مجلة الرسالة/العدد 575/محو الأمية في مصر
مجلة الرسالة/العدد 575/محو الأمية في مصر
المشروع الجليل الذي تضطلع به وزارة الشئون الاجتماعية
للأستاذ دريني خشبة
ليس أخزى لأمة من الأمم أن تشيع فيها تلك الأمة الذميمة على الصورة التي تشيع بها في مصر. وبالنسبة العالية التي ترتفع إلى 85 % في بلادنا. . . وأي خزي ألا يكون في مصر من الملمين بالقراءة والكتابة أكثر من مليونين وربع المليون وأن يكون بها من الأميين أكثر من أثني عشر مليونا وثلاثة أرباع المليون!
أي خزي أن تكون هذه حالنا بالرغم من الملايين العشرة من الجنيهات التي شرعنا ننفقها على التعليم سنويا؟
وكيف أغمضنا عيوننا على هذه الحال كل تلك السنين الطوال، والمسألة تتعلق بكرامتنا وقوميتنا واستقلالنا وحياتنا وبكل ما هو عزيز علينا؟
وإذا عددنا أدواءنا الاجتماعية، فأي داء وبيل يكون أقسى على المجتمع المصري من تلك الأمية الذميمة المتفشية في طبقاته على هذا النحو، وبتلك النسبة العالية؟
وإذ عددنا أمراضنا المتوطنة، فأي مرض فتك بنسبة تزيد على اثنين بالمائة أو سبعة بالألف من سكان مصر، كما تفتك تلك الأمية الوبيلة بثمانمائة وخمسين من كل ألف مصري عزيز؟
وماذا يصنع التيفود والتيفوس والملاريا والرمد والأنكلستوما والبلهرسيا أشد مما تصنعه تلك الأمة بإخواننا المساكين المصريين من فلاحين وعمال وصناع وتجار وجنود وشرطة؟
إن هذه الأوبئة التي ذكرنا، وغيرها مما لم نذكر، ليس مصدرها الميكروب كما يزعم الأطباء، وإنما مصدرها تلك الأمية التي تغشي عقول هذه النسبة العالية من إخواننا المصريين البائسين
إن الفلاح الذي يشرب من البركة الراكدة، والفلاحة التي تغتسل في تلك البركة، إنما يصنعان ذلك بعامل الأمية التي حالت قسوة الأمة ونومها الطويل الذي نامته دون إنقاذ غالبية الشعب من براثينها
وإن المرابي الذي يغتال أموال الفلاحين وغير الفلاحين من طبقات الشعب، إنما يغتالهم من طريق أميتهم التي رانت على أبصارهم، وناءت على عقولهم، وحجبت عنها النور بتلك الطبقة الكثيفة من السذاجة والغفلة والجهل المبين
إن اضطلاع وزارة الشئون الاجتماعية بمهمة محو تلك الأمية الذميمة هو أشرف الأعمال التي تضطلع بها وزارة من الوزارات بل هو أجل خدمة تؤديها للوطن، الوزارة التي أنشئت لخدمة المجتمع المصري، وانتشاله من تلك الوهدة التي تتردى فيها غالبيته المسكينة البائسة التي لا تنتفع من ملايين التعليم العشرة إلا بأزهد مقدار وأضأله، وبطرق بعيدة غير مباشرة
وإن مهمة محو الأمية في مصر لعمل تنوء به وزارة واحدة، ويجب لهذا أن يعد خدمة وطنية عامة تعبأ له جهود الشعب كلها، بحيث يكون مرتكباً لجريمة الخيانة الوطنية الكبرى كل مصري يستطيع أن يساهم في هذا العمل ثم يحجم عن المساهمة، أو يتراخى في القيام بنصيبه فيه
إن هذه النسبة العالية من إخواننا وآبائنا وأمهاتنا وأخواتنا وأبنائنا المصريين، المحرومين من نعمة القراءة والكتابة، هم في الحقيقة محرومون من النور، بل من الحياة، بل من الكرامة الإنسانية. وإن من الأنانية التي ليست وراءها أنانية أن تنتفع نسبة ضئيلة من سكان البلاد بمائة مليون من الجنيهات أو تزيد كل عشر سنوات، دون أن تنتفع غالبية الشعب بشيء من هذه الملايين
فالمسألة جد أذن، ونحن منها إزاء خطر وطني يجب أن تتضافر الجهود على التغلب عليه. . . لقد أنشأنا وزارتي التموين والوقاية المدنية من الغارات الجوية لأسباب لو اجتمعت كلها ومعها عشرة أضعافها، لما بلغت أسباب هذه الأمية بعللها وآثامها وعقابيلها الوخيمة، لأنها أضل العلل، ولو أنصفنا هؤلاء الإثني عشر مليوناً وثلاثة أرباع المليون من إخواننا المصريين الأميين التعساء لأنشأنا لهم وزارة لمكافحة تلك الأمية التي تنحط بهم إلى مراتب الحيوانات بين أسماعنا وأبصارنا، نحن إخوانهم المتعلمين الأنانين!
