مجلة الرسالة/العدد 577/أحمد رامي
1 - أحمد رامي «مجلة الرسالة/العدد 577/أحمد رامي» للأستاذ دريني خشبة حاولت أن أكتب عن أحمد رامي غير مرة، فكان الشعر يغازل قلمي، وكانت الدنيا كلها تمتلئ بالغناء والموسيقى من حولي، وكانت ترجمته تجتمع في خيالي نشيداً طويلاً تاماً متسق الألحان متنوع النغم، يضرب العقاد في مثانيه من هنا، والقصبجي في مثالثه من هناك، وبقية السادة النُّجُب، أفراد التخت الموقر الخالد من فوق ومن تحت، يلوّنَون ويفتنّون، والصوت الإلهي المقدس يشيع في اللحن فيرف به في القلوب، ويملأ به المشاعر، ويطوف به على العذارى والمحبين والمكلومين، فَيِطب للكبد الحَّرى، ويأسو الفؤاد المحترق، ويكفكف الدمع في المقلة المؤرقة، ويرطب اللسان الظامئ، والفم الغرثان، بالأغاني الصامتة، والآهات الخافتة، فيتسلى محب، ويرق حبيب وكنت في كل مرة أستغني بهذا الخيال الجميل الحلو عن الكتابة، لأنه خيال روحي حي تمسخه الكلمات، وتزيفه تراكيب الجمل، ويُضَنُّ به على هذا الهراء الذي يسمونه التحليل في عالم النقد، وأسميه التزييف في دنيا الجمال. . . يتهمني كثير من إخواني القراء بأنني أسخو في ثنائي على الشعراء الذين أختارهم للكتابة عنهم، وابتسم لي الأستاذ الزيات مرة وأوصاني بالاقتصاد في هذا الثناء؛ فمن عذيري إذا لم أجد مندوحة عن الثناء على رامي!. . . رامي الذي أغرم العالم العربي كله بأغانيه، فأنصت إليها، وتغناها، وهتف بها، وداوى بسحرها آلامه، وأروى بسلسالها أُوَاَمه، وجعلها مشرع حبه، وترنيمة وجده، وتعلَّة هواه من منا أيها الإخوان لم يخل إلى نفسه فوجدها تردد أغاني رامي؟ ترددها راضية وترددها محزونة، وترددها مشوقة وترددها هائمة وترددها فرحة مرحة طروباً! من من أبناء هذا الجيل لم يملأ رامي عشرين عاماً من عمره السعيد المديد بما يمتلئ به قلبه من شعر وغناء ومحبة؟ من منا لم تسحره منظومات رامي التي أودعها أسرار قلبه، وسقاها مُنْهَلَّ دمعه، وخلط بها دمه ونجوياته وأمانيه؟! إن رامي العظيم الخالد، هو ذلك النبع الأول الصافي ذو الخرير، الذي تفتأ الحمائم الوُرق تحوْم من فوقه وتهوى إليه، لتحسو من صفحته الحسوة والحسوتين تبل ظمأ وتشفى جُواداً، ثم تسكن إلى الأفنان لتملأ الدنيا هديلاً، وتبشر المحبين برسالة رامي. . . رامي الذي يقول منذ ربع قرن: تغلغل الحب في فؤادي ... تغلغل الماء في الغصون وأرسل الحسن في قريضي ... من نوره الواضح المبين فجاء أحلى من الأماني ... بَسمن لليائس الغبين وجاء أشجى من الأغاني ... نَديَن بالوجد والحنين يا ريشة الوهم صوّري لي ... في صفحة الخاطر الحزين ما جف من يانع جَنيٍ ... وغاض من سلسل مَعِين ويا طيور الخيال خفي ... في دولة الليل والسكون وابكي فضاء صدري ... ورجعّي من صدى أنيني ورفرفي في على فائت تقّضي ... ترفضّ من