مجلة الرسالة/العدد 568/في دنيا الأحلام

مجلة الرسالة/العدد 568/في دنيا الأحلام

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 05 - 1944



للأستاذ توفيق حسن الشرتوني

لا أمن بالأحلام ولا أعيرها اهتماماً جدياً، لأني أعتبر أكثرها ناتجاً عن عوامل الغريزة المكبوتة والعقل الباطن، غير أني أقف حائراً أمام بعض الأحلام التي حلمتها وأصبحت بعد قليل حقيقة راهنة لا أحلاماً طارئة لا تتجاوز مخيلة النائم ولا تعدو فراشه

وكم تساءلت: أهي المصادفة تقضي بصحة بعض الأحلام أم هو الإلهام؟ ولكن ما هي المصادفة وما هو الإلهام؟ وكيف أعلل حدوثهما؟ لا أدري

وكل ما أدري أنني رأيت أربعة أحلام صح ثلاثة منها والرابع ما يزال غامضاً؛ وأرجح أنه سيظل غامضاً إلى ما شاء الله

حلمت وأنا في عهد التلمذة أن المفتاح الذي كنت قد أضعته وكان يهمني أمره كثيراً مطمور في التراب قرب شجرة قديمة العهد في قلب الملعب الشرقي في مدرسة الحكمة. وكنت قد فتشت عنه في كل مكان هناك دون جدوى، ثم وجدته في المكان نفسه الذي هداني إليه الحلم

أما الحلم الثاني فهو: كنت ذات ليلة جالساً في داري أطالع إحدى الصحف اليومية فجاءني ولد لا يتجاوز الثالثة من عمره وضرب الجريدة التي في يدي وطرحها أرضاً. ثم أخذ يداعبني مقهقهاً ويلاعبني راكضاً من كرسي إلى كرسي، ومن ناحية إلى ناحية. والغريب في الأمر أنني حلمت أن هذا الولد هو ولدي مع أني ما كنت أباً في ذلك الحين ولا متزوجاً

وبعد سنوات صح هذا الحلم بحذافيره، إذ كنت صباح يوم جالساً في المكان نفسه أطالع بعض الجرائد، فخرج ولدي من غرفته وهو دون الثالثة من عمره وتقدم نحوي وضرب الجريدة وأوقعها من يدي. ثم شرع يلاعبني ويركض مقهقهاً من مكان إلى مكان. وكان في لباسه وكامل هيئته يشبه تمام الشبه الولد الذي عاينته في الحلم

أليس من الغريب المدهش أن يشاهد المرء ولده في الحلم قبل مجيئه إلى العالم؟ أإتفاقاً كان ذلك أم وحياً أم ماذا؟

أما الحلم الثالث فهو: حلمت منذ أعوام أن أحد الأنسباء وهو شاب في ريق العمر ونشاطه قد قضى نحبه في أحد المستشفيات؛ وبعد أيام قليلة جاءني رسول يبلغني خبر وفاته المستشفى نفسه الذي حلمته ممدداً فيه على فراش الموت

وأغرب من ذلك أن الشاب كان يتمتع بصحة يحسد عليها فلم يدر بخلدي أدني خوف على حياته. ولم يكن لدي من داع لحدوث هذا الحلم الذي أوحى إلي بموته

أنا لا أدعي معرفة الغيب ولا ما يخبئه المستقبل في طياته، ولست من مدعي النبوة، أنا رجل من طلاب الأدب والعلم لا من طلاب المعجزات والخوارق. لكني لا أنكر وجود قوة في الإنسان تستبق معرفة الحوادث. هذه القوة ما تزال مستترة على العلم لم يسبر غورها بعد ولم يتح له تحديدها

فكم مرة يفكر المرء في أحد أصدقائه ولا يلبث حتى يراهم أمامه. وكم مرة يتخيل أمراً فيتحقق لساعته، وقد قيل: (اذكر الذيب، وهيئ له القضيب)

