مجلة الرسالة/العدد 578/فساد الطريقة

مجلة الرسالة/العدد 578/فساد الطريقة

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1944


2 - فساد الطريقة

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

(عدم الدقة أيضاً)

ومثل آخر يجمع صنوفاً من عدم دقة صاحب الكتاب، موقفه من السجع. فإننا صرفنا النظر عن موقفه من سجع القرآن نجد صاحب الكتاب غير دقيق في تعبيره، وغير دقيق في تفهم كلام غيره، كما نجده غير دقيق في تقسيمه بل في تفكيره، حتى لتبلغ أغلاطه من هذه الناحية أحياناً مبلغ التناقض

فمن عدم دقته في التعبير خلطة بين السجع والازدواج في شاهدين من شواهد ثلاثة استشهد بها من كلام ابن المعتز (على أن التزام السجع لم يغلب غلبة مطلقة كما سنرى عند كتاب القرن الرابع، وإنما هي طلائع لهجوم السجع نراها عند كتاب القرن الثالث) كما يقول

فأول الشاهدين قدم له صاحب الكتاب بقوله من صفحة 82 من الجزء الأول: (ولابن المعتز من كلمة ثانية يغلب عليها السجع والازدواج) ثم ذكر سطرين أو أكثر قليلاً من كلام ابن المعتز يغلب عليهما الازدواج وليس فيهما إلا سجعة واحدة. فليس فيهما إذن ما يدل على غلبة السجع على كلمة ابن المعتز وإن كان فيهما ما يصح أن يدل على غلبة الازدواج. والدقة كانت تقتضي أن يأتي بشاهد يدل على غلبة الاثنين، فإن كان لا بد أن يكون أحدهما أظهر فليكن السجع لا الزدواج، لأن الموضوع موضوع السجع، والفصل فصل أطوار السجع، والاستنتاج متعلق بالسجع وطلائع هجومه عند كتاب القرن الثالث

وثاني الشاهدين كأولهما في دلالته، فقد اقتبس صاحب الكتاب لنفس الغرض من كلمة أخرى لابن المعتز ما يزيد قليلاً عن أربعة أسطر يغلب عليها الازدواج، ولا تحوي إلا سجعتين متفرقتين لا تدلان على أن السجع كان يغلب على كلمتي ابن المعتز كالازدواج، ولا على ما أراد صاحب الكتاب أن يستدل عليه من بدء هجوم السجع في القرن الثالث، لأن مثل الفقرتين المشار إليهما يمكن استخراجه لكاتب ما من المشاهير أو غير المشاهير بين كتاب أي قرن. فليس فيهما إذن دلالة خاصة عن السجع في قرن خاص كالقرن الثالث، خصوصاً، وقد زعم صاحب الكتاب في الصفحة قبل ذلك أن السجع بعد أن ضعف سلطانه قليلاً في العصر الأموي - وكان غالباً فيما زعم على عصر النبوة - أخذ يسترد قوته في أواخر القرن الثاني. وهذا معناه أن طلائع هجوم السجع ظهرت لا في القرن الثالث ولكن في أواخر القرن الثاني إن كان لكلام هذا الرجل قيمة ووزن، ولم يكن يكتب كل ما يرد على خاطره من غير تمييز أو تمحيص

