مجلة الرسالة/العدد 58/رسالتان فلسفيتان

مجلة الرسالة/العدد 58/رسالتان فلسفيتان

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 08 - 1934



بين فولتير وروسو

للأستاذ خليل هنداوي

طوَّح بليسبونة زلزال روَّع النفوس وذهب بكثير الضحايا، فواع فولتير - وهو رسول العطف - أن تعمد العناية الإلهية إلى مثل هذه الوسائل في أعلاه الشر، فهاجم ربوع القائلين بنظرية الخير الشامل، وأين هو الخير؟ ونظم هذه المقطوعة يرثى بها من نكبهم الزلزال، ويتخذ منه برهاناً يؤيده في جحوده العناية الإلهية، ويرى أن الوجود مبنيُّ على الشر والعذاب. وأجابه رو سو على مقطوعته برسالة فلسفية عميقة ينكر عليه هذا الإسراف في التشاؤم، وهذا الاستسلام الأعمى لسلطان العاطفة، ويظهر فلسفة الرضا عن الوجود وعن أنظمته برغم ما يشيع في بعضها من فساد، ويعتقد أن هذا الكون هو خير ما أبدعته فكرة المبدع (إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان).

وهذه هي المقطوعة:

(أيها الأموات التعساء! أيتها الأرض الخاشعة!

أنتم يا من قذفتكم قواذف لا معنى لوقعها).

وأنتم أيها الفلاسفة الذين تصيحون في الأرض (ليس على الأرض إلا الخير).

تعالوا معي واهرعوا إلى هذه الخرائب الدامية، هذه البقايا الهاوية، انظروا الرماد الحائل، وهؤلاء النساء والأطفال يتهاوى بعضهم على بعض مهشمي الأعضاء تحت الحجارة، وهناك ألوف الضحايا التهمتها الأرض.

وجوه دامية، وقلوب خافقة، وأشلاء ممزقة.

قد ماتوا! ولم يدركهم مسعف.

ماتوا! وهم ينظرون إلى الموت

أتقولون أيها الفلاسفة،

وأنتم تسمعون أنينهم وترونهم وهم يحتضرون:

(إن هذا إلا صنع الشرائع الخالدة، وإن إلهاً حراً في مشيئته شاء لهم ذلك).

أتقولون: إن الآلة قد انتقم لنفسه منهم لأنهم كانوا آثمين، وما كان تقتليهم إلا جزاء آثامهم.

فأية جريمة أم أي رجس فعل هؤلاء الأطفال الذين لقوا مصارعهم على صدر أمهاتهم؟

ليسبونة التي أمست لاشيء، أكانت أكثر رذائل من (لوندرة) ومن (باريس) الغارقة في بحر من الملذات. ليسبونة هوت في الهاوية. وباريس لا تزال ترقص.

إن بعض المشاهدين يتأملون في مصيبة إخوانكم وهم يتحرون عن أسباب العاصفة بهدوء وسلام.

ولكنهم حين يشعرون بضربات الحظ الأعمى تنصب عليهم، يتحرك في نفوسهم معنى الإنسانية، ويبكون مثلنا على مصارعهم.

آمنوا إني صادق الشكوى واللوعة!

وأن مظالم الحظ شائعة في كل مكان. .

ذروني أشْكُ!

كل شيء في العالم يئن، بعضه يفني بعضاً!.

وكل شيء يولد للهموم والأذى.

وأنتم - هنا - تجعلون من شقاء كل موجود سعادة مطلقة، فأية سعادة أسندوها إليك أيها الإنسان الذي يكتنفه الموت والضعف والشقاء. . .؟

أنتم تصيحون هاتفين (ليس على سطحها إلا الخير!)

الوجود يكذبكبكم، وقلوبكم تدحض أراءكم!

وهذه عناصر المادة، حيوانها وإنسانها وجمادها، كلٌ في نزاع مستمر!. . .

يجب أن تقولوا معي (ليس على سطحها إلا الشر)

إن سر الوجود لا يزال مجهولاً. . .

فهل يصدر هذا الشر عن مصدر صاحب الخير نفسه؟ ولكن يكف يُدرك الفكر أن رباً يزجي إلى أبنائه الخير الذي يرتضيه لهم، هو بذاته يصب عليهم سوط عذابه؟ أية عين تستطيع أن تتبين في هذه الأغوار العميقة؟. لا يمكن أن يكون مصدر الشر كله من الوجود.

والشر لن يرسله أحد غير الله، لأنه هو سيد الوجود وهو الكائن في كل موجود.

يالها من حقائق مؤلمة!. .

وياله من مزيج لعناصر متباينة!. . .)