فإذا نهضت وزارة الشئون الاجتماعية لهذا الأمر، وجب ألا تضطلع به وحدها، بل واجب على كل وزارة أن تعاضدها فيه، بل وجب على جميع المصريين، أفراداً وجماعات، أن يقدموا لها معونتهم الصادقة المثمرة، بحسبان أن هذه المعونة خدمة وطنية عامة، وفرض مقدس في عنق كل مصري أن يضطلع بنصيبه فيه
ولعل وزارة المعارف هي أولى الوزارات التي ستقدم لوزارة الشئون النصيب الأوفى من المعونة الصادقة، وستقدمه شاكرة ذاكرة معترفة بالجميل، لأن قيام وزارة الشئون بهذا الأمر دون وزارة المعارف فيه معنى من أنبل معاني التضامن الوزاري في الحكم الصالح، لأن أحداً لم يقل إن وزارة المعارف قادرة على كل شئ، بل إن أحداً لم يقل إن أية وزارة من الوزارات قادرة على القيام بالعمل كله الذي أنشئت من أجله، بل إن أية وزارة من الوزارات لعاجزة أتم العجز عن تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها ما لم تعاونها في ذلك معظم الوزارات، بل كل الوزارات. . . فإذا اعترض أحد بأن مكافحة الأمية هو أول الأعمال التي أنشئت من أجلها وزارة المعارف، قيل له إن كل الأعمال التي أنشئت من أجلها وزارة الشئون الاجتماعية كان مفروضاً أن تقوم بها وزارة المعارف، فلما أنشئت وزارة الشئون كان إنشاؤها إتماماً لوزارة المعارف، وتركيزاً للأعمال والواجبات، والخدمات العامة التي تنوء بها وزارة واحدة، على أن نصيب وزارة المعارف من هذا المشروع الجليل سيكون أكبر الأنصبة كلها وأوفاها، فهي التي ستقدم مدارسها كلها للتعليم الليلي، وهي التي ستقدم مدرسيها في جميع فروع التعليم، الأولى منه والابتدائي والثانوي والخاص والعالي والجامعي، لتعليم إخواننا المصريين البائسين مبادئ القراءة والكتابة والحساب. . . وهي ستفعل هذا عالمة أن أساتذتها من التعليم الإلزامي إلى التعليم الجامعي، لن يشق عليهم أن ينتدبوا لهذه الخدمة الوطنية الكبرى، لأنها دين مقدس في أعناقهم للوطن المرزوء بتفشي الأمية في طبقاته، بل إن أستاذ الجامعة سوف يشعر وهو يقوم بتلك الخدمة الوطنية أنه لم يؤد لبلاده خدمة أجل منها من قبل. . . وهانحن أولاء نرى بين صفوف الجنود الحليفة بيننا أطباء ومهندسين وحاملي درجات جامعية رفيعة يعمل كل منهم برتبة جاويش بسيط، أو عسكري لا يحلى ذراعه غير شريط واحد، وهو مع ذلك يشعر أنه يؤدي واجبه المقدس لبلاده أولاً، وللمدنية المضرجة بالدماء ثانياً، وهو مع ذلك يشعر أن قيمته قد ازدادت، وأن ضميره قد استراح، وأن درجته العلمية لم تنقص. . .
