مجلة الرسالة/العدد 581/مسائل في وحدة الوجود

مجلة الرسالة/العدد 581/مسائل في وحدة الوجود

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 08 - 1944



للأستاذ عبد المنعم خلاف

كتب كاتب فاضل من بغداد بتوقيع (صدقي حمدي) في العدد 579 من الرسالة كلمة يعقب بها ببعض المسائل على مقالي في نقض مذهب وحدة الوجود المنشور بالعدد 573. قال: (والذي يلفت النظر لأول وهلة قول الأستاذ في مستهل مقاله إنه اهتدى إلى دليل علمي قاطع يدحض هذا المذهب ويلقي ضوءاً جديداً أمام العقل البشري الموغل في بحث علاقة الله بالكون). ومذهب الواحدية أو وحدة الوجود من أقدم المذاهب الفلسفية في العالم وأشدها إثارة للجدل، ويكفي لإدراك خطره في تاريخ الفلسفة الحديثة أن نذكر الفيلسوف الكبير (سيبنوزا) الذي يعد من أساطين هذا المذهب في العصر الحديث، ومن أعظم الداعين إليه بالقول والعمل) إلى أن قال: (فلا يصح إطلاق القول فيه بغير حجة أو برهان)

وإني ما أنكرت أن يكون لهذا المذهب تاريخ طويل ومعتنقون كثيرون من الفلاسفة والصوفية القدماء والمحدثين، وما أطلقت القول في نقضه بغير حجة أو برهان، وإنما سقت ما اهتديت إليه واعتقدته دليلاً حديثاً كافياً في دحض هذا المذهب، وسواء عليّ بعد ذلك أكان محيي الدين بن عربي وسيبنوزا وهيجل وغيرهم من معتنقيه أم من مخالفيه. فمن شاء فليأخذ هذا الدليل الذي سقته من حقائق الحياة العلمية الحاضرة ويستأنس به في بحث العلاقة بين الله والكون ويرفض على ضوئه مذهب الوحدة، ومن شاء فليتركه على شرط أن يأتي هو بدليل

ومن الواجب أن أذكر أنني كنت أثناء التفكير في مقالاتي عن الإيمان بالإنسان يحوم فكري كثيراً حول مذهب الوحدة، ويكاد يقبل عليه تحت ضغط الإعجاب والتقدير للروح البشري الخالق والجهد العلمي الأخير الذي سلك الإنسان في عداد قوى الخلق والتكوين والإنشاء التي يدير الله بها الكون المادي في الأرض. . . فلم يكن من المستبعد في الوهم حينئذ أن أنزلق بفكري إلى الأخذ بهذا المذهب الذي يجعل الإنسان جزءاً من الخالق الأعظم ومظهراً للوجود الكلي قائماً به

ولكن هذا الدليل قضى في نفسي على بوادر التفكير والتوجه إلى هذا المذهب الذي لا يكاد معتنقه يتماسك أمام نفسه وأمام الكون قلقاً وحيرة حين يختلط في فكره شعوره بأنه جزء من الخالق، وشعوره بأنه مخلوق عاجز، وحين ييأس من أن يرى الله بنفسه مع أنه جزء منه، وحين يظل فكره دائراً حائراً في متاهات السموات والأرض يبحث عن (مصدره الأول) فلا يراه إلا في المظاهر المادية التي كان يراها نفس الرؤية قبل اختلاطه وشعوره بازدواج الشخصية بين خالق ومخلوق وخالد وفانٍ. حينئذ يبتدئ ينشد لنفسه ويغني على هواها باعتبارها جزءاً من الله، كالحلاج وابن عربي. وهنا ابتداء التجديف و (الجنون الديني) والبيان الملتبس الذي تختل فيه مقاييس المنطق الإنساني، لأنه يصير خليطاً من منطق الخالق المتوهَّم والمخلوق الواهِم. . .

