مجلة الرسالة/العدد 576/الأدب الإغريقي

1 - الأدب الإغريقي «مجلة الرسالة/العدد 576/الأدب الإغريقي» في عصر الإسكندرية للدكتور محمد مندور يذكر القراء أن الإسكندرية كانت في زمن ما عاصمة عقلية للعالم أجمع، حتى ليصطلح علماء التاريخ على تسمية القرون الثلاثة السابقة لميلاد المسيح بعصر الإسكندرية. وهو عصر إغريقي بلغته وثقافته. ومع ذلك فمن واجبنا نحن المصريين أن نعني بدراسته لاتصاله الوثيق بتاريخ بلادنا. وما نظن فهمه يستقيم ما لم نلم بملابساته التاريخية لنرى كيف احتلت الإسكندرية هذه المكانة، ونحدد أهميتها بالنسبة للعواصم الأخرى التي عاصرتها، وبخاصة أثينا. وعندئذ سوف نرى خصائص الأدب الإغريقي في ذلك العصر تتحدد بذاتها متميزة عما عداها ونقطة التحول كانت بلا ريب ظهور ملوك مقدونيا، وبخاصة فيليب وابنه الإسكندر الأكبر في القرن الرابع ق. م. فإلى ذلك الحين كانت بلاد الإغريق عبارة عن مدن مستقلة، تكون كل مدينة وضواحيها دولة قائمة بذاتها. ومع ذلك فقد استطاعت تلك المدن أن تأتي بالمعجزات في المجال الثقافي والمجال العملي على السواء. ونخص بالذكر أثينا التي وإن لم يبلغ قط سكانها هي وضواحيها نصف المليون؛ فقد خلفت من التراث العقلي ما لا يزال يبهرنا حتى اليوم، كما استطاعت أن تتزعم المدن الإغريقية الأخرى لترد جحافل الفرس وتحمي الحرية في بلاد اليونان كافة، ولكنها لم تكد تستوي في الزعامة بفضل انتصاراتها الباهرة حتى أخذها الصلف فنفرت إسبرطة الأبية، وكانت بين المدينتين حروب طاحنة دامت ما ينيف على ربع القرن، وقد اشتركت فيها جميع المدن، وخرجت منها ضعيفة متهافتة. وعندئذ ظهر المقدونيون الذين امتد طموحهم إلى السيطرة على بلاد اليونان، بل على العالم أجمع في وحدة شاملة ولكن العرين كان لا يزال به أسود وبخاصة أثينا، حيث صمد الزعيم الوطني الشهير (ديموستين) لفيليب وابنه، وقد رفض أن يستسلم على الرغم من ضعف مدينته، وذلك لأنه لم يكن يعرف غير الجهاد مهما تكن احتمالات الفوز أو الهزيمة، وعنده أنه ليس أشرف للرجل من أن يموت وسلاحه بيده ولاشك أن موقعة كيرونيد التي حدثت سنة 338 ق. م. بين فيليب المقدوني وجنده من جهة، وجيوش أثينا وطيبة من جهة أخرى، قد كانت من المواقع الفاصلة في تاريخ الإنسانية؛ فانتصار فيليب على ديموستين هو انتصار عالم على عالم آخر. مضى عالم المدن. . . عالم الحرية، وحل محله عالم الحكم المطلق والروح العالمية. وقتل فيليب سنة 336 ق. م. وخلفه الإسكندر، وكان ما نعرفه من سيطرة هذا القائد العظيم على الشرق والغرب. ومات الإسكندر سنة 324 ق. م. وهو يعد العدة لغزو شمال أفريقية وإسبانيا وبلاد الغال، ليعود إلى وطنه من الغرب بعد أن تركه من الشرق. وكان في اتخاذه من بابل عاصمة لملكه ما يرمز لفكرته في توحيد العالم والجمع بين الشرق والغرب بعد موت الإسكندر تطاحن قواده على اقتسام إمبراطوريته العظيمة، وكانت عدة معارك وعدة تقسيمات إلى أن حدثت معركة ابسوس سنة 301 ق. م. فكان التقسيم النهائي. وليس يعنينا من تلك المدة المضطربة غير نتائجها النهائية، وقد تمخضت عن ثلاث ممالك كبيرة. مملكة أنتيجونوس بمقدونيا وبلاد اليونان، ومملكة سليكوس بسوريا، ومملكة بطليموس بمصر أما مملكة أنتيجونس فما زال اليونان يناهضونها