مجلة الرسالة/العدد 570/مصر الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 570/مصر الإسلامية
للدكتور محمد مندور
ليس من شك في أن الحضارة المصرية القديمة قد خلفت رواسب بعقليتنا الراهنة، ولكننا نتركها الآن ما دام مظهرها العام اليوم أننا أمة عربية، ونقف عند مصر الإسلامية، ونعني بها تاريخياً مصر منذ الفتح العربي إلى الحملة الفرنسية، ولهذه الفترة أهميتها في كل محاولة جادة لإدراك مقومات حياتنا الثقافية، وذلك لأن دراستها ستنتهي بنا إلى حقيقة كبيرة، هي أن مصر المعاصرة ليست استمراراً لمصر الإسلامية. وبيان ذلك هو أن الحضارة العربية والثقافة العربية لم يطرد تقدمهما ببلادنا ولا اطرد جانب الخلق فيهما، بل غلبت عليهما المحاكاة والصنعة بدلاً من الإبداع والأصالة، حتى أنه عند بدء الحملة الفرنسية نستطيع أن نقول إن مصر الإسلامية كانت تحتضر في معظم نواحي نشاطها الروحي بل والمادي. ولم يكن بد عندئذ إذا أريد لبلادنا أن تنهض من أن تقوم نهضتها على أساسين جديدين: هما بعث التراث العربي القديم الذي خلفه صدر الإسلام ببلاد الشرق العربي من جهة، والأخذ عن الحضارة الأوربية مباشرة أو عن طريق الترجمة من جهة أخرى
وظاهرة اضمحلال الثقافة العربية بمصر في تلك الفترة من الظواهر التاريخية الكبيرة التي تستحق الدرس. ونحن لا نريد اليوم أن نقف عند تقلب الحكم ببلادنا بين العباسيين والطولونيين، والأخشيديين والفاطميين، والأيوبيين والمماليك، والأتراك العمثانيين وما كان في عهد كل منهم من ضعف بلادنا السياسي أو قوتها، وتأثير ذلك في حياتها الروحية، وإنما نريد أن نفسر الظاهرة على أساس ثقافي بحت
والذي يبدو لنا هو أن هذا التفسير لا يمكن أن يستقيم إلا إذا حددنا العلاقة بين الثقافة العربية في مصر والثقافة العربية في جزيرة العرب والعراق والشام حيث نبتت تلك الثقافة
وثمة حقيقة عامة في تاريخ الثقافة العربية لها نظائرها في تاريخ الثقافات الأخرى القديمة، وهي أن تلك الثقافة قلما ازدهرت إلا حيث توجد السلطة السياسية ويوجد الأمراء الذين يرعون تلك الثقافة
ومصر في عهدها الأول بالحكم العربي لم تكن منفصلة عن الخلافة لا في عهد ع وعثمان وعلي، ولا في عهد الأمويين أو العباسيين، بل كانت تابعة تبعية محكمة؛ ولهذا لم تقم بها سلطة سياسية مستقلة تستطيع أن ترعى الحياة الأدبية والعقلية ببلادنا وتحوط نفسها برجال الأدب والفكر كما كانت تفعل الخلافة. ومن هنا لم تنشأ ببلادنا بيئة ثقافية قوية كما نشأت ببلاد الشرق. وهناك مثل بسيط ولكنه دال على هذه الحقيقة هو مثل الليث ابن سعد، فقد نبغ هذا العالم الكبير في علوم الدين حتى شهد له الإمام الشافعي بالتفوق على الإمام مالك نفسه، ومع هذا لم يستطيع عالمنا المصري أن يكون مذهباً. ولقد علل الشافعي ذلك بقوله: (إن أصحاب الليث لم يقوموا به) وفي الحق أن التفسير الصحيح هو نشأة الليث بمصر وتبعية مصر عندئذ لبلاد الشرق العربي وعلماء الشرق العربي، وعدم استقلالها سياسياً وروحياً
وفي القرن الثالث الهجري انفصل الطولونيون بمصر، وأخذت بلادنا تستقل بحياتها الروحية، كما استقلت بحياتها السياسية وكان من المنتظر أن تنشأ عندنا حضارة إسلامية لها طابعها الخاص أو على الأقل لها قوتها على الأصالة والخلق. ومع ذلك نستطيع أن نقول بوجه عام إن هذه الظاهرة أيضاً لم تتحقق
