مجلة الرسالة/العدد 580/أحمد رامي

مجلة الرسالة/العدد 580/أحمد رامي

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1944


4 - أحمد رامي

للأستاذ دريني خشبة

لم نستطع أن نهتدي إلى شيء في قصة حب رامي، هذا الحب الذي لمسنا أثره في الكلمة السابقة، والذي تفجر بعد ذلك ألحاناً صافية، فيها كثير من الدموع، وفيها كثير من الألم، وذلك حينما دخلت في حياة الشاعر مطربة الخلود الآنسة أم كلثوم، فوجدتها حياة تضطرب بتلك الآلام التي تختلط فيها ذكريات اليتم والحب. . . اليتم العابس المتجهم ذي المسئوليات، والحب الخائب المنكوب ذي الصبوات، وجدته يقول:

هل زال من دنياي حسن هزني؟ ... أم قر في قلبي لهيب النار؟

حب تضرّم في حنايا أضلعي ... فأصابه يأس بطول قرار

وبكيته حتى مللت بكاءه ... فسكت منطوياً وحزنيَ وارِ

وهذا كلام سهل لين، لكنه مؤثر، بل مُبكٍ. . . وأي قلب. . . لا يتأثر حينما يسمع رامي في رقته وسمو عاطفته، يهتف بهذا الشعر الجميل السهل اللين، شاكياً باكياً، ذرافاً دموع قلبه، مصعّداً أنات روحه، واقفاً عند الشطر الأخير:

فسكت منطوياً وحزنيَ وارِ!

وقفة العاشق المكروب أمام هذا الحطام المقدس من بقايا حبه!

لقد أرهفت أم كلثوم سمعها حينما سمعت رامياً يئن ذلك الأنين الموجع وسط جنته الذاوية الذابلة، فوجدته يسائل الأطياف التي تهمهم من حوله:

لمن الغناء أقوله فأصوغه ... من أدمعي ودمي، وطيب سراري

ومن الذي يوحي إليّ من الهوى ... قبس الخيال وصدحة الأوتار

ما أطلق الطيرَ الصدوحَ بشدوه ... مثل ابتسام الزهر والنوار

أو نضرَ الزرع البهيجَ زهورَه ... كالشمس والماء النمير الجاري

أو أرقص البحر الخضم عبابه ... كالبدر يشرق باهر الأنوار

وتلفت رامي فجأة على صوت رخيم رضيٍ يقول له:

(أيها الطائر المنفرد المعذب المهيض الجناح، صُغْ غناءك لي أملأ به الكون، وأجعل لك به دماً جديداً وحياة جديدة. . . صُغه لي أوح إليك من أفانين الهوى ألوانها الزاهرة الباهرة، وأنفض الرماد عن قبس خيالك، والصدأ عن صدحة أوتارك، وأبتسم لك ابتسام الزهر والنوار، وأشرق على عباب بحرك الخضم إشراق البدر باهر الأنوار، وأدفئ جنتك بمثل الشمس التي جَرَتْ في فلكك الدَوَّار وأُرْوِها بمائي النمير الجار، وأترددْ في أنفاسك عطراً، وأتبلجْ في ظلام بأسك فجراً، وأرد عليك شيطانك النافر، وأُذُدْ عنك وسواسك الساهر، واسحر لك بنات غابك، وعرائس عُبابك، فتفرش لك طرقات جنتك بأفواف الزهر، ولآلئ البحر، وتمدك بروائع الفكر، ونفثات السحر. . . و. . . و. . .). وما إلى ذلك مما يغازل الأقلام من الشعر، وهي تكتب عن رامي وأم كلثوم

وانتفض فؤاد رامي لذلك الصوت الرؤوف الرحيم انتفاضة هائلة لم تزل تتردد ملء أضالعه عشرين عاماً، وأحسبها سوف تتردد فيه حتى يشيخ رامي، وحتى يهرم معه أناس آخرون

لقد رأينا كيف عز على رامي أن يصمت هذا الصمت الذي أفزعه وشغل باله، وهو شاعر الإنسانية الحزين الذي يقول:

الحزن أدبني، وهذب خاطري ... وأنالني عُلو الخيال السامي

وأسأل أسراب الدموع فصغتها ... صوغ المعاني في شجيّ نظامي

وأرق إحساسي ومدّ مشاعري ... فوصلت كل الناس في أرحامي

قاسمتهم أحزانهم وحملت من ... أعبائهم شطراً من الآلام

فلما سمع من أم كلثوم هذا النداء الرخيم الندي الرضيّ، خفق قلبه، واستجاب له، وحلت مطربة الخلود عقدة السحر عن لسانه، فأنطلق يصوغ لها أغانيه الخالدة (من أدمعه ودمه وطيب سراره)، وانطلقت هي (توحي إليه من الهوى، قبس الخيال وصدحة الأوتار)

ولقد كان دخول أم كلثوم في حياة رامي ثورة كاملة في تلك الحياة اليتيمة الحزينة الباكية، ولقد استطاعت أم كلثوم أن تلهم رامياً كل هذه الثروة الطائلة من المعاني (البكر!) التي لم يسبقه إليها أحد من الشعراء (فيما نعلم) والتي سجلها في (شعره الجديد) وأغانيه المصرية العذبة التي أنقذت الغناء المصري من الإسفاف الذي تردّى فيه زماناً طويلاً قبل أن يهيئ له الله رامياً، ليجدده، وليهذبه، ولينفي عنه ما كان يشوبه من خيال غث، وتعبيرات رخيصة، وغزل بارد مكشوف؛ مما سنخصص له كلمة مستقلة إن شاء الله واستطاعت أم كلثوم كذلك أن تخفف من برحاء الحزن في نفس رامي، وان تلطف من لَذْع الحُرَق التي كان ينطوي عليها من جراء نكبته في حبه، وقد اعترف هو بذلك في كثير من شعره الذي أخذ يرق ويصفو لدخول أم كلثوم فيه:

صوتك هاج الشجو في مسمعي ... وأرسل المكنون من أدمعي

سمعته فانساب في خاطري ... للشعر عين ثرَّةُ المنبع

ودبّ في نفسي دبيب المنى ... والبرء في نضواَ لجِوى الموجعِ

سلوى من الدنيا تسلي بها ... قلب شديد الخفق في أضلعي

طال به السهد كأن الدجى ... ضل به الفجر فلم يطلع

حتى إذا غنيتِ ذاق الكرى ... ونام نوم الطفل في المضجع

كأنما لفظك في شدوه ... منحدر من دمعي الظَّيّع

فيه صباباتي وفيه الضنى ... يشكو تباريح فؤادي معي

نظمت أشعاري وغنيتها ... منظومة الحبات من مدمعي

أودعتها الشكوى فما رق لي ... من راح بالقلب ولم يرجع

ولو تغنَّيتِ بها عنده ... عاد إلى الود ولم يقطع

أما حديث هذا (الذي راح بالقلب ولم يرجع) فعلمه عند رامي الذي يقول بعد هذا:

يا من شَدَت بنسيبٍ ... ناجيت فيه حبيبي

وردّدت من شكاتي ... ورجّعت من نحيبي

وأودَعَت في الأغاني ... تناوحي ووجيبي

فجرتِ نبعَ خيالي ... من بعد طول النضوب

أنمت حزن فؤادي ... بصوتك المحبوب

وكنتِ مألف حسي ... وظل روحي الغريب

وآنس اليوم قلبي ... نجيّه في القلوب

حتى غنيت بنجوا ... ك عن هوى وحبيب

فنحن إلى الآن تلقاء حالات ثلاث من أحوال رامي. . . أولاها رامي المحب المحزون، وثانيتها رامي الذي يشكر القدر على هذا الصوت الذي أخذ (يدب في نفسه دبيب المنى، والبرء في نضو الجَوى الموجع)، رامي الذي لا يزال يحن إلى إلفه القديم فيقول:

أودعتها الشكوى فما رق لي ... من راح بالقلب ولم يرجع

ولو تغنّيتِ بها عنده ... عاد إلى الود ولم يقطع

أما الحالة الثالثة، فرامي الذي أخذ يتسلى عن هواه القديم، حيث يقول:

أنمتِ حزن فؤادي ... بصوتك المحبوب

وكنتِ مألف حسي ... وظل روحي الغريب

وآنس اليوم قلبي ... نُجيّه في القلوب

حتى غنيت بنجوا ... ك عن هوى وحبيب

وذلك اعتراف صريح من رامي بأن قلبه قد آنس اليوم نجيّه في القلوب، حتى غَنِيَ بنجواه عن كل هوى وكل حبيب