وهذه هي الرسالة التي كتبها رو سو جواباً على هذه المقطوعة: (اسمح لي أيها العزيز بأن أشكو إليك من هذه العقيدة، إذ كنت أرتقب منك ما هو خير وأهدى لهذه الإنسانية التي تريد منك أن تنفس عنها. أنت تلوم (بوب) و (ليبنتز) لأنهما خففا عن الإنسانية عذابها بإعلانهما (أن لاشيء عليا إلا الخير) ورحت ترينا شقاءنا وتهدينا إلى تعسنا، تدفعك إلى هذا عاطفتك الهوجاء؛ وبدلاً من أن تكون رسول تعزية لي لم تعمل إلا على إثارة حزني. قد يقال إنك تخشى أنني لا أرى مبلغ شقائي في هذا الوجود، وأنك إذا تركتني أسيء الظن بالكون تخفف عني شقائي.

قال لي (بوب وليبنتز): صبراً أيها الإنسان فان الألم شيء ضروري في الطبيعة والوجود، فان الموجد الخالد الحسن الذي يحكم هذا العالم ودّ أن يعصمك فيه عن كثير من الأنظمة المطلقة، فانتخب نظامًا هو أصلح الأنظمة وأقلها شراً وأكثرها خيراً، فلماذا المكابرة؟ لنقل هذه الكلمة وان كانت قاسية: (إذا لم يصنع إله الكون خيراً مما صنع، فلأنه لا يقد على أن يصنع خيراً منه) وأنت ماذا تقول لي في قصيدتك؟ تقول: تألم إلى الأبد أيها الشقي، فإذا كان - ثمت - خالق أوجد فهو قادر بدون شك على أن يزحزح عنك آلامك ويطلق نفسك من قيودها. ولكن لا ترج من آلامك أن تتزحزح، لأن من المحال أن تعرف لماذا وجدت إذا لم توجد للألم والموت.

إنني لأراني أتحرى عن أسباب الشقاء الأدبي في الإنسان الحر الكامل والإنسان الفاسد. وأما الشقاء المادي فإذا صح ما أشعر به فان بين المادة الحساسة والمادة الجامدة الميتة نزاعاً مستمراً، فهذا الشقاء وجوده محتم في كل جزء يتصل به الإنسان. وإذ ذاك يصبح سؤالنا (لماذا لم يخلق الإنسان سعيداً) لغواً لا معنى له. وإنما يسأل (لماذا وجد الإنسان)؟

وأقول: إن كل مصائبنا - ما عدا الموت - إنما نوطن لها بأسباب تتقدمها، وجل مصائبنا المادية تجنيها علينا أيدينا، عد إلى موضوع قصيدتك نفسها، وهب أن الطبيعة لم ترفع هنالك عشرين ألف منزل بطبقات مختلفات، وأن سكان هذه المنازل قد توزعوا فرقاً فرقاً في مساكن حقيرة، أفليست النكبة تكون أهون شراً إذا كان لا مفرَّ من النكبة؟

ولكن يتسنى لنا العودة إلى المذهب الذي ضربته، فلا غنى لنا حال تجريبه وامتحانه عن أن نميز الألم الخاص الذي لا ينفي وجوده فيلسوف من الألم العام الذي ينفي وجود التفاؤل. ولا ينبغي هنالك أن يسأل أحدنا الآخر: أذقت ألماً أنت أم لم تذق؟ وأنا ينبغي أن نفهم إذا كان الوجود بني على أساس الخير، أو إذا كانت آلامنا فيه محتمة لا محيص عنها؟

وهكذا أرى قولنا (مجموع الكل هو خير) أدنى إلى الحقيقة من قولنا (كل شيء هو خير) وإذ ذاك لا سبيل لأحد أن يأتي ببراهين لأثبات شيء أو لدافع شيء. لأن هذه البراهين تتعلق رأساً بمعرفة عمارة الكون والاطلاع على غاية خالقها، وهذه المعرفة يبعد على العقل البشري أن يُلم بها، والقواعد الصحيحة لمذهب التفاؤل لا تستمد من متاع المادة ولا من ميكانيكية العالم، ولكنها تُستَمد بواسطة العقل من كمالات الله التي يدبر بها كل شيء.

إذا عدتَ بهذه الأسئلة المتباينة إلى مصدرها الشامل رأيتها كلها تعود إلى مسألة وجود الله، فإذا ثبت وجود الله فلابدَّ أن يكون كاملا، وإذا كان كاملا فلابد أن يكون عاقلا وقديراً وعادلاً، وإذا كان عادلاً وقديراً فكل شيء مبني على خير وصلاح، وإذا كان عادلاً وقديراً فروحي هي خالدة، وإذا كانت روحي خالدة فان ثلاثين عاماً من عمري لا توازي شيئاً عندي، وربما كانت ضرورية لإنقاذ الكون. فإذا ما سلمتَ لي بالقضية الأولى فلم تتزعزع هذه النتائج التي وقفها عليها، وإذا لم تسلم بها وكان نصيبها منك الجحود فان كل مجادلة في توابعها تذهب عبثاً.

بيروت

خليل هنداوي