ذكره شئوني ويخيل لي، وأنا أردد هذا الشعر الجميل من شعر رامي الذي حفظته منذ ذلك العهد، أن أحداً من الناس لا يستطيع أن يكتب عن رامي دون أن يغازل الشعر قلمه كما يغازل قلمي الآن. وللكتابة عن الشعراء الممتازين أو الأدباء الممتازين خطط متنوعة سهلة كلها، يسير على المؤرخ أو الناقد. . . ولعل أصعب هذه الخطط وأشدها عسراً على الناقد أو المؤرخ، هي تلك التي يغازل الشعر فيها قلمه، فلا يدعه يقول ما يريد، ولا يتركه يسير في تلك السبل السهلة المعبدة التي سار فيها الكتاب قبله. فيبدأ بكلمة عن نشأة الشاعر والبيئة التي أرضعت بلبانها خياله وغذت بثمارها وجدانه، وسلطت ظبائها وألوانها وأضواءها على قلبه تنوشه وتطبع على شغافه الأحمر والأصفر والوردي والبنفسجي، وتضوّي سويداءه استعداداً لتلقي وحي السماء ثم يتناول بعد ذلك الظروف التي هيأت للشاعر قول الشعر، ومما يتردد في تلك الظروف من غزل ونظر ودعابة، تنقلب آخر الأمر إلى قلب يرتجف ولسان يتلجلج، ودمع يترقرق وعين مؤرقة، وكبد محترقة وخيال كامل شامل يتسع للأرض والسموات، ويد تتناول القلم، هذا المخلوق العجيب، فتسجل الآيات البينات، ترسلها كلاماً موسيقياً موزوناً حافلاً بالمعاني الفريدة، ثم يفرغ - أي الكاتب أو المؤرخ - إلى شعر هذا الشاعر ينقده ويزنه، ويظل يقول لك هذا جيد وهذا رديء، وذلك متوسط، وذاك غامض، وتلك الفقرة لا معنى لها، وهذا الشطر لا خير فيه، حتى إذا كنت قد كونت لنفسك رأياً في الشاعر قبل أن تقرأ هراء الناقد. وحتى إذا كنت قد أغرمت بشعره، ورضيت عن طرائقه وموضوعاته، تسلمك لناقد المحترم بآرائه فلا يدعك حتى تغثي نفسك ويتقزز خيالك، وتمسخ الصورة الجميلة الرائعة الحبيبة فتصبح هولة أو سعلاة. . . أما الخطة التي يغازل الشعر فيها شباة القلم، فلا تتأتى إلا إذا كانت ثمة صلة روحية بين الشاعر والناقد. ولقد أراد المرحوم الأستاذ صادق عنبر أن يكتب كلاماً ما يجعله مقدمة لديوان رامي، فلم يستطع أن يقول شيئاً. ولكنه كتب سطوراً جميلة، يحمل كل منها بيتاً منثوراً من الشعر، لا يصله بالبيت السابق ولا يربطه بالبيت اللاحق سبب من الأسباب. . . وإليك نموذجاً من أوائل هذه الأبيات: عرفته فتياً يخف للشعر ويجتمع له. . . الخ وعرفته وقد لبس الشباب، وإذا شمائل مرجوة المخايل. . . ثم عرفته شاعراً غزلاً يشبه أن يكون كالبهاء. في الضحك والبكاء. . . وإنك لتراه، فتقرأ شعره فيه. . . وتقرأ له فتراه في شعره، لقد رق مزاج شعره، وعذب على النفس اطراده. . . ويندر أن تلقاه إلا باكياً أو ضاحكاً. . . فإذا بكى. . . وإذا ضحك. . . وهكذا إلى آخر الصفحات الثلاث التي قدم بها للجزء الأول من ديوان رامي الذي يشمل شعر صباه بين سنتي 1916، 1917 وأنا ولله أعذر المغفور له الأستاذ عنبر وأطلب من الله الرحمة، فرامي من الشعراء الذين