أما تاريخ قلب رامي بعد هذه الأطوار الثلاثة من أطوار حبه فليس من شأننا، ونستطيع أن نقول إنه أصبح قلباً شديد الصلة بأذنيه. . . أي من هذه القلوب التي تعشق بالأذن قبل أن تعشق بالعين أحياناً وإن تك عين رامي من أعشق عيون الشعراء الذين عرفناهم أجمعين. ونستطيع أيضاً أن نلفت النظر إلى حب جديد شب في قلب رامي فجأة، وجعله لأول مرة في حياته يذكر الشك ويردده كثيراً في أشعاره الجديدة وفي أغانيه المصرية البارعة الرائعة:

تقول أسأت الظن بي فكأنما ... تخال محباً لا تسوء ظنونه

وهل قر قلب في هواه ولو غدا ... يساجله فرط الحنان خدينه

إذا لم يكن في الحب شك وحيرة ... فمن أين يحلو للمحب يقينهُ؟

ومن قصيدته (بين الشك واليقين):

قد أحاطت بك العيون فما أس ... طيع ألقي مكان عيني منك

وجرت حولك الأحاديث حتى ... كدت أنسى الذي أحدِّث عنك

وأطافت بك القلوب وقلبي ... ضاع في غَمْرها ولما يُضعك

خبريني أي القلوب تناجي ... ن فقد همت في غيابة شك

ومن قصيدته (كذب الظنون) التي مطلعها: أخاف عليك من نجوى العيون ... وأخشى أنّه القلب الحزين

وأعلم ميل نفسك أن تكوني ... هوى الدنيا ومُنْبَعَثَ الحنين

فأخشى قولة العُذَّال مالت ... لغيرك، وانمحي كذب الظنون

وقفت على هواك مطار فكري ... ومسرى خاطري وهوى فنوني

ووحّدت المعاني فيك حتى ... رأيت الكون خلواً من شجوني

فهل يرضيك ما ألقى فأرضي ... نصيبي فيك من ذل وهون

أم الظن المريب أضل رشدي ... وأرسل ليله يغشى يقيني

وأنت كما عهدتك في غرامي ... نجية قلبّي الراعي الأمين

ومن قصيدته (ظن المحبين):

ساورتني الظنون فيها ولكن ... يَ غالبت سوء ظني حينا

ثم ساءلتها أتحمل عني ... بعض ما ذقت في هواها فنونا

فثنت طرفها وقالت أما تبر ... ح يا ظالمي تسيء الظنونا

وأنا لا أشيم في قلبك السا ... در نوراً ولا أحس يقينا

كلنا سيئ الظنون وما أح ... سب إلا أن الأمانة فينا!

وكما يتردد ذكر الشك في شعر رامي الجديد تتردد الشكوى من كثرة المحبين الذين تتهاوى فراشات قلوبهم في نار حبيبه المقدسة:

يا من أخذت فؤادي ... أخْذ العدو الحبيب

قلبي لديك فقل لي ... ما حاله في القلوب

وما أعذب مطلع قصيدته (هوى الغانيات)

كيف مرت على هواك القلوب ... فتحيرت من يكون الحبيب؟

ومن قصيدته (بين الشك واليقين):

وأطافت بك القلوب وقلبي ... ضاع في غمرها ولما يضعك

خبريني أي القلوب تناج ... ين فقد ضعت في غيابة شك

ثم تكثر في شعر رامي الجديد تلك المقطوعات الرقيقة التي لا نستطيع أن نسميها إلا (خطابات شعرية) كان يرسل بها إلى حبيبه الجديد، يملأها بالشكوى وبالشك والحنين وهو يصرح في معظم هذه (الخطابات المنظومة) بأن حبيبه هذا ذو صوت حنون حلو:

عشقتك للصوت الحنون وللشجي ... وما كنت أدري ما يجر هواك

غناء كشدو الطير في رونق الضحى ... ومعنى تناغي في سماء مناك

وإذا سئل رامي عمن يكون هذا الحبيب أجاب:

أرادوني على أني أبوح ... وهل يتكلم القلب الجريح

إلى أن يقول:

وتزدحم القلوب على هواها ... فتنكرني ولي كبد قريح؟

وبعد. . . فمن الفضول في تاريخ شعرائنا أن نعدو هذا الحد. مَنَّ الله على رامي بنعمة الهدوء في عش حياته العائلي. زوجاً كريماً ووالداً برَّا رحيما.

دريني خشبة