مجلة الرسالة/العدد 578/محرجات. . .

مجلة الرسالة/العدد 578/محرجات. . .

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1944



للأستاذ علي الجندي

كان المجلس مرصعاً بكواكب لامعة من الأدباء والأديبات، فدار الحديث حول مبالغة بعض الناس في كتمان سنهم، وأن أديباً كبيراً قضى نحبه ولم يعرف سنه أحد! حتى كأنها من مفاتح الغيب التي استأثر الله بعلمها! وهنا انبرت أديبة نابهة فقالت:

الناس جميعاً في ذلك سواء بدليل أن الأستاذ - وأشارت إلى - لا تسعفه شجاعته بإخبارنا عن سنّه! فدارت بي الأرض الفضاء، وأطرقت قليلاً أزور في نفسي كلاماً، فلحظت الشيطانة ذلك، وعلمت أن وراء الإطراق ما وراءه! فاستدركت قائلة: على شرط أن يقول الصدق كل الصدق، لا شيء غير الصدق!

ويحك أيتها الإنسانة! إن الصدق ليكون أحياناً معجزة للمرء كما يقول بعض السلف رحمه الله!

ومع أني لم أتجاوز دائرة الشباب، وهي دائرة (مرنة) والحمد لله! ومع أني لا أستجيز الكذب إلا في الشعر، فقد أحسست ميلاً شديداً إليه! وخيل إلى أنه لا بأس في هذا المقام أن أطرح من عمري بضع سنوات! ولكني عدت فتذممت من ذلك، ووجدت عنه مندوحة في قولي:

أعلم أني ولدت في أيام حرب من الحروب المشهورة، فقال أديب: لعلها حرب البسوس! وقال آخر: لعلها حرب الردة! فقالت الأديبة: هذا تحامل شديد! أظنها: حرب (المائة عام)! فقلت: ولم لا تكون حرب (الوردتين)! فضحكوا وضحكن! وانفسح المجال للمفاكهة البريئة، فتنوسي السؤال، وكفى الله المؤمنين القتال!

وحينما كنت مدرساً بالتجارة، جاءتنا من الوزارة (نشرة) تطلب فيها من المدرسين أن يخبروها بأسمائهم وعناوينهم وشهاداتهم ومرتباتهم وأسنانهم، والخطب فيما عدا السن يسير، ولكن من الذي يستطيع أن يدون أسمه على مرأى ومسمع من زملائه؟! أشهد لو أن الوزارة ضاعفت لهم الحصص، أو قطعت عنهم المرتبات ما ثاروا عليها هذه الثورة! وطال تردد المسألة بين الناظر والمدرسين على غير طائل حتى كادت تحدث الجفوة، وأخيراً فطن الناظر لما كان يجب أن يفطن له أولاً، فاستدعاهم إلى مكتبه، وقال - وهو يضحك - لقد عرفت السر! ليبح كل واحد منكم لي بسنه على انفراد وعليّ عهد موثَّق أن أطويه في صدري! وهنا برح الخفاء وانفرجت الشفاه عما أجنته السرائر! ولكن أستطيع أن أزعم: أن كثيراً مما قيل تبرأ منه شهادات الميلاد!

وإني لأعرف قوماً يجهلون زمن مولدهم! أو قل: يتجاهلونه فلا يحتفلون به، كما يحتفل بعض الناس! ويلذ لهم أن يذهلوا عنه عامدين متعمدين! ومع أن ذلك مغالطة في الحقيقة المرة لا تجدي عليهم شيئاً، إلا أن النفوس تأنس لهذه المغالطة وتسكن إليها!