العداء وتناهضهم، حتى انتهى الأمر بوقوع بلاد اليونان بيد روما الناشئة؛ فأصبحت مقاطعة رومانية منذ سنة 146 ق. م. وإنه وإن تكن الثقافة الآثينية لم تخب دفعة واحدة، إلا أن مراكز الثقافة الأخرى أخذت تحتل مكانها، ونحن لا نجد بآثينا خلال القرن الرابع غير الفلسفة والكوميديا، وأما ما دون ذلك من مظاهر النشاط الروحي فقد ذوى. فالشعر الغنائي قد جفت ينابيعه حتى لم يعد يقصد لذاته، بل لمصاحب الموسيقى على نحو ما نرى في الأوبراكوميك الحديثة. والشعر الهجائي وشعر الوجدان لم يعودا غير عبث باطل أو سخرية مصطنعة وأما الملاحم فكان عهدها قد انقضى بحيث أنه عندما كتب أنتيماخوس ملحمته عن أساطير طيبة ومغامرات هرقل لم يهز شعره نفساً، لأنه شعر مصنوع علم الشاعر فيه أوضح من روحه، وكذلك الأمر في التراجيديا التي لم يعد لها وجود يذكر لم يبق إذن بآثينا من فنون الأدب غير الكوميديا، فهي التي ترعرعت في ذلك الزمن، وقد انتهى بها الأمر إلى ما يسمى بالكوميديا الجديدة على يد فيليمون وميناندروس، وهي الكوميديا الأخلاقية: شئ مغاير للكوميديا القديمة، كوميديا أرستوفانس. فهي لم تعد نقداً لنظم الحكم وتيارات التفكير، بل تصويراً لشخصيات عادية يأخذها الشاعر من الحياة اليومية، ولكنها لاتصل إلى كوميديا النماذج البشرية أمثال: ألسست وهرباجون وترتيف لموليير، تلك التي يخلقها كبار المفكرين؛ فيهتدي بها الناس إلى أنفسهم ومع الكوميديا نجد كما قلنا الفلسفة، فقد نهضت إلى جوار الأكاديميا والليسية مدارس أخرى: مدرسة الرواق، وحديقة أبيقور، ثم مذهب إبزون والمذهب الكلبي، ونحن وإن كنا ننظر عندئذ، فلا نجد مقراً للفلسفة غير آثينا إلا في القليل من نحو ميجارا وبرقة، إلا أننا نلاحظ أن الكثيرين من فلاسفة ذلك العهد قد كانوا غرباء عن آثينا، فزينون من مستعمرة فينيقية بجزيرة قبرص وكليانتوس من مدينة أسوس بآسيا الصغرى، وكريزيبوس ولد بمدينة سوليس بآسيا الصغرى أيضاً. وفلسفتهم وإن تكن إغريقية بما فيها من تحكيم العقل والربط بينه وبين نظام العالم إلا أنها شرقية بروحها الذي يكاد يكون دينياً. ولقد نادت الرواقية بالجبر وقال الإبيقوريون بالمصادفة، وأنكر هؤلاء وجود الروح وأثبتها أولئك وتبلبلت الأفكار، فانتهى الأمر بالشك البيروني وامتدت كل تلك الآراء إلى تعاليم أفلاطون نفسه، فإذا بالأكاديمية تقول بالاحتمالية، وقد انهارت المثل فأنهار بانهيارها عنصر الثبات في المذهب. ومن هنا يتضح كيف أن كل هذه الفلسفات برغم ما في بعضها من نبل كالرواقية لم تكن بلا ريب إلا السبيل الذي قاد إلى الانحلال، وفيها إنكار للإرادة البشرية أو استسلام لأحداث الحياة أو توقف في الحكم، فيها عنصر سلبي خليق بأن يقوض حياة الشعب ذلك ما كان من أمر آثينا التي لم يعد بها كما رأينا غير الكوميديا والفلسفة، ولكن المملكتين الأخريين قد نشأت بهما مراكز فتية للثقافة، ففي آسيا الصغرى وسوريا نشأت بمملكة السيليكيين مدن كبيرة كبرجاما وأنطاكية، وفي مصر نشأت بمملكة البطالسة الإسكندرية ونيوقراطيس وبتوليماييس وإنه وإن تكن كل تلك المدن قد ازدهرت فيها الحياة المادية والروحية إلا أن واحدة منها لم تبلغ ما بلغته الإسكندرية، ومن هنا يصطلح علماء التاريخ، كما قلنا، على تسمية العصر الذي يقع بين الإسكندر