مجلة الرسالة/العدد 575/القرآن الكريم

مجلة الرسالة/العدد 575/القرآن الكريم

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1944


7 - القرآن الكريم

في كتاب النثر الفني

(وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)

(قرآن كريم)

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

طلع زكي مبارك بمقاليه كما يطلع الشيطان بقرنيه. لا يستجيب إلى خير، ولا يبصر هدى، ولا يدعوا إلى رشد، ولا يأتي إلا بإثم أو إفك أو ضلال

وبضاعة زكي مبارك كلام يلقيه لا يدري أعليه يكون أم له، بل يلقيه بظن أنه له فإذا هو عليه، وهذا من خذلان الله له، ومن يحارب الله مخذول.

إن كان أحد عدو نفسه فذلك زكي مبارك. يبلغ منها بجهله وغروره ما لا يبلغ الخصم بعقله. يريد أن يخفي معايبها فيدل عليها، ويريد أن يدرأ عنها فيبدي عن مقاتلها

لقد كتب يدافع عن نفسه فأمكن منها في كل موقف من مواقف الدفاع: أمكن منها حين صاح مرتين يستغيث بالدكتور طه حسين، وماذا يملك له الدكتور طه وهو يجمع على نفسه من الاعترافات ما يوبق أقله ويهلك

وأمكن منها حين اعترف متطوعاً مختاراً بأن في كتابه آراء في أعجاز القرآن أخطر من الآراء التي رويناها له. وهو يعلم أي آراء روينا، ويعلم أن ما كشفناه للناس من آرائه قد هدمه وهده، ولا زال يمضه ويقض منه المضاجع. فأي نفع له في أن يقول إن هناك في كتابه ما هو شر وأخطر، اللهم إلا أن يكون أراد أن ينسب غيره إلى الغباوة، فنسب نفسه إلى الغباوة والحمق معاً. فإن الغبي الأحمق هو وحده الذي يريد أن يدفع عن نفسه فيعترف عليها اعترافاً كهذا فيه كل التأييد لما قال الخصم، وفيه بعد ذلك مزيد

وأمكن من نفسه حين أكد هذا الاعتراف بقوله إنه لو شاء لدل الخصم على تلك الآراء التي هي شر وأخطر! ونحن نعرف من كتابه كل ما يخاف كما قد أنذرناه، ومع ذلك فما الحاجة إلى تلك الآراء وقد دمغته أخواتها دمغة سيعرف بها ما عاش؟ ألا يكفيه من الوسم ما بلغ العظم؟ ألا يكفيه من الغل ما أحاط بالعنق؟ أم هو يريد غلاً يأخذ منه بالمخانق حتى يكتم منه الأنفاس؟ لينتظر فسيرى أنا نعرف منه ومما كتب ما لا يخطر له ببال.

وأمكن من نفسه حين زعم لنفسه الشجاعة والصراحة ونفاها عن غيره. وأي صراحة يدعي أو أي صراحة يبغي بعد الذي كان؟ لقد صار حناه رأينا فيه، وأنصفناه إذ لم نقتصر على الادعاء كما يفعل هو مع الناس، بل جئنا على الدعوى بالدليل لنمكنه من إبطال الدليل إن استطاع. واجهناه وجابهناه بالتهمة ودليلها وهو حي يرزق يستطيع أن يدفع عن نفسه: بالحق إن كان لديه، أو بالباطل كما يفعل الآن. ألا يقارن هذا بما فعل هو مع الشيخ مصطفى القاياتي رحمة الله؟ زعم في بعض ما كتب ما لم يكن ليجرؤ على زعمه لو كان الشيخ القاياتي حياً، وما ليس يصدقه فيه أحد، من أنه كان - أي زكي مبارك - وهو تلميذ يحضر لمصطفى القاياتي محاضراته وهو أستاذ! ثم لا يستحي زكي مبارك بعد هذا أن يحشر نفسه في عداد الصرحاء الأشراف!

