مجلة الرسالة/العدد 571/مستقبل القطن المصري
مجلة الرسالة/العدد 571/مستقبل القطن المصري
للأستاذ زكريا بك حجاج
مدير مراقبة القطن ومنع خلطه
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(3) دفاع عن الأقطان ذات التيلة الطويلة
طول التيلة في بعض أنواع أقطاننا ميزة منفردة لا يجوز
إهمالها - مأساة القطن السكلاريدس وملابساتها وكونها
مقصورة على هذا الصنف بالذات وليست تمس كل قطن
طويل التيلة - استنباط أقطان جديدة طويلة التيلة - ميزة هذه
الأصناف - فلنعمم في غير خشية زراعة الأقطان طويلة
التيلة.
ويشترك القطن المصري مع أقطان البلاد الأخرى في بعض الميزات، ولكن له ميزات خاصة أتاحتها له طبيعة مصر، فطول التيلة مثلاً في بعض أنواع أقطاننا ميزة متفردة، وليس من الحصافة الاقتصادية إهمال هذه الميزة، ومحاولة منافسه البلاد الأخرى في إنتاج أقطان قصيرة التيلة، ولا سيما وأن في الوسع - بجهود سنشير إليها - توزيع أقطاننا ذات الميزات المفضلة بشروط مناسبة.
نعم لقد اقترن إنتاج السكلاريدس وهو ممتاز بطول تيلته بتضحيات عظيمة، إذ كان يكلف الفلاح نفقات كبيرة لم يكن يعوضها السعر، لأن إنتاج الفدان منه كان ضئيلاً نسبياً، وتصافي حليجه كان دون المائة
وما منع الناس وقتئذ عن ترك زراعته إلا الأمل في تحسن أسعاره، وعدم وجود أقطان مماثلة تكون أضمن وأكثر ربحاً وفي الثلاث أو الأربع السنوات التالية للحرب الماضية مباشرة استطاع الفلاح بفضل اليسر الذي خلفته سنوات هذه الحرب أن يواجه تلك التضحيات، ولكن لما عاد النقد إلى قاعدة الذهب لم يجد فائضاً يضحي به، فما لبث أن رهن أطيانه
وقد زاد المسألة حرجاً أن غلات الأطيان المرهونة قدرت قيمتها على أساس الأسعار في وقت التضخم النقدي، ولم تقدر بسعرها العادي. هذا إلى توالي النقص فيما ينتجه الفدان من قطن السكلاريدس نتيجة لانحطاط الفصيلة وللتلقيح الطبيعي والخلط الزراعي وقلة التسميد وضعف العناية بالوسائل الزراعية الصحيحة
وكان طبيعياً، وقد تدهور سعر السكلاريدس وهو سيد الأقطان المصرية أن تتدهور أسعار الأصناف التي تقل عنه تنفيذاً لقانون النسبية الظاهر الآثار في كل مناحي الحياة. فهبطت الأسعار جميعها إلى أدنى مستوى وأتيح لمحترفي المضاربة أن يلعبوا على مسرح الاقتصاد المصري أدواراً أكسبتهم على حساب المنتج كسباً كبيراً
لذلك ليس غريباً أن تثير الدعوة إلى زراعة الأقطان طويلة التيلة أشد الانزعاج. ولكن المأساة - إذا نفذنا في حقائق الأمور - مأساة صنف السكلاريدس بالذات وليست مأساة كل قطن طويل التيلة. وليس يصح منطقياً أن يسوء حظ كل الأقطان طويلة التيلة لأن أحدها كان سيئ الحظ لظروف خاصة
ساءت أسعار السكلاريدس في المدة من سنة 1922 إلى 1932 إلا فترات قصيرة ارتفع فيها السعر نسبياً. وقد اختتمت هذه الفترة بهبوط السعر هبوطاً مزعجاً إذ بلغ في شهر يونيو سنة 1932 تسعة ريالات
لذلك جد المهتمون بالأمر في استنباط أصناف أخرى يكون لها من وفرة الإنتاج ما يضمن الربح لمنتجها؛ فاستنبط في سنة 1934 صنفا النهضة والجيزة 7، وكان الأول قصير العمر فمات، فأما الثاني فما زال يعيش
وتوالى الاجتهاد فيما بين سنة 1934 ووقتنا هذا، فاستنبط الوفير وهو متوسط التيلة ثم الكرنك والملكي اللذان يعدلان السكلاريدس في طول تيلته، وأخيراً صنف جيزة 39 أو شرييني