ولم يقف صاحب الكتاب عند مجرد القول إن السجع (عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني) بل تجاوز ذلك فزعم أنه بدأ يرى في أواخر القرن الثاني (رسائل يكاد يلتزم فيها السجع). فإن صدق في قوله هذا كان ذلك أدل على الحين الذي أخذ السجع يغلب فيه من الشاهدين المشار إليهما آنفاً من كلام ابن المعتز في النصف الثاني من القرن الثالث، لأن ذينك الشاهدين ليس فيهما التزام ولا شبه التزام للسجع كما بينا لك. صحيح إنه جاء لابن المعتز بفقرة ثالثة طويلة كلها سجع لكنه كذلك جاء بفقرة فيها طول لكلثوم بن عمرو العتابي يؤيد بها قوله إن القرن الثاني شهد في أواخره رسائل يكاد يلتزم فيها السجع. فهذا كاتب من القرن الثاني وذاك كاتب من القرن الثالث، وبكل استشهد صاحب الكتاب على أن السجع بدأ يغلب في زمنه. وواضح أنه إذا كان السجع بدأ يغلب في أواخر أحد القرنين فمن المستحيل أن يكون بدأ يغلب في أواخر القرن الآخر؛ فصحة أحد القولين تبطل صحة القول الآخر من غير ريب على أننا إذا رجعنا إلى ما زعم صاحب الكتاب في أول صفحة 81 من أن السجع (كان يغلب على النثر في عصر النبوة، ثم أخذ سلطانه يضعف قليلاً في العصر الأموي وإن حرص عليه القصاص والخطباء وناقلوا أحاديث الأعراب) وقارنا ذلك بقوله عن السجع عقب ذلك مباشرة (إنه عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني، وبدأنا نرى وسائل يكاد يلتزم فيها السجع). فإننا نجد رأياً ثالثاً لصاحب الكتاب لا يتفق مع بدء غلبة السجع في أواخر القرن الثاني ولا الثالث. ذلك أن السجع إذا كان غالباً في عصر النبوة فضعفه قليلاً في العصر الأموي معناه نقص في مقدار غلبته لا انمحاؤها، فهو إذن في زعم صاحب الكتاب كان أيضاً غالباً في العصر الأموي وإن دون غلبته في عصر النبوة؛ وهذا هو معنى وصف الضعف بالقلة إن كان لذلك الوصف معنى. وإذن تكون عودة السجع إلى استرداد القوة في أواخر القرن الثاني معناها عودته إلى ازدياد الغلب لا إلى اكتساب الغلب. فالسجع حسب هذا الكلام من صاحب الكتاب كان غالباً في العصر النبوي، وظل غالباً في العصر الأموي، وإن إلى درجة أقل، ثم ازداد غلبه وظهوره في أواخر القرن الثاني. فلا معنى إذن لقوله بعد ذلك إن طلائع هجوم السجع بدأت تظهر في القرن الثالث في حين لم يسبق قول بأن السجع فقد الغلبة التي كانت له في القرنين الأولين إن صح ما زعم صاحب الكتاب

فالمسألة كما ترى ليست مجرد عدم دقة في التعبير ولكنها في حقيقتها قلة تحقيق وعدم دقة في التفكير

لكن من عجيب أمر صاحب الكتاب، وذاك كلامه عن السجع في القرنين الأولين، أن يسمى السجع في القرن الثالث بدعة كما ترى من قوله في صفحة 83:

(ومن أظهر الدلائل على ذيوع بدعة السجع في القرن الثالث ما رأيناه من حرص ابن داود على وضع عناوين الفصول مسجوعة في كتاب الزهرة)، وهو لم يكن ذكر قبل أن السجع كان قد اختفى أو تضاءل لا في القرن الثاني ولا في أوائل القرن الثالث حتى يصح إذا عثر على نص منه أو نصوص في أواسط القرن الثالث أو أواخره أن يعد ذلك بدعة ذاعت يستدل على ذيوعها باطراد السجع في عناوين الفصول من كتاب

ثم بيْنا أنت تقرأ له هذا في صفحة 83 إذا بك تقرأ له في صفحة 96 من نفس الفصل: (وكلام ابن الأثير يؤيد ما انتهينا إليه في أثناء هذا الفصل من أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع طوال القرن الثاني والثالث)! وابن الأثير صاحب المثل السائر عاش في أوائل القرن السابع، وكلامه لم يكن في تاريخ السجع متى ظهر وغلب، أو متى ضعف واختفى، ولكن كان في مدح السجع إذا استوفى شروطه؛ فكيف يمكن أن يكون ذلك في كلامه ذلك ما يؤيد ما انتهى إليه صاحب الكتاب في تاريخ السجع وتطوره؟ ثم إذا كان ما انتهى إليه صاحب الكتاب في أثناء الفصل هو (أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع طوال القرن الثاني والثالث) فكيف يمكن أن يكون السجع عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني؟ أم كيف يستقيم أن يسمى السجع في القرن الثالث بدعة يلتمس لذيوعها الدليل؟ إن تلك الجملة التي لخص فيها صاحب الكتاب ما انتهى إليه لا تدع له محلاً للاستثناء في أمر السجع وذيوعه، لا من ناحية الزمن ولا من ناحية الكلام، فليس أشمل من ناحية الكلام من أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع، وليس أكثر استغراقاً من ناحية الزمن من قوله إن ذلك كان طوال القرنين الثاني والثالث

فهذه نقطة واحدة بسيطة تضارب صاحب الكتاب فيها عدة مرات

على أننا إذا تركنا اضطراب صاحب الكتاب في السجع في القرون الثلاثة الأولى، وذهبنا إلى القرن الرابع الذي هو الأصل في بحثه، لم نجده فيه أقل اضطراباً ولا أكثر دقة وتحقيقاً

