مجلة الرسالة/العدد 568/على هامش النقد

مجلة الرسالة/العدد 568/على هامش النقد

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 05 - 1944



من الشعر الجديد

للأستاذ محمد محمود رضوان

يأبى شعراء الشباب الذين يحمل عليهم الأستاذ الكبير (ا. ع)، ويأبى الذي ينافحون عنهم من الشيوخ أن يقروا هذه الحملة إلا أن تكون مدعومة بأمثلة من هذا الشعر توضح نهجه وتكشف عواره إن كان فيه عوار

والأستاذ (أ. ع) يأبى ذلك ولا يرضاه، ولعل عذره أنه لا يهاجم أشخاصاً، بل يريد إصلاحاً فما به من حاجة إلى إثارة شاعر بعينه أو تجريحه

وللأستاذ في ذلك رأيه، ولكن هاهو ذا شاعر من شعراء الشباب يقدم نفسه، ويعرض على الأستاذ الكبير قصيدة من شعره - لعلها من أحسن بضاعته - ثم يسأله رأيه في هذا الطراز من شعر الشباب

وما على الأستاذ الكبير لو أجابه؟ إنه لم يفعل. حينئذ رأيت - وأنا ممن يضيقون بهذا الشعر الجديد - أن أكفيه الجواب، وأتولى عنه بعض ما أشركه فيه من رأي في هذا الشعر

أما هذه القصيدة فهي (أين الطريق)، وصاحبها هو الشاعر الشاب الأستاذ علي شرف الدين

- 1 -

وقبل أن نناقش القصيدة يجدر بنا أن نتساءل، أهي من الشعر الجديد حقاً حتى يمكن أن نتخذها أنموذجا ننتهي من دراسته إلى الحكم لهذا الشعر أو عليه؟ أو بعبارة أخرى هل يرضى شعراء الشباب الذين يحوم حولهم النقاش أن تمثل هذه القصيدة مذهبهم الجديد؟

أما أنا فأرى أنها جمعت القديم والجديد معاً. أخذت من القديم شيئاً ومن الجديد أشياء، هي من القديم في وحدة موضوعها، ومن النادر أن ترى قصيدة في هذا الشعر الجديد تدور حول موضوع مؤتلف تتسلسل أفكارها وتتواكب معانيها لبلوغ هدف واحد، بل إنك ترى القصيدة - من هذا الشعر - فجوات لا اتساق بينها، يطرق الشاعر معنى ثم يوغل فيه بأنماط من التشبيهات والاستعارات المعتسفة والأخيلة البعيدة حتى لتخرج منه بفكرة مشوهة غير محدودة، ثم ينتقل بك إلى آخر لا يمت إلى سابقه بوشيجة وهكذا دواليك، حت تنتهي من القصيدة، التي قد تبلغ المائة من الأبيات - وما ظفرت منها بهدف أو عرفت بين أفكارها نسباً

أما قصيدتنا فهي إلى القديم أقرب من هذه الناحية، تفهم من عنوانها (أين الطريق) ما في نفس الشاعر من حيرة. يبدؤها بيأس من الحياة جره عليه احترافه الأدب، ثم يمضي في وصف هذا اليأس وكيف أدرك قيمة الحياة فنفض منها كفه ومات شعوره فما يحس فرحا أو حزناً، ثم يخاطب أمه وأباه فيشكو إليهما أساه وحاله اليائسة، ويتساءل أذلك من غضبهما عليه أم لكثرة ذنوبه؟ ويذكره ذلك بأيام الصبا في كنفهما فيتحسر على تلك الأيام الذواهب، كما كان يتحسر عليها الأقدمون من الشعراء، ثم يذكر همته التي طمحت إلى المجد فكبا دونه سالكا في ذلك سبيل الاستعارة، فإذا المجد جبل مرهوب المغاور أملى الشباب عليه أن يرقاه ولا زاد له إلا الأعصاب والفصحى فتمزقت كفه ودميت قدماه، ولكن لا عجب فقد تكشفت له محنة الأكفياء ونكبة الأدباء في هذا البلد العجيب

- 2 -

ولو أنك نظرت إلى هذه المعاني التي طرقها الشاعر لم تجد فيها شيئاً جديداً يمكن أن نعده من سمات الشعر الجديد إلا انتحاءها ناحية اليأس المرير يطالعك في مطلع القصيدة ويصاحبك في كل بيت من أبياتها حتى تأتي على آخرها