ومذهب الحلول ومذهب الاتحاد أو الوحدة غالباً يكون اللجوء إليهما بعد الإعياء في البحث عن الله وابتغاء رؤيته والاقتراب منه والأخذ عنه مباشرة، وما ينبغي لأفكارنا المحدودة العاجزة الرهينة المسجونة في أقفاص الأرض الضئيلة بالنسبة للكون أن تطلب هذا المطلب الأعلى الذي لا تدركه الأبصار والأفكار ولا يعلم قدره غيره. وقد قال محمد سيد الأصفياء: (إن الله احتجب عن الأنظار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه)

ولعل لنا عودة إلى هذا الموضوع بتفصيل يتناول منشأ الأوهام التي دخلت فكرة البحث عن الله وأفسدتها

2 - لم ير الأستاذ صدقي رأيي القائل: (وبدهي أن النظرة الأولى تهدي إلى أن الله غير الطبيعة، وأن هناك انفصالاً بين الخالق والمخلوق)

ويلوح لي أنه التبس عليه فهم هذه الجملة، فخلط بين بداهة هدى النظرة الأولى إلى أن الله غير الطبيعة الخ. وبين القضية في ذاتها بعد التفكير العميق فيها. . . فالقضية في ذاتها غير بديهية بعد التفكير العميق وإدارة الرأي والزوية، ولكن النظرة الأولى الفطرية الساذجة ترى انفصال النفس عن الطبيعة وانفصال الله عنها. لأنها أول درجات الفكر في الطبيعة ومصدرها. ثم بعد ذلك يبتدئ الفكر الفلسفي الذي يشك في كل شيء، ويطلب مبدأ كل شيء، يحيل هذا البديهي إلى شيء معقد. فيطلب مصدر الطبيعة: فتارة يقول إنه لا مصدر لها، وتارة يقول إن مصدرها ممتزج بها، وتارة يقول إن مصدرها منفصل عنها. ولذلك أكرر القول إن النظرة الأولى تهدي إلى ذلك. ثم يأتي التأمل الذي لا يقنع بالظاهر الواضح فيطمس هذه النظرة، ويوغل فيما وراء سطح الوجود. ويلتبس عليه كثير من البديهي فلا يرى بداهته، بل يطلب له الأدلة والبراهين.

وحقاً يتحول كل بديهي إلى غير بديهي حين يوغل الفكر فيه ويتعمقه، ألا ترى أن بعض المدارس الفلسفية تزعم أن حقائق الأشياء غير ثابتة، وأن المحسوس لا يجوز اتخاذه أساساً، وأن الموجودات كلها أوهام، وأنه ليس في الكون كله حقيقة ثابتة؟ حتى لقد قال بعضهم (لو وجدت حقيقة ثابتة واحدة لاتخذتها أساساً أبني عليه جميع الحقائق!) ألم تسمع بالنظرية الجديدة التي تبطل السببية، وتقول إن الكون يسير بالاحتمالات التي لا نهاية لها! ألم تسمع بذلك السفسطائي اليوناني الذي أنكر وجود جدار أمامه وقال إنه وهم من الأوهام، فلما تحداه مناظره أن يقوم ويخترقه إن كان زعمه صحيحاً قام وجرى إليه حتى اصطدم به فكانت النتيجة ارتطام جسمه وتمزق أوصاله!؟

إن الفكر البشري كائن عجيب متمرد له قدرة هائلة على الذهاب في أي إتجاه، وخلق عوالم صناعية وخيالية لا وجود لها. وصخرة النجاة أمامه هي الاستمساك بالعيش على سطح الحياة وأخذ الحياة بدون تعمق وتعقيد لما تحت البديهي السطحي حتى يبقى لنا شيء ثابت نرتكز عليه. إنما يباح لنا فقط إدمان التعجب مما نرى وتقلب أفكارنا وأيدينا فيه بقدر ما نستطيع أن نسخره ونستغله ونتغلب عليه حتى لا تتهددنا عوامل الشقاء والفناء