هكذا أمكن زكي مبارك من نفسه، كما أمكن منها حين سمي ظهوري عليه بالحجة طغياناً، وحين علل هذا الطغيان بعلمي أن الرقابة تمنع نشر المجادلة الدينية! أما إنه الحق يطغي على الباطل ولؤمه، لا الحق يمنع من ظهوره الرقيب. ومع ذلك فما حاجة زكي مبارك إلى المجادلة مطلقاً إن كان رأيه في القرآن وإعجازه رأي المسلمين من لدن عصر النبي الكريم إلى اليوم؟ ما حاجته إلى المجادلة الدينية التي يمنع منها الرقيب، إن كان يمكنه التوفيق بين النصوص التي أوردناها عليه من كلامه وبين عقيدة المسلمين في القرآن؟ إن أحداً لا يعرف أن الرقابة تمنعه من تأويل كلامه إلى ما يطابق عقيدة المسلمين ويوافق إجماع علمائهم. أما الجدل الذي يراد به تبرير إنكار إعجاز القرآن أو إثبات أن القرآن من كلام البشر فنعم منع الرقابة منه، ونعم عقاب القانون عليه. فهل هذا هو الجدل الذي كان يريد زكي مبارك والذي لا يجد إليه السبيل؟ إذن فقد أراد أن يعتذر عن نفسه فاعترف عليها حين أراد أن يحتمي هذا الاحتماء بالرقيب

ومع ذلك فالمسألة بيننا هي رأي زكي مبارك في القرآن لا دليل زكي مبارك على ذلك الرأي. فإذا كانت الرقابة تمنعه من الجدال عن رأيه بالدليل فذلك شهادة منه ومن الرقابة أن رأيه ليس مما يجوز عنه الدفاع، كما لا يجوز الدفاع مثلاً عن رأي زاعم لو زعم أن مصر لا يحق لها الاستقلال

إن هذا الغبي الأحمق لا يستطيع لأن يفهم أنه ينال من نفسه أكبر النيل بدفاعه عنها هذا الدفاع. إنه كالغريق في الحمأة لا يزيده جهاده للخلاص منها إلا غوصاً فيها حتى يلتئم سطحها فوق رأسه، وكان خيراً له ألا يقربها، فإذا قاربها فقد كان أنجى له ألا يتورط فيها

ومحاولة الرجل الخلاص بالكذب أو بالمكابرة أو بالمغالطة والمهاترة لا تنفع ولا تجدي. فليس ينفعه مثلاً أن يلجأ إلى حيلته القديمة التي نبهنا إليها في التمهيد، فيسمي الأشياء بغير أسمائها أو بضد أسمائها، كما يفعل من تسمية العلم جهلاً والجهل علماً، أو الإسلام إلحاداً والإلحاد إسلاماً وإيماناً. فهذه الحيلة التي قد تجوز على الناس عند انبهام الأمر، لا يمكن أن تجوز على أحد في البسائط الواضحة والبديهات المسلمة

وموضوع الخصومة بيننا وبين هذا الآفك هو في دائرة البسيط البديهي؛ دائرة المسلَّم المعروف من الدين بالضرورة؛ دائرة الأموال التي هي فصل بين الإسلام وغير الإسلام، بين المسلم وغير المسلم: دائرة إعجاز القرآن، وأن القرآن كلام الله لا كلام البشر، وأن الأنبياء والرسل ليس لهم من الدين إلا تبليغه، وأن وحي الله إليهم ليس كهذا الذي يسميه الشعراء والمفكرون إلهاماً. هذه الأصول المسلمة عند المسلمين كافة، المعلومة من الدين بالضرورة هي موضوع الكلام بيننا وبين زكي مبارك، وموضوع الخصومة. وهو ينكرها ويكابر فيزعم أننا نفتري عليه الإلحاد

المسلمون كافة يقولون إن القرآن معجز، ويفهمون من إعجازه إعجاز الأسلوب قبل كل شئ، وهو يقول إن القرآن غير معجز وإن أسلوبه أسلوب عادي يقدر عليه جميع الكاتبين. ثم يزعم أنه قد أقنع المثقفين بإعجاز القرآن!