عافى الله الأستاذ حبيب الزحلاوي إذ يقول (إن الشعر روح وإن الحياة الشعرية التي لا تفيض بالنعمة ولا تشيع السرور بالنفس والفرحة بالوجود ليست بحياة)

وأي أمل نرجوه في شعر يدعو إلى اليأس ويثبط الهمة ويجعل الدنيا ليلاً حالكا

لم يبلغ الأمل البعيد ... فمال لليأس القريب

أصبحت رسماً حافلاً ... باليأس والصمت الرهيب

هذه النغاصة التي تفيض على القصيدة من أولها إلى آخرها هي من أبرز سمات الشعر الجديد. كأن الشاعر لا يعرف قدره إلا أن شاع في شعره اليأس والحزن والأسى

نعم. . . لقد ردد القدماء بؤس الأديب وشقاء من أدركته (حرفة الأدب) ورأينا هذا المعنى كثيراً في شعر الخريمي وأبي تمام وأبي العلاء ولكننا لم نر منهم شاعراً يناقض شعره حياته ويقول غير ما يحس، لم نر منهم من كان في حياته راضياً وفي شعره ساخطاً كما نرى في هذه الأيام. بل رأينا من كان في حياته وشعره راضياً كأبي نواس، أو فيهما ساخطاً كأبي العلاء. أما التلفيق بين رضا الحياة وسخط الشعر فبدع لم نره إلا عند سادتنا شعراء هذا الزمان

إنك لترى الشاعر في أيامنا هذه وحياته كلها مرح ولهو ومجون وانبساط، فإذا أمسك القلم لينظم رأيت الدموع والحسرات واليأس المر كأنه لا يكون شاعراً إلا إذا ركب زورقاً من الأحزان في بحر من العبرات

إن شاعراً كعبد الحميد الديب - رحمه الله - إذا شدا في شعره بالبؤس والشقاء فلا بدع، لأنه كان بائساً شقياً فهو يصور حاله التي يعانيها، ويصف حياته التي يقاسيها - وهذه هي مهمة الأدب

أما شاعر كطاهر أبو فاشا - وهو معروف بمرحه ولهوه وازدحام حياته بأساليب المزح والدعابة - فلن نقبل منه هذا الشعر القاتم الحزين الذي تلمحه حتى في عنوان ديوانه (الأشواك) فتحس منه الوخز وتلمس الدماء. . . وما أحسب هذا الشعر إلا أثراً من آثار التقليد بين شعرائنا المحدثين من الشبان. سرى فيهم فسموا دواوينهم (ألحان الألم) و (الدماء) وغير ذلك من الأسماء

نعود إلى قصيدتنا فنقول إنها خالفت الشعر الجديد أيضاً في وضوحها. فليس فيها فكرة غامضة كهذه الأفكار التي يكتظ بها هذا الشعر، وعجيب من الأستاذ البشبيشي أن يضع هذا الغموض بجانب ما في شعر أبي تمام والمتنبي والمعري وابن هاني وشوقي والزهاوي من عقد في الخيال حيرت الباحثين أزماناً

شتان يا سيدي ما بين غموض منشؤه عمق الفكرة ودقة التصور، وغموض منشؤه خطأ الفكرة وفسادها. هذا غامض لأنه يحتمل كيت وكيت من أوجه التأويل والتخريج وكلها صائب. أو لأنه عميق بعيد الغور حتى إذا كشفت عن معناه وأسفر لك وجهه هششت له وانشرح صدرك

أما ذاك فغامض، لأنه لم يبن على أساس من الفكر الصحيح فهيهات أن ينكشف لك فيه وجه - لنه لا وجه له - إلا مع تعسف لا يحتمله اللفظ ولا تطيقه العبارة

هل قرأ أستاذي البشبيشي بيت أبي تمام في الخمر: جهمية الألفاظ إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء

وهل الفكر أي مذاهب يريد؟ وهل قرر ما يحتمله البيت من تأويل وتخريج؟ وهل تذوق النشوة التي يتذوقها من يتكشف له وجه يرضيه من قصد أبي تمام بهذا البيت؟

وهل قرأ قوله:

هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزماً فقدما أدرك النجح طالبه

وفكر في هذا الغموض ما مصدره؟ وهل بنى على أساس صحيح أم فاسد؟

ومع هذا فإن أبا تمام لم يسلم من الملامة بسبب هذا الغموض الذي له وجه، فكيف تريدنا على أن نرضى من شعرائنا الجدد غموضاً ما له وجه؟ بل ولا عين!

(البقية في العدد القادم)

محمد محمود رضوان