وقد ظل الناس خاضعين لفلسفة الفروض والتجريدات يدورون فيها دوراناً عقيماً حتى أتى دور الفلسفة التجريبية التي نادى بها (فرنسيس بيكون) ودور الفلسفة الإثباتية التي ثبت قواعدها (ديكارت) فكانت النتائج الباهرة في العلوم والمعارف الطبيعية والنفسية التي فتحت على الناس بركات من السماء والأرض، وما تزال تفتح. وقد أقبلت البشرية على هذا الاتجاه العلمي الإثباتي فعاشت به عيشة رحبة زادت ثقتها في نفسها وحياتها، وفتحت عليها كنوز الآمال السعيدة، واستدبرت عالم الفروض الفلسفية والخيالات والشك فيما لا طائل وراء الشك فيه، ولا قدرة على الاستغناء عنه، واتخذت بدهيات الحس والفكر قواعد ارتكاز فثبتت أقدامها على الطريق إلى الله. . . ووجدت وحدة منطقها وجهدها تتحقق في هذا الطريق

3 - استطلع الأستاذ رأيي في هل يجوز أن نتخذ الطريقة الموضوعية في بحث المسائل الدينية؟ ورأيي أنه لا يجوز لنا أن نصطنع الطريقة (الذاتية) إلا في (الفن) وحده. أما العلم والدين فلن يسمحا (للذاتية) أن تنطلق في رحابهما

والموضوعية في العلم أمرها واضح. أما موضوعية الدين فتحتاج إلى بيان:

إن مجال العلم هو البحث في الكون المادي فيما يستطيع أن يصل إليه بأدواته المعروفة ليصل من وراء ذلك إلى (القوانين) التي تسير بها الطبيعة ليرضي كفاية (الإثبات) في النفس البشرية. وليستطيع أن (يعتمد) على هذه القوانين كحقائق لا تتبدل ولا تتغير. وليرضى في النفس كفاية (الاختيار والحرية) بين القوى المادية العمياء الجامدة المجبورة والمجال الأصلي للدين هو نفس مجال العلم. هو الكون المادي أيضاً، ولكن لا على الاعتبار السابق؛ ولكن على اعتبار آخر هو استنتاج (صفات) صانع هذا الكون من الكون؛ ليرضى في النفس كفاية (الاعتقاد) وهذه هي الفكرة الأصلية في الدين. فكرة الاعتقاد بصانع لهذا الكون له من العلم والقدرة والإحاطة بكل دقيق وجليل في الكون ما ظهرت آثاره وما وضح في قوانينه من الدقة والإحكام وعدم التناقض

والذي لا شك فيه عند العقول الموزونة التي لم تنحرف ولم تشذ عن الفطرة أن الإحكام والدقة والجلال والجمال والتنويع والتفريع والاطراد وغيرها من صفات الكون توحي وتلزم كل عقل غير مدخول أن وراء هذا الكون عقلاً أعظم منه يدبره ويقوم عليه. له من العلم والقدرة والحكمة والإحاطة والهيمنة والقهر وغيرها من صفات الكمال ما يليق بالقِوامَة والتدبير لهذا الكون الرحب الذي لا تدرك نهايته الأوهام البشرية. هذه هي الفكرة الأولى في الدين. وهي فكرة لا شك (موضوعية) موضوعها الكون كله ليستنتج الناس منه صفات خالقه. وهي صفات لا تختلف باختلاف جمهرة العقول

إن الدين بهذا الوضع (نتيجة) حتمية للعلم وضرورة لازمة للألفة (العقلية) التي لا بد منها في العقل العلمي. ولن يتأتى الكمال في العقل العلمي إلا إذا جمعت فيه كفاية (الإثبات) وكفاية (الاعتقاد) ورجال الدين بهذا الوضع هم رجال العلم الطبيعي وحدهم لا غيرهم من صناع الفروض والأوهام المفتونين بزخرف الكلام يرسلونه فارغاً إلا من نزعات شعرية وبدوات خيالية

ورجل العلم لا يبحث في ذات الله وكنهها، لأن الطريقة العلمية عوّدته أن يتدرج في أبجدية الحقائق، وهو للآن ولما بعد الآن بكثير من الآباد لم يفرغ من إدراك موجودات الطبيعة المحدودة في الأرض الضئيلة ولم يدرك الروح الإنساني ولا أصل الحياة البيولوجية بل لم يدرك المادة، حتى أن (ملكن) أكبر علماء الكهرباء المعاصرين قال: (خبروني ما هي المادة قبل أن تسألوا ما هي الروح؟)