ولا يصح أن يكون هذا موضع العجب، لأنه فطرة في الإنسان يستوي فيها الرجل والمرأة، فالتعلق بالشباب يعادل التعلق بالحياة، بل الحياة في أنضر عهودها وأبهى مظاهرها، وكل سنة تمر علينا تبعدنا من هذا الشباب المحبب المرموق بقدر ما تدنينا من شيء كريه مقيت هو الهرم الذي يسلمنا إلى الفناء! وإنه ليروعك أن ترى شاعراً زميتاً جاداً صارماً كالمتنبي يبكي الشباب، وهو يرفل في ورقه النّضر ويمرح في ظله السابغ فيقول:

ولقد بكيت على الشباب ولِمّتي ... مُسودّة ولماءِ وجهي رونق

حذراً عليه قبل يوم فراقه ... حتى لكدت بماء جفني أشرق

وصدق عمرو بن العلاء في قوله: ما بكت العرب شيئاً ما بكت الشباب، وما بلغت به قدره. كما صدق الأصمعي حين يقول: أحسنُ أنماط الشعر: المراثي والبكاء على الشباب!

وإنك لمستطيع أن تقدر مبلغ حرص الإنسان على الشباب، وحسرته على زواله من هذه النادرة التي حدثت بين الرشيد ومغنّيه إبراهيم الموصلي، مع ما يملك الملوك من وسائل تغنيهم عن الشباب أو تعزّيهم عنه على الأقل: جاء في أمالي المرتضى: أن إسحاق الموصلي حدث عن أبيه إبراهيم. قال: غنيّت بين يدي الرشيد يوماً والستارة منصوبة:

وأرى الغوانيَ لا يُواصلن امرأً ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

فطرب الرشيد واستعاده وأمر لي بمال. فلما أردت الانصراف وجه إليّ كلاماً شديداً وقال: أتتغنى بهذا الصوت وجواريّ من وراء الستارة؟! لولا حرمتك لضربت عنقك! قال إبراهيم فتركت الصوت والله حتى نسيته!

وقد كنت أظن أن كتمان السن والمغالاة في إخفائه من سمات العصر الذي لانت فيه الأخلاق، واشتد الحرص على المتع، وكثر فيه الزور والزيف، ولكني وجدت ذلك سنة القدامى من أعلام السلف؛ ففي النجوم الزاهرة: أن الإمام أبا بكر الأنصاري كان إذا سئل عن سنه يقول: أقبلوا على شأنكم، لا ينبغي لأحد أن يُخبر عن سنه؛ إن كان صغيراً يستحقروه، وإن كان كبيراً يستهرموه! ثم ينشد:

لي مُدّة لابدّ بالغها ... فإذا انقضت وتصرمت مِتُّ

لو عاندتني الأسدُ ضاربةً ... ما ضرّني ما لم يَج الوقت

وفي نفح الطيب يحدث المقَّري الأكبر عن نفسه قائلاً:

كان مولدي بتلمسان، ووقفت على تاريخ ذلك، ولكني رأيت الصفح عنه، لأن أبا الحسن بنُ مؤمن سأل أبا طاهر السَّلفي عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت أبا الفتح بن زيّان عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت علي بن محمد ابن اللبان عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سالت حمزة ابن يوسف السهمي عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت أبا بكر المنقري عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت الترمذيّ عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت مالك بن أنس عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ ليس من المروءة للرجل أن يخبر عن سنه!

وقد زاد بعض الأقدمين على كتمان السنّ، كتمان السر والمال والمذهب، وفيها يقول الحسين البغدادي كما نقله معجم الأدباء:

احفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ ... سر ومالٍ، ما استطعت، ومذهب

فعلى الثلاثة تُبْتلَى بثلاثة ... بمفكّر وبحاسد ومكذّب

وقد جاء في كتمان المال: ما رواه الكامل في المبرد: من أن عبد الملك بن مروان سأل عبد الله بن يزيد بن خالد - وكان من العقلاء - عن مقدار ماله، فقال له: شيئان لا عيلة عليْ معهما: الرضاء عن الله، والغنى عن الناس. فلما خرج قيل له: هلا أخبرت الخليفة! قال: لا يعدو أن يكون قليلاً فيحقرني، أو كثيراً فيحسدني.

علي الجندي