أما الحلم الرابع فهو على جانب عظيم من الغرابة، لا يمت بصلة إلى الشهوات المكبوتة التي يقال إنها تستيقظ في العقل الباطن في خلال النوم، ولا يتعلق أيضاً بموت أو ولادة أو كسب أو خسارة أو ما شاكل ذلك مما يكثر حدوثه بين الأحياء فيعلق بمخيلاتهم ويشغل أذهانهم، فيأتيهم في الحلم

لا أزال أذكر أنني ليلة الحلم أويت إلى مخدعي قبيل منتصف الليل، وبقيت أتقلب على فراشي إلى ما بعد الساعة الثانية دون أن يغمض لي جفن من تكاثر قصف الرعود وتواصل هدير الزوابع والأمطار، لأن الليلة كانت هائلة من أروع ليالي الشتاء برقاً ورعداً ومن أشدها برداً وزمهريراً

لم يتملكني النعاس إلا في الهزيع الأخير من الليل ولم أكد أستسلم إلى سلطان الكرى حتى نزل علي هذا الحلم، فشعرت ساعة نزوله كأنني لست بالنائم ولا بالمستيقظ بل بينهما، وما بينهما سوى عالم الرؤى - عالم الأنبياء والأولياء - ولا شأن لي في هذا العالم

فحلمت أن صديقاً لي توفاه الله منذ عدة سنوات هبط مخدعي وانتصب أمامي قائلاً: أنتم معاشر الأحياء تعتقدون أن المرء الذي تغادره الحياة تغادره المعرفة ويبرحه الشعور، فتنقطع كل صلة له بكم وبعالمكم، فيعود لا يدري ما يحدث بأوساطكم ولا يشعر بأعمالكم ولا بسرائكم وضرائكم؛ وهذا خطأ فاضح، فالميت لا يفقد غير الحركة والنطق اللذين كان بهما يظهر لكم معرفته وشعوره، ولا يعني فقدانهما فقدان المعرفة والشعور، بل فقدان الواسطة التي كان بها يتصل بكم

أجل ليس لدى الأموات ألسنة تتكلم ولا أجسام تتحرك لتعرب لكم عن معرفتها وإدراكها وشعورها بل هم بقوة الحياة الكلية - وقد أصبحوا جزءاً منها - غدوا أقوى منكم معرفة وأسمى إدراكاً وأشد شعوراً

كنت في الحياة الدنيا أعد نفسي ويعدني الناس من فطاحل العلماء، ومن أعاظم الدهاة الذين لا تخفى عليهم خافية، وبعد الموت تبينت جهلي وجهل الناس تقدير إدراكي ومعارفي

فأنا الذي كنت أحسب عالماً لم أكن إلا على يسير من العلم، وأنا الذي كنت أعد مدركاً لم أكن إلا على ذرة من الإدراك لأنني لم أعرف من شجرة الحياة طيلة حياتي إلا قشورها

كنت على جانب عظيم من الجهل لأنني لم أتمكن في الحياة من معرفة أقرب المقربين إلي، الذين كنت أساكنهم أو كانت تربطني بهم صلة من الصلات. أما اليوم فقد حررني الموت من الجهل، فغدت علومكم التي كنت أتبجح بمعرفتها بمثابة ألاعيب صبيانية أمامي، وصارت دنياكم الحافلة بالرموز والأسرار والأحاجي مضيئة عن ظهر قلبي، وبواطنكم المستترة التي لم أدرك كنهها في الحياة أصبحت اليوم واضحة حيال ذهني وضوح شمس الظهيرة

لقد كنت مخدوعاً حقاً في كثير من الأمور. مخدوعاً في معرفتي لنفسي ومعرفتي للناس. فجاءني الموت يعرفني بنفسي مبيناً لي مقدار قصورها وعجزها في المعرفة خلال الحياة. ويعرفني بالناس كماهم لا كما كنت أتوهم معرفتهم. لأنه أظهر لي ما تكنه طبائعهم من خفايا الغرائز والنزعات التي كانت غامضة عليّ كل الغموض