وفي هذه الفترة الأخيرة (من سنة 1934 إلى الوقت الحاضر) لم يصب الأقطان طويلة التيلة كساد. بل - على العكس - صادفت هذه الأصناف إقبالاً طيباً جداً. من المصانع على الرغم من ظروف الحرب التي حدت من التصدير
وإذا كنا متفقين مع المستر هانكوك خبير القطن بوزارة الزراعة فيما ينادي به من أن الصناعة لا تتطلب طول الشعرة فحسب، بل هي تتطلب أيضاً متانة الشعرة ودقتها، فإننا لنغتبط إذ نؤكد أن الصنفين المصريين المستنبطين أخيراً وهما الملكي والكرنك يجمعان إلى مزية طول التيلة مزيتي المتانة والدقة
إن مناطق زراعة القطن في أمريكا وآسيا وأفريقيا - إذا استثنينا بعض جهات أمريكا - لا تنتج إلا أقطاناً قصيرة التيلة. ومن المقطوع به أن البيئة الأولى لإنتاج القطن ذي التيلة الطويلة هي أرض الكنانة التي أكرمتها العناية الإلهية بطبيعة جوية معتدلة ويد عاملة رخيصة مجتهدة
فلنعمم - في غير خشية - زراعة الأقطان طويلة التيلة ما دامت توائم طبيعة أرضنا، ولا سيما وقد استنبطت منها أصناف وفيرة الإنتاج عالية التصافي
على أن الغبن في زراعة القطن السكلاريدس لم يكن مرجعه في الحق إلى نوعه، ولكن إلى ملابسات بيعه، فالمنتج كان ينشد الربح، أو على الأقل الفرار من الخسارة؛ والمغزل كان يستكثر السعر، فكان يؤثر الرخيص من الأنواع ولو كان قصير التيلة. ولو استطاعت المصانع شراء السكلاريدس بما يزيد 20 % على أسعار القطن الأمريكي لفعلت راضية
وقد كان بيع القطن المصري يخضع لعوامل توجدها الآلة البورصية؛ فهي كانت تسجل بحساسية شديدة كثرة العرض عند بدء الموسم، ويظل ذلك التسجيل حتى يخرج أغلب المحصول من أيدي المنتجين
هذا إلى الملابسات التي أوضحناها قبلاً، وإلى عوامل أخرى كانت تتآمر على خفض أسعار ذلك القطن
على أن النسبة الآن بين سعر القطن المصري طويل التيلة وبين سعر القطن الأمريكي ليست عالية. فالقطن (المدلن) الأمريكي يساوي الآن 20 دولاراً، أي يوازي 660 قرشاً باعتبار أن الدولار يساوي 33 قرشاً، فلو أضيف إلى هذا السعر 20 % منه، أي ما يعادل 132 قرشاً، لكان السعر ثمانية جنيهات مصرية تقريباً، وهو ما يقرب جداً من سعر القطن الكرنك المصري محلوجاً
هذه هي النسبة، والظروف ظروف حرب حدت من تصدير قطننا المصري ودعت إلى عدم التعامل عليه في البورصات. فكيف في الظروف العادية حين ينطلق قطننا من كل قيد؟
(4) - وسيلة التبادل
فساد نظام المعدنين النفيسين - نظام التبادل التجاري المرجح
الأخذ به بعد الحرب - اقتراح الأخذ بهذا النظام في مصر
أن عناصر الغنى في أمة من الأمم هي مقدرتها على الإنتاج الزراعي أو الصناعي، ووفرة اليد العاملة والآلات فيها. وليس النقد في حقيقة أمره إلا أداة للاستبدال ووسيلة للمقارنة بين القيم. ولقد ظل الذهب والفضة طويلاً مقياس الغنى في الأمم، ولكنهما مقياس أفسده سوء الاستعمال. وما مثل هذين المعدنين في تقدير الثروة العامة للأمم إلا كميزان مختل في حانوت بدال، لا يلبث أن يؤدي إلى إفلاس صاحبه
إنه ليس من العدل أن ينقسم الأفراد إلى فريقين: أحدهما وهو الفريق الأكبر يقضي حياته في الإنتاج الزراعي أو الصناعي، ومع ذاك يعاني الكثير من البؤس والبطالة، والثاني وهو فريق الأقلية يتحكم في الفريق الأول، يعطي ويمنع لأن بيده المال
