مجلة الرسالة/العدد 574/على هامش النقد
مجلة الرسالة/العدد 574/على هامش النقد
عرائس وشياطين
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
للأستاذ سيد قطب
(هذه الصفحات نخبة مجموعة من وحي العرائس ذوات
الشياطين، أو من وحي الشياطين ذوي العرائس. تلقيناها من
هؤلاء وهؤلاء وجمعناها هدية إلى القراء. وكل ما توخيناه
فيها أن نتجنب التكرار كما نتجنب الإسفاف والإطالة
(فهذه قصائد من الشعر العربي أو العالمي، يكثر فيها الإيجاز ويقل الإسهاب، ويندر فيها المشهور المتكرر على جميع الأسماع. . .
(وحسبنا منها شرط واحد نرجو أن يتحقق لها جميعا في رأي قرائها، وذاك أنها - وهي من وحي العرائس والشياطين - خير ما يقرب الإنسان إلى قلب الإنسان)
عباس محمود العقاد
جد لي رأيان متناقضان في هذه المجموعة، هما اللذان أستعرضهما هنا مع القراء: ففي أثناء القراءة الأولى السريعة، ولم أنته بعد من المجموعة، ولم أتبين مواقع قصائدها ومقطوعاتها في نفسي. قي هذه القراءة التي يلتفت فيها الذهن إلى أكثر الأشياء التماعا ويلتفت فيها الحس إلى أشد الأصوات تصدية. . . عندئذ قلت: أن الشعر العربي يستطيع أن يقف على قدميه أمام الشعر العالمي
وحينما انتهيت من قراءة المجموعة وخلوت إلى نفسي أتبين موقع كل قطعة وكل قصيدة، وألمح وراء الألفاظ والمعاني، ما ترسمه من ظلال إنسانية وما تصوره من حالات نفسية. عندئذ قلت: إن هذه المجموعة صحيفة اتهام للشعر العربي! فأي الرأيين هو الخطأ، وأيهما هو الصواب؟ مرجع الحكم في هذا هو طريقة إحساسنا بالحياة، وحقيقة مطلبنا من الشعر. فأما أنا فلا أتردد في القول بأن الحياة في صميمها إن هي إلا انفعالات واستجابات، وعواطف وحالات نفسية، وأن الأفكار والمعاني إن هي إلا بلورات صغيرة على سطح الحياة، وكثيراً ما تكون معوقات لجريان الحياة، وإن كانت في أحيان قليلة تساعدها على التعمق والنفاذ
وليس (الإنسان) الراقي هو الذي تستهويه المعاني المجردة والأفكار المبلورة، - كما يعتقد الكثيرون - ولكنه الإنسان الذي يتعمق حسه أدق المشاعر وأجلها، والذي يدرك نبضات الحياة وانفعالاتها، والذي يتخذ من ذلك كله غذاء لحسه وفكره جميعاً
والشعر هو نبضة قلب قبل أن يكون لمعة فكر؛ وهو خفق حياة، قبل أن يكون فكرة ذهن، وهو حالة نفسية قبل أن يكون قضية فكرية؛ وهو ظلال إنسان قبل أن يكون التماع أفكار، ووسوسة أفئدة قبل أن يكون رنين ألفاظ
فإذا نحن نظرنا إلى الشعر العربي بهذه العين في مجال الشعر وجدناه فقيراً في الظلال الإنسانية والحالات النفسية بمقدار ما هو غني بالأفكار والمعاني والاستجابات الحسية المباشرة التي لا تتعمق النفس الإنسانية إلى مدى بعيد
والتعبير العربي - وبخاصة في الشعر - تعبير مباشر أقرب ما يكون إلى الاستجابة الحسية، فهو يؤدي الفكرة أو المعنى، ثم لا تلمح وراءه مخلوقا إنسانياً. إنك تلمح ولاشك فكراً وحساً، ولكن المخلوق الإنساني الذي يشتمل الفكر والحس ويشتمل بجوارهما حياة آدمية كاملة قلما تلمحه وراء التعبير العربي
ولقد خيل إلي مرة أن هذه اللغة نبتت في الظهيرة على صحراء مكشوفة. فهي لا تلقي حولها ظلا. ليس هناك ما يسمونه (بين السطور) كل لفظ وكل تعبير يقابله معنى أو فكرة، ثم لا شيء وراء المعنى ووراء الفكرة. لا ظل. لا صورة. لا رؤى في الضباب غير مميزة الملامح بينما تثير في النفس شتى التخيلات وشتى الاهتزازات
وبمقدار الغنى في الأفكار والمعاني الذي تضمنه الشعر العربي، كان الفقر في الرؤى والأحلام، وفي الصور والظلال، وفي الحالات النفسية، والملامح الإنسانية؛ وهذا هو مفرق الطريق بين الشعر العربي وكثير من الشعر العالمي في مجموعة (العرائس والشياطين)
حتى شعر الغزل عند العذريين وغير العذريين، قلما تجد فيه وراء اللفظ إلا المعنى، ووراء التعبير إلا الفكرة. قلما تلمح الحالة النفسية والملامح الإنسانية، قلما تتسمع الوسوسة والهينمة التي لا تعرف مصدرها، ولا تدل عليها الألفاظ بذاتها، ولكن تدل عليها الظلال التي تلقيها الألفاظ وتتوارى خلف التعبيرات.