وأول ما تلقاه من فصل السجع والازدواج (صفحة 113) أربعة أسطر يخبرك صاحب الكتاب في الأولين منها أنه بين لك أطوار السجع في النثر الفني، وأنك رأيت كتاب القرن الأول والثاني والثالث يتنقلون بين السجع والازدواج، ويذكر لك في السطرين الآخرين أن التزام السجع صار من خصائص نثر القرن الرابع، وأن كتابه لا يتحررون من السجع إلا إلى الازدواج! فإن كنت ترى فرقاً بين هذا الذي ذكر لك عن كتاب الرابع وذلك الذي أخبرك عن كتاب الأول والثاني والثالث كنت كبير النصيب من قوة الخيال، فإذا قرأت له عقب ذلك عن القرن الرابع قوله: (ولم يخرج من كتاب هذا العصر إلى الحرية في الصياغة الفنية إلا عدد قليل) عجبت أولاً كيف يكون التزام السجع من خصائص النثر الفني في القرن الرابع ويكون بين كتابه مطلقاً من يؤثرون الحرية في الصياغة الفنية، قلوا أو لم يقلوا، وعجبت ثانياً كيف ينبه صاحب الكتاب إلى الحرية الفنية في القرن الرابع دون القرون الثلاثة قبله، كأن القرن الرابع كان أقل التزاماً للسجع من تلك القرون

ثم تقرأ له بعد ذلك تقسيم كتاب القرن الرابع إلى طوائف ثلاث: طائفة تلتزم السجع وتزاوج قليلاً، وطائفة تؤثر الازدواج، وتسجع قليلاً، وطائفة تؤثر الحرية، فلا تسجع أو تزاوج إلا قليلاً. وقد عد لك من الأولى تسعة، منهم الخوارزمي ومن الثانية ثمانية منهم ابن العميد، ومن الثالثة سبعة منهم ابن مسكويه

فإذا قارنت بين عدد من عدّ لك من كتاب الطوائف الثلاث عجبت كيف وصف الطائفة الثالثة من قبل بالقلة وهي سبعة أثمان الثانية وسبعة اتساع الأولى إن كانت تلك الأرقام تتناسب مع اتساع كل طائفة كما ينبغي أن تكون. على أنه بعد ذلك قد زاد في الطائفة الثالثة حين عد منهم إخوان ثم يأخذك عجب أشد حين تقرأ له في صفحة 115: (وإذا نظرنا في نثر ابن العميد وجدنا الحرية غالبة عليه، ولكنا نراه يلتزم السجع أحياناً، كأن يقول. . .). ويأتيك بمثل كله سجع. يشتد عجبك حين تقرأ هذا، وتتساءل كيف أمكن أن يخطئ صاحب الكتاب هذا الخطأ، أو كيف أمكن أن يتراخى في التعبير إلى هذا الحد: يجعل ابن العميد على رأس الطائفة الثانية، ثم يقول إن الحرية تغلب عليه فيحشره مع الطائفة الثالثة! أي باحث هذا الذي يقسم فلا يحسن التقسيم، أو يطبق فلا يحسن التطبيق؟

فإذا خطر لك أن تستقري ما أورد صاحب الكتاب من نثر ابن العميد لترى إلى أي الطائفتين ينسبه في الحقيقة، انقلب عجبك سخرية بهذا الباحث الذي يجعل ابن العميد على رأس طائفة، ثم يدخله بالوصف في طائفة أخرى، ثم لا يورد له من شواهد نثره في كتابه بجزأيه إلا ما يخرجه من الطائفتين جميعاً ويلحقه بالطائفة الباقية! لأن ابن العميد في تلك الشواهد يسجع أكثر مما يزاوج، بل الازدواج قليل في تلك الشواهد بالنسبة إلى السجع، أما الحرية فليس له منها إلا أقل من القليل

وإذا كان هذا هو مبلغ تناقض صاحب النثر الفني في الحكم على نثر كاتب مشهور مثل ابن العميد، حتى فيما الحكم فيه سهل، فكيف يمكن أن يوثق أو يطمأن إلى حكمه على من ذكر أو لم يذكر من كتاب القرن الرابع أو غير القرن الرابع؟

الحق أن الرجل لا يحسن تقسيما ولا حكما، ولا استقراء ولا استنباطاً، وإن نادى على نفسه أنه باحث كبير يستطيع الخروج على الإجماع حتى في أمر القرآن

محمد أحمد الغمراوي