هذا النظام ينبغي أن يستبدل به نظام آخر يحقق العدالة لأفراد الأمة، ولا يدع للمال كل ذلك السلطان الضخم، بل ينصب الإنتاج نفسه حاكماً اقتصادياً بدلاً من الحاكمين الحبيسين: الذهب والفضة
والظن أن العالم يتجه بالفعل هذا الاتجاه، وأن نظام التبادل التجاري فيما بعد الحرب سيحمل كثيراً من الدول على التخصص في إصدار سلع معينة مقابل استيراد ما يلزمها من الدول الأخرى على نحو قريب من نظام المقايضة فليكن القطن طويل التيلة سلعتنا التي نحصل بها على حاجاتنا من الخارج
وبهذه المناسبة نذكر أن عندنا الآن كميات من هذه الأقطان ينبغي ألا يساورنا القلق على تصديرها، لأنه عندما يستقر السلام سنستطيع أن نجيب بها مطالب البلاد المجاورة التي ستعوزها يقيناً هذه الأصناف
(5) - نظام تمويل المصارف للقطن
نقد نظام التمويل في مصر - إرهاقه للمنتج - النظام المنشود
إن نظام أعمال المصارف في مصر - فيما يختص بتمويل المنتج الزراعي عامة، ومنتج القطن بصفة خاصة - يخالف نظام المصارف الوطنية في بلدان العالم جميعاً. وكأنما وضع خصيصاً لهذا البلد السيئ الحظ
يقدم الفلاح إلى المصرف إنتاجه القطني فيقدِّر المصرف للسلعة ثمناً بخساً، وبذلك يكون (الغطاء) الواجب أداؤه عالياً، ثم يرفع المصرف سعر الفائدة، ويقيد المنتج بالتزامات ثقيلة تؤوده وتعجزه عن الوفاء بها، فلا يلبث المصرف أن يقذف إلى البورصة بمئات الألوف من قناطير القطن دفعة واحدة فيهبط السعر بطبيعة الحال، وكأن المصرف بما فعل قد سهل للأقطان الأجنبية والصناعة القطنية الأجنبية منافسة أقطاننا وصناعتنا
ولسنا نرى في ذلك غرابة، فالمصارف الأجنبية التي لدلينا إنما تمثل وترعى المصالح الاقتصادية والصناعية لبلادها وحملة أسهمها
لا جرم إذن أن هذا النظام المصرفي هو من عوامل اختلال اقتصادياتنا وانحطاط مستوى معيشة المنتج المصري. ولقد عاش هذا النظام طويلاً دون أن ننتبه لمساوئه. فلنعمل جاهدين على درء هذه المساوئ كلها أو بعضها، وليكن ذلك عاجلاً بقدر المستطاع
إن النظام المصرفي الذي ننشده في مصر يجب أن يكون نظاماً يشجع الإنتاج ويحميه من الكساد المصطنع ويحافظ على الثروة الوطنية، ويدفع عنها كيد المتلاعبين، ويكون منطوياً على روح مصرية صميمة تعني بالصالح المصري أولاً وأخيراً
(6) الطموح إلى نهوض بيوت مصرية بتصدير القطن
المصري
وكذلك يجب أن تكون الروح في تصرفات بيوت تصدير القطن مصرية، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت وطنية. ولئن قيل إن بيوت التصدير الأجنبية لها من خبرتها الطويلة بحاجات المغازل ما لم يتح لبيوت مصرية، فإن هذه الخبرة لن تكون كل شيء في تصريف إنتاجنا حين تضع الحكومة - طبقاً لاقتراحنا - نماذج للقطن المصري كله
والواقع أنه ليس في التجارة أو الصناعة سر يستغلق على العنصر المصري، وكل ما يستلزمه نهوض المصريين بتصدير أقطانهم هو مزيد من النشاط والمثابرة والجد وممارسة عملية تبصرهم بما خفي عليهم طويلاً. إن المصريين حين يقومون هم أنفسهم بتصدير أقطانهم قد يواجهون مصاعب جساماً، ولكن لنتخذ من هذه المصاعب دروساً نافعة، وكل صعب يهون في سبيل أمنية عزيزة كتمصير بيوت التصدير ذلك التمصير الذي يساعد على إتمام استقلالنا في ناحية اقتصادية لها أهميتها
زكريا حجاج
مدير مراقبة القطن ومنع خلطه