إن إنكار إعجاز الأسلوب يستتبع حتماً إنكار إعجاز المعنى إلا في المواطن التي يكون فيها المعنى من النبوءات التي تحققت بالفعل، أو يكون من العلميات التي يحققها البحث العلمي على مر الزمان. فكثير مثلاً من قصص القرآن كان معروفاً، إن لم يكن للعرب فللنصارى واليهود في التوراة والإنجيل. ومن السهل على المكابر أن يدعي أن محمداً درس أو أن محمداً سمع. وقد قيل ذلك بالفعل. قالوا فيما حكي الله عنهم: (لو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين). حتى لو لم يكن القصص معروفاًُ لسهل على المكابر بعد معرفته أن يدعي أنه كان غير مجهول، بل لصعب جداً على غير المكابر أن يطمئن إلى أنه لم يكن معروفاً من قبل، ولاستحال إثبات ذلك إثباتاً يرتفع معه كل شك، إن لم يكن في عصر النبي ففي ما بعد عصر النبي من العصور. فما الذي حال بين المنصفين من العرب في زمن النبي صلوات الله عليه وبين مثل هذا الشك في إعجاز القرآن وفي رسالة النبي؟ إعجاز الأسلوب! إعجاز الأسلوب حال بينهم وبين الشك

إن المعنى بعد أن صار معروفاً لهم كان يمكنهم التعبير عنه بالطبع، ولكن لا بأسلوب القرآن ولا بشيء يشتبه بأسلوب القرآن. وهذا بعض وجه الحجة عليهم في مثل قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). وسنعود فيما نستقبل من الكلمات إلى موقف صاحب الكتاب من هذه الآية بالذات كمثل ناطق بسوء فهمه وخلطه وإحالته حين يعرض للقرآن. أما الآن فيكفي أن ننبه إلى أن التحدي في الآية الكريمة بقوله تعالى (مثله) وفي غيرها من الآيات إنما هو تحد بالأسلوب قبل كل شئ، لأنهم بعد أن سمعوا بعض السور وعرفوا معناها كانوا يستطيعون أن يزعموا أن المعنى ملك للجميع، أخذوه هم كما أخذه محمد، ويعبرون عن المعنى بأي أساليبهم يرون أنه يقوم لأسلوب القرآن. ولو فعلوا وكان ذلك ممكناً لسقط التحدي به إلى الأبد. لكنهم لم يفعلوا ولم يكونوا ليفعلوا، لأنهم كانوا إزاء أسلوب لا يمكن تحديه، لا كما يزعم هذا الأفاك الأحمق إنه أسلوب في مقدور جميع الكاتبين

فالذي ينكر إعجاز الأسلوب مثل صاحب النثر الفني يلزمه حتماً أن ينكر إعجاز بعض القرآن على الأقل كالقصص القرآني أو بعضه، أسلوباً ومعنى، لأنه يستحيل عليه وقد أنكر إعجاز الأسلوب القصصي أن يزعم أن القصص نفسه معجز بالمعنى أو بالروح، كما يزعم أنه أقنع المثقفين بهذا النوع من الإعجاز في القرآن. وإذا سقط التحدي بقصص القرآن سقط التحدي بسورة من مثل القرآن، لأن كثيراً من قصص القرآن سور بأسرها، أو في قدر سورة من غير القصص، وإذن يسقط التحدي بالقرآن بأسره، لأن الله سبحانه حيت تحدي عباده بسورة من مثل القرآن لم يقيدهم بأي قيد في اختيار السورة. فلو اختاروها سورة قصص، أو جاءوا بقصص في قدر سورة ولو قصيرة من غير القصص، وكان ما جاءوا به يلتبس بالقرآن من حيث الأسلوب، لكانوا قد كسروا التحدي وبطلت معجزة القرآن بين العرب، فضلاً عمن جاء بعدهم ممن ليس له بصرهم بالفصاحة والبيان

فالنظر في هذا وتأمله جيداً وحكم عقلك ومنطقك ما شئت، تجد أن إنكار إعجاز الأسلوب يؤدي حتماً إلى إنكار الإعجاز كله في القرآن كله؛ فإذا تبين لك هذا فاحكم حكمك على صاحب النثر الفني، منكر إعجاز أسلوب القرآن ومدعي إقناع المثقفين بإعجاز القرآن من ناحية الروح!

إن الرجل يلعب ويلهو بالخطير العظيم من الحق، ويكذب ويأفك على الناس وعلى الله رب الناس. لكن لا عجب فهو يخبرنا أنه لا يخاف الله إلا تأدباً، فهو لا يستشعر خوفاً حقيقياً منه سبحانه. فماذا يمنعه من الكذب والافتراء على الله؟

على أننا لم نفرغ بعد من هذا الأفاك

محمد أحمد الغمراوي