إن بيتين ساذجين بسيطين كقول مسلم بن الوليد (فيما أذكر) وقد حضرته الوفاة وهو وحيد غريب وليس حوله إلا نخلة بجرجان يناجيها فيقول:
ألا يا نخلةً بالسّفحِ ... مِن أكناف جُرْجان
ألا إني وإياك ... بجرجان غريبان
إن هذين البيتين لهما نموذج راق في الشعر العربي، وهو نموذج متواضع بالقياس إلى الشعر العالمي، ولكنه كذلك نموذج نادر!
فماذا في هذين البيتين الساذجين. فيهما أن المعنى والفكرة يتواريان ليفسحا المجال للصورة الإنسانية والحالة النفسية. صورة الإنسان الغريب المفرد تقربه الغربة من كل مخلوق، ويرهفه الانفراد إلى الأنس بكل كائن، وخلع الحياة عليه ومعاطفة القريب للقريب
وعلى هذا النحو ينبغي أن ننظر إلى الشعر، على أساس ما يثير في نفوسنا من أحاسيس، وما يرسم لخيالنا من صور، وما يطلقنا من أعيان الفكر المحسوسة المحدودة، ويصلنا بصور الإنسانية وبالحياة المكنونة. وذلك فيما اعتقد واجب شعراء الشباب
ولكن حذار أن نفهم من هذا ما يفهمه بعضهم من تلك الفوضى. إن الشعر - مع هذا - ليس تهيؤات مخبول، ولا تهاويل مذهول. والحالات النفسية المطلوب تصويرها، ليست هي خلط المجانين، وتداخل الاستعارات وتراقص التعبيرات. إن بين الشعر وبين هذه التهيؤات والتهاويل لبعداً سحيقاً، فإذا لم يكن بد من هذا البلاء فلا، والشعر العربي القديم بحسيته وتجريده أقوم وأهدى، وأخلد فناً
وإلى القراء بعض الأمثلة الحاسمة بين المعاني والأفكار، وبين الحالات النفسية والصور الإنسانية في قطعة من مجموعة العرائس والشياطين، للشاعر الإنجليزي الحديث (هوسمان) بعنوان (إلى السوق أول مرة) وليست هي بأغنى ما في هذه المجموعة من هذا الرصيد
يوم أنشأت أذهب إلى الأسواق، أوائل عهدي بالأسواق كانت الدراهم في الكيس جد قليل
وكم طال بي النظر وكم طال بي الوقوف
على أشياء في السوق لا تنال
تغير الزمن اليوم، فلو أردت الشراء لاشتريت
هنا الدراهم في الكيس، وهناك أشياء الأمس في السوق
ولكن أين يا ترى ذلك الفتى المحروم؟
(طالما شكا قلب الإنسان، لأن (اثنين واثنين: أربعة)
لا هي ثلاثة كما نودها حيناً. ولا هي خمسة كما نودها بعد حين
وأحسبه سيشكو إلى آخر الزمان
فبقياس الأفكار والمعاني، هذه المقطوعة لا شيء! إن معانيها قريبة قريبة، فهي لا تزيد عن قولهم: (كل ممنوع محبوب) و (كل ما تملكه اليد تزهده النفس) و (ما كل ما يتمنى المرء يدركه)
ولكن أين هذا من تلك الأحاسيس الإنسانية الخالدة الغامضة التي تثيرها هذه المقطوعة في نفس كل (إنسان) عانى ما عاناه الشاعر من (أن اثنين واثنين أربعة لا هي ثلاثة، كما نودها حيناً ولا هي خمسة، كما نودها بعد حين) وأحس بحلاوة التشهي وزهادة المشتهى بعد حين. واضطرب بين واقع الحياة الذي يحتمه المنطق ولا مفر منه ورغائب النفس التي لا تستند إلا للشوق المجهول الذي ينكر المجهول الذي ينكر المنطق المحتوم!
ليس المعنى هنا هو المهم، إنما هو المخلوق الآدمي الذي تحس دبيب انفعالاته ووسوسة وجداناته، وليست الفكرة التي تحويها المقطوعة هي المهمة، وإنما هي الصورة المترائية بين الظلال الشفيفة
ثم طريقة تناول الموضوع واستعراض الصورة واحدة بعد الأخرى وتسلسل الصور الحية المتخيلة، كل هذا له شأنه وله قيمته في استثارة الأحاسيس. لا إلقاء المعنى مبلوراً مجرداً كأنه قذيفة!
وسنعود إلى استعراض بعض المقطوعات الأخرى في هذا الصدد الذي يستحق في اعتقادي أن نعود إليه مرة ومرة لتصحيح الفكرة السائدة بيننا عن الشعر والشعور أما الآن فنقول: إن العقاد قد أحسن إلى الأدب العربي بهذه المجموعة، وإنها لمحسوبة له كأي كتاب من كتبه، وإننا لفي حاجة إلى غيرها من المجموعات. وإذا لم يكن لها من فضل إلا إثارة مثل هذه التفسيرات للشعر وتصحيح مقاييسه تصحيحاً عملياً، فإن هذا وحده يكفي
والطريقة التي اتبعها في التعريف بكل شاعر وعصره وطريقته ومنزلته تجعل للمجموعة هدفا آخر غير المادة التي احتوتها. ذلك هو التعريف السريع المفيد لعدد من الشعراء في العالم لا يتسنى للكثيرين أن يتعرفوا إليهم بمثل هذا الوضوح.
سيد قطب