الأكبر وأوغسطس إمبراطور روما باسمها وهو عصر لم يكد يتأثر بالثقافات الشرقية التي عاش بينها بحيث يخيل إلينا أن تيتيوس ليفيوس المؤرخ الروماني الشهير قد أصاب الحقيقة عندما قرر أن المدن اليونانية التي نشأت بالشرق إذ ذاك كانت (كجزر يونانية تضربها من جميع النواحي أمواج بحر من البرابرة)، ولقد كان الإغريق ينظرون إلى شعوب الشرق نظرة الغالب للمغلوب، نظرة السيد للمسود، وكانت شعوب الشرق بدورها تمقت أولئك الغزاة وتصدف عنهم، ولقد وجدنا في دستور نيوقراطيس ما يحرم على الإغريق الزواج من المصريات، وكانت مدن الإغريق في الشرق تعيش على النظام اليوناني، فللكثير منها مجالس تشريعية (إكليزيه وبوليه)، وحكام كحكام المدن الإغريقية الأوربية وإن تكن اختصاصات تلك المجالس وهؤلاء الحكام قد كانت شكلية استشارية أكثر منها فعلية نافذة، وكانت السلطة الحقيقية بيد الملك لم يصبغ الإغريق إذن بلاد الشرق بصبغتهم ولا لقنوه ثقافتهم في ذلك العصر، بل ظلوا غرباء عنه لا يكادون يؤثرون فيه أو يتأثرون به، وإنما تداخلت الثقافات في العصر الروماني وبعد ظهور المسيحية حيث امتزج التفكير اليوناني بالإيمان الشرقي في الأفلاطونية الحديثة التي هزت الروح الإنسانية كلها في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد عصر الإسكندرية إذن عصر إغريقي بحت، وهو مجرد اصطلاح تاريخي. فالحديث عن أدب الإسكندرية يتناول كل ما قيل من شعر ونثر في البلاد اليونانية كلها خلال ثلاثة قرون. والملاحظ على ثقافة ذلك العهد أنها أصبحت ثقافة علمية محصلة أكثر منها أدبية خالقة، كما أصبحت عالمية لا قومية وصناعة لا حياة. ولا غرابة في ذلك، فقد انتقلت الحياة الفكرية من الساحات العمومية (الأجوار!) إلى المكاتب والصالونات، انتقلت من حرارة الحياة إلى برودة الكتب، انتقلت من الحاضر إلى الماضي ومن الواقع إلى الفكر المجرد، نمت الدراسات التاريخية: تاريخ عام وتاريخ الفن والفنانين والكتب والكتاب، تاريخ الفلاسفة والعلماء. لقد أبتدأ العالم يعيش على ماضيه، ويجد في ذلك الماضي خيراً من حاضره. ونمت الدراسات العلمية: رياضة وطبيعة وطب وتاريخ طبيعي وجغرافيا ونحو وفقه لغة وموسيقى وكل هذه الدراسات مع ذلك لم تكن أصيلة. كانت جمعاً لا فلسفة فيه ولا نقد إلا بمقدار. لقد امتاز هذا العصر بثقافة موحدة سمحت حتى لذوي النفوس التافهة بأن يصبحوا أدباء وشعراء وبذلك امحت الفروق الشخصية ولم يعد للأسلوب الفردي غير وجود محدود في هذا الوسط العلمي نشأ أدب الإسكندرية، فكان نصف قائليه من العلماء. ولفهم البون الشاسع بين هذا الأدب والأدب الإغريقي القديم لا بد من أن ننظر في نشأة الفنون الأدبية المختلفة نظرة عاجلة نشأت فنون الأدب القديمة نشأة شعبية، فالقصص والغناء وإن كانا قد ظهرا معاً ملازمين فيما يبدو لنشأة الإنسانية، إلا أن القصص الأدبي قد سبق الغناء؛ فأعمال البطولة الماضية أفعل في خيال الرجل الفطري من الحاضر والقصص خليق بأن تستجيب له نفوس رجال يعيشون في نظام ملكي، حيث للملك هيبة وجلال يحملان أفراد الشعب على الإعجاب بالأبطال السابقين. وكانت الشعوب في جملتها زرعاً وبحارة وعمالاً لا يجدون في عملهم اليومي غير حرارته التي تشغلهم حيناً، ثم ينقضي العمل غير مخلف ما يشغل النفس، أو