تصعب الكتابة الموضوعية عنهم، وقد غازل الشعر قلم عنبر كما يحاول أن يغازل قلمي الآن، وكما غازل قريحة شوقي - رحمه الله - حينما قدم للجزء الثاني من ديوان رامي بأبيات ثمانية يقول في أولها: ديوان رامي تحت حاشية الصبا ... عذب عليه من الرواة زحام بالأمس بل صدى النهى وسمْيُّه ... واليوم للتالي الولي سجام شعر جرى فيه الشباب كأنه ... جنبات روض طلهن غمام في كل بيت مجلس ومدامة ... وبكل باب وقفة وغرام والبيت السابع أما زهير فقد سما (هرم) به ... ولتسمون بشعرك الأهرام. . . وإذا استثنينا البيت الثالث من هذا الكلام العجيب، طلبنا من الله لشوقي الرحمة، كما طلبناها للأستاذ عنبر. . . ولعل أصدق كلمة قيلت في شعر رامي هي تلك التي كتبها حافظ - رحمه الله - يحي بها هذا الجزء الثاني الرائع من ديوان رامي، الذي يجمع شعر صباه أيضاً (1918 - 1920). قال حافظ: (أدمنت النظر في شعر رامي، فإذا به من ذلك النوع الحسن الذي يعجزك تعليل حسنه. تسمع البيت منه فيشيع الطرب في نفسك قبل أن تعلم مأتاه، وقبل أن يتطلع العقل إلى فهم معانيه. ذلك هو شعر النفس، وهو أرقى مراتب الشعر ورامي شاعر موفق الشيطان إذا تغزل أو وصف، رقيق حواشي الألفاظ، بعيد مرامي المعاني، يقول الشعر لنفسه، وفي نفسه، فإذا جلس إليه، وسنح له المعنى العصري، تخير له اللفظ السَّرِي وهو كثير الاعتماد على نفسه في شعره، فلا يتسلق على كلام غيره، وأثر ذلك بيّن في غزله ووصفه، فقد نحا فيهما منحى عصرياً جديداً، أكرمهما فيه عن عنجهية البداوة، وركاكة أولئك الذين تصدوا لقرض الشعر، فوضعوا أمامهم مشقاً من الشعر الغربي، وترجموا معانيه، ولكن إلى أَلاّ لغة، فجاء أسلوبهم يرتضخ أعجمية، وأسلوب رامي يتدفق عربية. فديوانه سلوة العاشق، ونزهة المتأمل) وحافظ رحمه الله صادق جداً في معظم هذه النظرة السريعة المركزة في شعر رامي، وإن ظلمه بقصر نبوغه على الغزل والوصف، إذ عبقرية رامي عبقرية متعددة النواحي، إذا جاء الغزل وأشعار الغرام في أولها، لم يأت شعر الوصف في المرتبة الثانية مباشرة، بل سبقته ألوان زاهية زاهرة من شعر رامي. . . في مقدمتها ذلك الشعر الإنساني الرفيع الذي سوف نتحدث عنه بعد أن نذكر لك هذا الكلام جرى الكتاب على إثباته والذي تعرف أكثره؛ فنذكر أن رامي ولد بالقاهرة سنة 1898، أي في السنة التي عرفنا أن أخانا الشاعر المحبوب (ناجي)، وأن شاعرنا الجليل الموهوب (عزيز أباظة) قد ولدا فيها. وأن والده كان طبيباً كبيراً معروفاً، وأنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم زهد في حرفة التدريس ففرغ لقرض الشعر مستعيناً براتبه الحكومي ومنصبه في دار الكتب، وما تدره عليه أغانيه ودراماته الشعبية من ربح حلال لا أظن أنه ينتفع بمعظمه، وإنما ينتفع به البائسون والمحتاجون. . . (يتبع) دريني خشبة