ذكرت هم سبب نكبة الموسيقا المصرية، وأن فلاناً هذا صفته كيت، وأن فلاناً ذاك نعته كيت وكيت، وأن فلاناً الثالث دعي ولا وزن له ولا. . . ولا. . . وقد كدت أيضاً أن أركن إلى الأستاذ المتحمس شيئاً قليلاً أو شيئاً كثيراً. وذهبت في المساء إلى بعض من ذكرت في كلامي الذي أثار صاحبي، وانطلقت أعدد له الكثير من المآخذ التي حفظتها من أحد؛ لكنه ابتسم ابتسامة عريضة هادئة، ثم قال: كلا يا صديقي، عهدي بك جاهلاً بالموسيقى من حيث هي فن وعلم وتطبيق؛ ولكنه كلام أحد غيرك قذفه في أذنيك فأتيت تغيظنا به. . . فمن ذا الذي زارك اليوم؟ واعترفت له أن كلاماً ألقى في أذني عن الموسيقا وأنني ربما لم أفهمه. فلما ضاق بي لأنني لم أبح له باسم الصديق الكريم، انطلق يسفه آراء القائلين بإلغاء الموسيقا الشرقية جملة، وإحلال الموسيقا الغربية محلها، ثم انتقل من التسفيه إلى التجهيل، ومن التجهيل إلى السب. . . يوجهه إلى أسماء بعينها. كان ظريفاً أن يحي اسم الصديق الجليل بينها، وأن يناله من غضبة الموسيقى المنفعل قدراً طيباً

فعجب في نفسي وقلت: وهذا أيضاً سبب أليم من أسباب انحطاط موسيقانا!

3 - ويؤلف السادة من رجال الفكر فينا كتباً قيمة يسدون بها في المكتبة العربية أركاناً خاوية في كل علم وفن وأدب، وهي كتب ثمينة قضى في تأليفها هؤلاء السادة الكتاب أخصب ما ينفق المؤلفون من أعمارهم. . . فهم مؤرقون والناس نيام؛ يحبسون أنفسهم في مكتباتهم أو في دور الكتب يبحثون ويقرئون ويكتبون وينفقون المال والجهد في سبيل حقيقة علمية أو طرفة أدبية؛ بينما الناس يملأون الحدائق ودور اللهو البريء وغير البريء، حتى إذا صدرت مؤلفاتهم تلقفها السادة النقاد أو بعض السادة النقاد، وأقبلوا عليها، كما يقبل الغريم على غريمه، واقتعدوا منها مقاعد الأستاذية والمعرفة المتبججة التي تدعى علم كل شيء والإحاطة بكل شيء، حتى إذا تصفحوها عجلين شمروا عن سواعدهم المفتولة، وشرعوا أقلامهم المسنونة، ثم أخذوا في الحط من أقدار المؤلفين والتأليف، وبكوا أو تباكوا على هذا الزمن اليائس التعس الذي رخصت فيه أقدار العلم، وهانت منازل الأدب. وذهبوا في المبالغة إلى حد أن يتمنوا إن لم يكونوا قد شهدوا هذا الزمان العابث الذي يجسر فيه سادتنا الكتاب المؤلفون على إصدار ثمار قرائحهم، غير عاملين حساباً لهؤلاء السادة النقاد المحترمين. وقد شهدنا في الشهرين المنصرمين غير مأساة من مآسي النقد، اضطر فيها المؤلفون إلى صراع الديكة إزاء النقاد الجائرين الذين جعلوا وكدهم كشف العورات وغض النظر عن الحسنات

ولا شك أن هذا السلوك من النقاد سبب أليم في تأخر فن النقد في مصر

4 - وأطلعني الأستاذ صاحب (الرسالة) على كتب يحملها إليه البريد من مصر ومن الشرق العربي فيها قدح شديد في بعض كتاب هذه المجلة - والله المحمود على أن كان نصيبي من هذا نصيباً طيباً - وقد هالني ما تناول به أحد القراء أحدنا نحن الكتاب المظلومين من ثلب وانتقاص وتجريح، لأنه غفل عن محاربة كذا وكذا من أفكار المؤلفين الغربيين التي يبشرون بها في كتب وضيعة تقدح في الشرق وفي أديان وعادات الشرق، ثم ذكر حضرة القارئ المتحمس طائفة من أسماء هذه الكتب، وأخذ على الكاتب المسكين عدم اطلاعه عليها. . . كأنما يظن أن لنا وكالات لتسقط أخبار هذه الكتب في البلاد الأوربية فهي تصلنا بانتظام لكنا كسالى أو سيئو النية لأننا نعلم ما في هذه الكتب ولا نأخذ أصحابها بالرد العنيف الذي يؤدبهم ويردهم إلى محجة الصواب

ألا ما أظلم الكثيرين من القراء! حقاً إن القراءة فن لا يحسنه إلا الأقلون!

5 - وخامسة الأثافي، أو داهية الدواهي، ما وقعت فيه من أسبوعين من الخطأ الشنيع. . . فقد ذكرت في كلمتي إلى أستاذنا الجليل (ا. ع) طائفة غير قليلة من الشعراء الشباب في مصر على أنهم بعض من يمثل شعرنا الحديث، وكان هذا الخطأ سبباً في إثارة بعض هؤلاء الشعراء الشباب أنفسهم، فقد ساءهم أن تحشر أسماؤهم على هذا النحو الزرى في ذاك الثبت الطويل من أسماء الشعراء

وما زالت عند رأيي من استجادة شعر هؤلاء الشباب، وربنا كنت أعرف بهم من حضرات زملائهم الناقمين، لأن كثيرين منهم يتفضلون على فيرسلون إلى طرفاً رفيعة من أشعارهم تدل على ما سيكون لهم من أثر في الأدب المصري عامة والشعر المصري الحديث على وجه التخصيص. . . ولكن المضحك في هذا الأمر غلو بعض من نقموا مني ذكر أسمائهم في ثبت الشعراء هؤلاء! لقد أقبل أحدهم ثائراً كالعاصفة و (نكش) شعر رأسه (نكشة) أفزعتني، ولست أقول إلا الحق! ثم راح يتهمني بأنني أناقض نفسي حين أعلن استجادتي لشعر هؤلاء (ال. . .) - على قرب عهدي بالدعوة إلى تجديد الشعر العربي، وما أطلت في الكتابة عن وجوه هذا التجديد

فانظر أيها القارئ كيف انصرف هؤلاء الشعراء الشباب الأفاضل عن أستاذنا الجليل (ا. ع) الذي شوى جلودهم فلم ينبس منهم أحد بحرف، إلى هذا القلم الضعيف الذي شرع نفسه للدفاع عنهم فرفضوا هذا الدفاع أو جحدوه لأنه أخطأ فذكر أسماءهم بين أسماء متواضعة، غير لامعة. . .

والظريف أن الذين أنكر عليهم صديقي (العاصفة) شاعريتهم كانوا شعراء من الطبقة الأولى عند صديق آخر سعى إلى ليعلن احتجاجه للسبب نفسه. . . وقد حرت والله في أمر هؤلاء الشعراء الشباب، كما حرت من قبل في أمر المسرحين والموسيقيين والفنانين والكتاب والنقاد والقراء. . . وأخشى أن أحار أخيراً في أمر نفسي. . .

يا رجال الفكر والفنون في مصر، بعض هذا الهدم، ولا تكونوا: كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله!

دريني خشبة