يهز الخيال. ولهذا صادفت ملاحم هوميروس ظمأ في النفوس حتى كان القرن الثامن ق. م. وقد انهارت الملكليات وحلت محلها نظم أرسطوقراطية أو ديمقراطية لا يتخللها الاستبداد الفردي إلا من حين إلى حين، وتقهقرت الحياة الجماعية القبلية وأخذت الشخصية البشرية تظهر وسط المجموع، وأصبح الحاضر يشغل الناس ويتعلقون به ناظرين فيما يحمل من مسرات وآلام، فظهر الشعر الغنائي بما يحمل من عنصر شخصي ومن أصداء الحاضر. وسارت الحياة وقد أصبح الإغريقي لا يقنع بالقصص أو الغناء بل يود لو تُصوَّر حياته وحياة آلهته ليراها بعيني رأسه ويشهد أحداثها بما فيها من معان فنشأ الشعر التمثيلي في القرن الخامس وكانت نشأة تلك الفنون موزعة بين الشعوب الإغريقية، فالقصص نشأ في إيوليا بآسيا الصغرى حتى ليكاد ينحصر الخلاف الجدي عن مولد هوميروس بين جزيرة كيوس ومدينة أزمير، ومن إيوليا أنتشر في إيونيا لينتهي أخيراً إلى أتيكا بأوروبا حيث دون بأمر بيزيستراتس مستبد آثينا في القرن السادس قبل الميلاد. وأما الشعر الغنائي فقد ظهر موزعاً حسب أنواعه. فالأغاني الشخصية: أغاني الشراب والغرام ولدت وازدهرت بلزبوس الإيولية. جزيرة (ألسية) و (سافو) تلك التي قالوا إن رأس أورفيوس قد أرست بها فأوت إلى أحد خلجانها. وشعر الجوقات، شعر الجماعات، شعر النصر والمواكب قد نشأ بين الشعوب الدورية الخشنة المحمولة على الجهاد النازعة إلى الحياة القبلية والنظم الأرستقراطية: ففي طيبة ولد بنداروس وباللهجة الدورية كتب أناشيد النصر التي لدينا. والشعر الهجائي وشعر الوجدان ذهبت بهما القبائل الأيونية، وأما الشعر التمثيلي ففن آثيني في جوهره ولقد كان لنشأة تلك الفنون بين هذه الشعوب ما يبررها، فالجنس الإيولي جنس مرهف الإحساس فنان المزاج مقبل على الحياة متأثر بأحداثها، والجنس الدوري كما قلنا جنس خشن مولع بالمعارك والانتصارات والإيونيون قوم أغنياء بمالهم وبحياتهم العقلية، والسخرية والوجدان خصائص تلازم حساسية العقل ولين الحياة. وأما الآثينيون فأهل نشاط عملي وإقدام على المغامرات ولا شك أن في المسرح ما يرضي تلك النزعات هكذا نشأت فنون الأدب، شعبية إقليمية. ومع ذلك لم تلبث أن أصبحت إغريقية عامة، فتكونت لغة قصصية مزيج من الإيولي والإيوني والأتيكي ولغة إيولية للأغاني الشخصية ولغة دورية لشعر الجوقات ثم اللغة الأتيكية للمسرح. وبلغ من ثبات تلك اللغات الأدبية وتخصصها أن رأينا شعراء آثينا مثلاً يكتبون باللغة الدورية الأجزاء الغنائية من مسرحياتهم تكونت إذن لغات أدبية مصطنعة , ولكن ذلك لم ينل من قوة الأدب الذي ظل متصلاً بالحياة حتى جاء عصر الإسكندرية، وقد اختلطت في المدن الجديدة الأجناس وانهار استقلال المدن القديمة وجفت الحياة العامة فنضبت ينابيع الأدب الذي لم يعد يتجه إلى الشعوب بل إلى نخبة من المثقفين. لم يعد خلقاً تلقائياً بل صناعة أو تزجية فراغ. لقد حلت فيه المهارة محل العبقرية، حل العلم محل نبض الحياة، حل الظرف والكياسة محل وثبات القلب وتأجيج القرائح لقد نشأ أدب الإسكندرية بعيداً عن الشعب، بعيداً عن الحياة، فجاء الكثير منه أدباً متكلفاً قليل الحظ من الصدق أدب الإسكندرية كنبات في بيوت من زجاج. ومع ذلك لم يذو النبات كله كما سنرى في المقال الآتي. محمد مندور