لقد كنت مخدوعاً بالمظاهر الخارجية إلى أقصى حد. فكم رجل كنت أحسبه صديقاً فكان عدواً. وكم إنسان كنت أعده مخلصاً فكان مخاثلاً. وكم رجل دين كنت أعتبره جم الفضائل فكان جم الرذائل. وكم امرأة كنت أعتقد بها الطهر والورع فكانت على غير ذلك

أما الآن فقد تجاوزت عالم الغش والخداع والتمويه إلى عالم الحقائق فأصبحت أرى كل شيء واضحاً جلياً. إني أطل عليكم من كوة هذا العالم - عالم الحياة الكلية وأرقبكم من نوافذها المشعة في دخائل أذهانكم وقلوبكم: وأتفقد أعمالكم وكل ما يصدر عنكم من خير أو شر. وإني لعالم بكل ما تظهرون وما تكتمون ولست وحدي أعلم ذلك بل يعلمه مثلي كل من حرره الموت من قيود دنياكم وأصبح متحداً بالحياة الكلية التي تسبغ عليه نعمة المعرفة الكاملة

فالأموات يرونكم دائماً وأنتم لا تشعرون برؤيتهم إياكم، ويتفقدونكم دائماً وأنتم لا تعلمون بتفقدهم لكم، لأنهم اصبحوا أرقى منكم معرفة وأسمى روحاً وأنفذ بصيرة

فكم من رجال حولي يتطلعون إلى دنياكم ويرقبون فيها أبناءهم وأحفادهم ويرون ما آلوا إليه من الضنك والفقر على الرغم من كثرة ما أورثوهم من مال وعقار. فهم يشاهدون أموالهم التي اكتسبوها بعرق الجبين وادخروها لأبنائهم كيف تتبدد في الحانات والمواخير وأندية الميسر والخلاعة، ويأسفون لضياعها في بؤرة الفساد ويتألمون لأنهم لم يعملوا بها عملاً مفيداً للجنس البشري بدلاً من توريثها لمن لا يستحقها

أما دنياكم هي دنيا الحروب والمطامع - دنيا الرياء والأباطيل - دنيا الأخطاء والفواحش - دنيا الخوف والجهل والضعف. ولهذا نحن نشفق عليكم بالرغم من كثرة شذوذكم وتهربكم على الأخص من معرفة الحقيقة - حقيقة نفوسكم وحقيقة غرائزكم. كأن الحقيقة هي غول دنياكم تخشونها كما تخشون الموت، والحقيقة وحدها هي رجاؤكم العتيد. فخير لكم أن تظهروا على علاتكم بدلاً من أن تتقنعوا بأقنعة الغش وتتستروا بها، فهي لا تستركم عن وجه الحق، فالأقنعة فانية والحقائق باقية.

انتهى الحلم فاستيقظت فور انتهائه وأنا أردد عبارته الأخيرة. فقلت في نفسي هل الأقنعة الفانية هي أجسامنا التي نتعارف بها في هذا الكون، والحقائق الباقية هي جوهر الحياة الذي لا يدركه الفناء. ثم عكفت على نفسي أسألها: كيف جاءني هذا الحلم؟ وهل يحلم المرء بما لا يدركه وما لا يقع تحت حواسه؟

ألا تبلغ المخيلة شأواً لا تبلغه الحواس ولا يصل إليه الإدراك؟ أليس للدين الذي يلقن الإيمان بالحياة الأخرى ضلع أيضاً في هذا الحلم المرتكز على الإقرار الصريح ببقاء الحياة بعد الموت؟

أليس لمعضلات الحياة الدنيا ومشاكلها أو بالأحرى، أليس لتعطشي لمعرفة أسرارها وحل رموزها وأحاجيها يد في إلهام هذا الحلم الذي يعللني بكمال المعرفة بعد الموت ويشبع رغباتي وتمنياتي ولو في العالم الآخر بالوصول إلى ذروة الإدراك: إدراك حقائق الحياة وخفايا الكائنات؟

(بيروت)

توفيق حسن الشرنوتي