مجلة الرسالة/العدد 57/جولة بين أطلال بومبي
مجلة الرسالة/العدد 57/جولة بين أطلال بومبي
للأديب حسين شوقي
كانت بومبي المدينة التي يقصدها سراة روما وعظماؤها للمتعة واللهو، لما توافر فيها من أسباب ذلك، كما يقصد اليوم المترفون من الغربيين ساحل الرفييرا الساحر. . .
وقد يرى المتجول بين أطلال بومبي آثار الطريق التي كانت تصل روما - حاضرة الدولة الرومانية العظيمة - ببومبي. . .
وبومبي اليوم تبعد كيلو مترات قليلة عن البحر، أما في زمانها الغابر فقد كانت تشرف على البحر، كما كانت ترسى في مينائها يخوت أقيال الرومان الأنيقة.
وبومبي التي لم يزد عدد سكانها على خمسة وعشرين ألف نسمة، كان فيها من المسارح والحانات والحمامات العامة وأماكن المصارعة ما يجذب النفس ويستهوي الفؤاد. . .
وكل ذلك باق أكثره على رغم الزلزالين الكبيرين اللذين منيت بهما بومبي من عشرين قرنا خلت. . .
وما اجمل الدور التي شيدها سراة روما في بومبي ليخلوا إليها في أوقات فراغهم للهو اللعب، وقد حليت أرضها وسماؤها بالفسيفساء الملون الرائع، وبالصور الزيتية الجميلة، المنقولة عن الاساطير، وقد شيد أكثر هذه الدور على طراز خليط من الطرازين الروماني والإغريقي. . . لأن الرومان اعجبوا بالحضارة اليونانية، فنقلوا منها إلى بلادهم فنونها، وآدابها، وديانتها. .! وقد بلغ إعجاب القيصر نيرون بالإغريق انه تعلم لغتهم فأتقنها، وكان يشجيه أن يغني بها، وقد وهب صوتاً رخيماً. . .
وقد شيدت هذه الدور على النظام الآتي: باب ضخم على الشارع، يلج منه الزائر إلى دهليز ضيق يوصل إلى فناء فسيح ليس له سقف، سوى سماء نابولي الصافية الزرقاء، وقد زين هذا الفناء بالأزهار النادرة، كما حلى بالتماثيل المرمرية الجملية التي تمثل الآلهة، وبعض هذه التماثيل لا يزال قائما في مكانه وبعضه هدمته الزلازل، والبعض الآخر نقل إلى متحف نابولي. . .
وفي وسط هذا الفناء تقوم نافورة من المرمر، يتفجر منها الماء عذبا سلسالا. . .
وحول جنبات هذا الفناء بنيت حجر الدار، وقد بلغت عناية القوم بأولادهم انهم أنشئوا له حجرا خاصة زينوا جدرانها بالصور الزيتية الفكاهية التي تلائم مزاج الأطفال. . .
كما أن بومبي كانت لها معابد فخمة صدعتها الزلازل فأودت بمعظم عمدانها الكورنتية الأنيقة. . . وقد شيدها القوم زلفى للآلهة حتى يغمضوا أعينهم عما يقترفونه من كبار الآثام الخلقية بين جدران هذه المدينة المتهتكة. . .
كذلك الآلهة المصرية ايزيس، التي ذاع صيتها في العالم القديم وعظم شأنها، لها معبد خاص في بومبي، وقد عبدها الرومان في صورة سيدة رومانية!
وقد شاهدت تمثالها في متحف نابولي. . .
وهناك حي للمتبذلات كن يقبلن من أهل المرح وعودهم بان يدفعوا شيئا. . . وشاهدت في إحدى الحجرات اسما منقوشا على الحائط يتعهد صاحبه بان يدفع الإتاوة في الزيارة المقبلة!
وشوارع بومبي مرصوفة مرصعة بالحجر، وقد وضعوا في مفترقاتها أحجاراً بعلو الأرصفة، ليعبر عنها المارة من الشعب في الأيام الممطرة، أما المترفون فكانوا يسيرون في عربات محمولة على أكتاف عبيدهم. . .
ولكن يلوح لي أن أهالي بومبي قد بالغوا في الاستهتار واقتراف الرذائل، حتى اغضبوا الآلهة عليهم برغم ما شيدوه لهم (رشوة) من معابد، فسلطوا على المدينة جارها الرهيب بركان فيزوف فزلزل أرجاءها، وأخذ يرميها بشواظ من النار السائلة والدخان الكبريتي الخانق، حتى تصدعت قصورها ودورها، وهلك معظم أهلها، وقد رأيت على عتبة إحدى تلك الدور أسرة قد أدركتها القارعة وهي على أهبة الفرار فتحجرت جثثها، وكانوا في فرارهم يحملون حليهم، ففنوا وبقيت هذه الحلي إلى اليوم معروضة في متحف نابولي، شاهدة على حرص الإنسان حتى وهو ملاق حتفه!
أي بومبي! أيتها المدينة الساحرة كنت هوة الأخلاق وبؤرة الرذيلة، فضربتك الآلهة، فأصبحت اليوم مثلا خالدا على الدهر جزاء فجورك، وما انبث في كل شق من شقوقك من دعارة وفساد. . .
أي بومبي! أيتها المدينة الفاتنة، لقد كان ما حل بك من عقاب عدلا، حتى لتجزع الطير من ان تحوم بين أسوارك رهبة وذعرا، على رغم مضى عشرين قرنا على نكبتك! أي بومبي! أيتها المدينة الخالدة! لا تجزعي على ما أصابك فالدنيا دول، فكم من مدن كانت اعظم منك شأنا، وارفع بنيانا اندثرت كان لم تكن، حتى أن بعضها تلاشى فلا يعرف الآن مكانه. . .!
حسين شوقي