ستفعل وزارة المعارف ذلك، وستعبئ كل رجالها وكل جهودها في هذه السبيل، وستفعله شاكرة ذاكرة معترفة بالجميل لوزارة الشئون الاجتماعية، وستحذو جميع الوزارات حذو وزارة المعارف في معاضدة وزارة الشئون، فتساعدها وزارة الصحة في مكافحة الأمية الصحية بين طبقات الفلاحين والعمال والصناع والتجار ومن إليهم من سائر طبقات الشعب. . . وتساعدها في مكافحة الأمية الصحية بين الأمهات والآباء يبث أطبائها ومفتشيها في القرى والمدن والمساجد والأسواق لتنظيم الاجتماعات للتنوير، ولتبصير الآباء والأمهات بما لا بد من تبصيرهم به من معضلات الصحة والوقاية من الأمراض العامة، وسيفعل الأطباء ذلك راضين متواضعين شاعرين أنهم يقومون بنصيبهم في هذا الجهاد المشترك والخدمة الوطنية العامة الكبرى
وتساعدها وزارة الدفاع الوطني بتعليم جنودها مبادئ القراءة والكتابة تعليما إجباريا تخصص له ساعات قليلة من ساعات العمل والتدريب العسكري
وتساعدها وزارة الداخلية بمثل ما تساعدها به وزارة الدفاع، فلا تقبل شرطياً أمياً بين شرطتها، ولا خادماً أمياً ولا خفيراً أمياً بين خدمها وخفرائها، وبذلك تضطرهم إلى تعلم مبادئ القراءة والكتابة اضطراراً وتحملهم عليه حملا. وكذلك سائر الوزارات
وتساعدها وزارة الأوقاف أكبر المساعدة بوضع مساجدها ودور أوقافها المعطلة تحت تصرفها. . . وبتعبئة الأئمة والخطباء والوعاظ ورجال الدين للقيام بنصيبهم في التدريس ومكافحة أمية الخرافات والشعوذة. . . وبهذه المناسبة نشير إلى ما ينبغي أن يساهم به الأزهر والأزهريون من نصيب موفور مشكور، فهم أقرب إلى نفوس العامة ويتمتعون بينهم بالثقة والمحبة، ومثل هذا يقال عن رجال الأديان الأخرى المحترمين
وتساعدها وزارة الزراعة بمكافحة الأمية الزراعية بين طبقات الفلاحين، ولا بد أن تصنع وزارة الزراعة ذلك جادة غير عابثة، فالفلاح الذي لا يجيد زراعة غير محصولات ثلاثة، وهو مع ذلك يجهل آفاتها، هو فلاح أمي جدير بالرثاء خليق بالتنوير. ولقد آن الأوان الذي يجب فيه التفكير في مستقبل هذا الفلاح إذا ألغيت زراعة القطن تحت ضغط الحرير الصناعي وصوف اللبن. . وسيكون مستقبل هذا الفلاح المسكين أشد تعاسة إذا لم نكافح أميته الزراعية منذ الآن. وإذا لم نكافح هذه الأمية مكافحة فنية على أحدث أصول التربية الزراعية
هذا واجب الوزارات. . . أما واجب الأفراد والجماعات فهو عندي أعلى وأسمى. . . إننا محتاجون إلى بث الدعوة الواسعة العريضة لمكافحة الأمية بين طبقات هذا الشعب المسكين، حتى يصبح وجوب مكافحتها عقيدة، بل أيماناً. . . وهذا يقتضي تضافر الجهود كلها، وخاصة جهود الكتاب والخطباء والرؤساء والصحافة على نطاق واسع. . . فالصحيفة أو المجلة التي تصدر دون أن تطرق هذا الموضوع تنسى مهمتها الأولى المقدسة، وتؤثر الخوض في السفساف على التمرس بالجد. . . والهيئة التي تستطيع أن تساهم في هذا المشروع بنصيب موفور مشكور، ثم تقصر في المساهمة هي هيئة تفر من صفوف الجيش الوطني في ساعة الخطر. فهي جديرة بالازدراء بل بالعقاب
وفق الله وزارة الشئون الاجتماعية في إنجاز أشرف الواجبات الوطنية لخدمة الجيل الجديد. . . ووفقها الله في تنظيم هذا المشروع العظيم وتوقيته ووضع خطته وتدبير ماله، إنه سميع مجيب.
دريني خشبة