والسبب في ذلك هو أن وقت انفصال جاء مع الوقت الذي أخذ فيه الأدب العربي ينقلب انقلاباً خطيراً نحو المحاكاة والصنعة بدلاً من الابتكار والطبع، وجارت مصر هذا التيار العام الذي انتهى بتجفيف ينابيع الخلق الأدبي الأصيل في بلاد الشرق العربي وفي بلادنا على السواء
وانقلاب الأدب العربي نحو المحاكاة والصنعة ابتداء من القرن الثالث الهجري من الظواهر التي أفقرت الأدب العربي، وكان لها في تاريخ الأمم العربية كلها أسوأ الآثار
فالذي نلاحظه هو أنه منذ ذلك التاريخ أخذ علماء اللغة والنقاد ينظرون إلى الأدب الجاهلي والأموي وأدب الصدر الأول من العباسيين نظرة تقديس دفعهم إليها دخول الأعاجم بين العرب وتطرق اللحن إلى اللغة وشعورهم بالحاجة إلى المحافظة على صحة تلك اللغة حتى لا يدب الفساد في لغة القرآن والحديث أو تنحرف مدلولاتها عن وضعها الأول. وطغت نظرة العلماء والنقاد على الأدباء والشعراء فاضطروا أن يحاكوا القدماء لا في اللغة فحسب، بل وفي موضوعات القول وبناء القصائد، وهكذا استقرت ظاهرة المحاكاة حتى أصبح هؤلاء الشعراء وأولئك الأدباء عبيداً للقديم وكأني بهم يرقصون في السلاسل
وإلى جانب هذا التيار العام - تيار محاكاة القديم المسمى في تاريخ الأدب العربي بتيار عمود الشعر - أخذ يظهر تيار آخر معظم رجاله من الشعراء الأعاجم حاولوا أن يجددوا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتحرروا تحرراً تاماً؛ فحافظوا على بناء القصائد كما حافظوا على موضوعات القول ولم يجددوا إلا في الصياغة وكونوا مذهباً هو المعروف بمذهب البديع أي المذهب الجديد. ورأس مذهبهم هو مسلم بن الوليد وبشار وأبو نواس وأخيراً أبو تمام فهو الذي وصل بمذهبهم إلى غايته
مذهب البديع هو مذهب الصنعة. ومن هنا لم يلبث هذا اللفظ أن تطور فأصبح يدل على علم بذاته هو علم المحسنات اللفظية كما فصل موضوعاته أو هلال العسكري في كتابه المعروف (بالصناعتين) صناعة الشعر وصناعة النثر
والصنعة في الشعر والنثر من أخطر الآفات التي تهدد الفكر والإحساس عند التعبير عنهما، حتى لأخالها تعمي الرأي وتذهب بصدق الإحساس، وذلك لأمر بين هو أن الشاعر أو الناثر الصانع المتكلف بفكر ويحس مرتين: مرة ليدرك الإحساس أو الفكرة، ومرة ليحتال عليهما حتى يسكنا إلى اللفظ وفي هذا إفساد لهما
وهكذا ظهرت المحاكاة كما ظهرت الصنعة في الأدب العربي، وصادف ذلك بدء نشوء أدب مصري مستقل، فغلبت المحاكاة وغلبت الصنعة على أدبنا نحن أيضاً كما قلنا؛ واستمرت الأمور تسوء برغم فترات الانتعاش التي اهتزت فيها بلادنا بأحداث ضخام بددت المحاكاة أو مزقت الصنعة لوقت ما كالدعوة العلوية أيام الفاطميين والحروب الصليبية أيام الأيوبيين
وجاء حكم الأتراك العثمانيين بما صحبه من ظلمات ومظالم جففت منابع الحياة الروحية ببلادنا، حتى إننا عند بدء الحملة الفرنسية نبحث عن أدب مصري عربي فلا نجد إلا شعراً متكلفاً سخيفاً أو نثراً مسجوعاً يدعو إلى الضحك، أو كتابة مهلهلة كتاريخ الجبرتي الذي تكاد لغته تمس اللغة العامية
وانتهت الحملة الفرنسية وجلس محمد علي على عرش مصر فأدرك بفطرته السليمة أنه لابد لإنهاض هذه البلاد من أن يقطع التيار؛ فيعود إلى التراث العربي القديم يبعثه، كما يتجه ببعثاته إلى أوربا حيث كانت الحضارة الحقة كما سنرى محمد مندور