ولذلك قلت ينبغي للمتأملين التجريديين ألا يسرفوا على أنفسهم وعلى الكون كله فيحاولوا إدراك ذات الله قبل أن يدركوا ذات أنفسهم وذوات الأشياء المادية الضئيلة التافهة

إن الإنسانية إن قدر لها أن تدرك شيئاً من ذلك فلن يكون هذا الإدراك إلا عن طريق العلم الذي فتحت أبوابه وأقبلت حقائقه المخبوءة التي سوف تكون المنطق الإنساني الحديث الذي لا يقيم وزناً للتأمل الفلسفي أو الصوفي أو الشعري الشارد الجامح!

4 - خشي الأستاذ من أن يجرنا قياس اتصال الله بالكون على اتصال العقل الإنساني بواسطة اللاسلكي بالآلات وإحاطته بها وإدراكه إياها إلى التورط في التجسيم والتشبيه!

وهذا الدليل الذي سقته لا يستلزم شيئاً من هذا. فليس اتصال الله بنا وبالكون بآلات ورواصد، كما هو الحال في اتصال الإنسان بالآلات والآفاق بواسطة اللاسلكي، وإنما هو اتصال مباشر بالعلم المحيط والقدرة التي لا تحتاج إلى وسائط وأدوات. . . واللاسلكي في معرض هذا الاستدلال ليس إلا مثلاً مضروباً يوضح لتلك العقول التي لم تر لها طريقاً للتصور إلا الإيمان بوحدة الوجود وعدم الانفصال بين الله والطبيعة؛ إذ أن خيالها ضاق عن تصور هذا الانفصال

وخلاصة هذا الدليل أننا إذا كنا نرى العقل البشري العاجز يتصل بمخلوقاته من الآلات بعد أن كونها وأعطاها قوانينها، ويتصرف فيها ويتحكم بها باللاسلكي وهو متحرر منها بعيد عنها غير ممتزج بها؛ فما بالنا لا نرى العقل الأعظم الذي نعرف قدرته يستطيع أن يتصل بنا بعلمه وقدرته بدون حاجة إلى الاتحاد والامتزاج؟!

وما ندري ماذا يأتينا به العلم من وسائط الاتصال؟ لعله يجعلنا نتصل بالأشياء ونؤثر فيها بدون حاجة إلى وسائط اللاسلكي وغير اللاسلكي. لعله يكشف في النفس قوة قادرة على ذلك. وهذا لا شك كمال لنا، وليس بمستحيل فرضه عقلاً. . .

فقبيح بنا أن يضيق تفكيرنا حتى نخضع رب الكون لما نستطيع نحن العجزة الضعفاء أن نتحرر منه ونستغني عنه.

إننا نحس في أنفسنا قدرة على الخلق والتحرر وتنقيح الطبيعة، فلماذا نجعل الله شبه سجين فيها لا يستطيع من قوانينها فكاكاً مع أنه واضع هذه القوانين، إذ لا جائز أن تكون وضعت نفسها؟!

إن أحلام الحرمان التي تطوف برءوس العجزة المحرومين لا يرضيها من القدرة والغنى إلا أن تأمر بالطعام، فيكون الطعام وببساطة الريح فيكون البساط، وبحك (خاتم القدرة) فيحضر المارد القدير، وبالنظرة في (البللورة السحرية) فترى ما استتر واستكن في طوايا السموات والأرض!

فإذا كان هذا هو ما في خيال الناس عن قدرة القادرين من العجزة المخلوقين، فكيف بما في الخيال حين يتصل بالله الذي يمسك السموات ويحبس البحار، ويدير ملايين الملايين من الكواكب في أفلاكها بغير اختلال وصدام، ويؤلف بين القوانين المتضادة في الطبيعة حتى يخرج منها (هرموني) وتناسقاً عجيباً!

إذن فلا تجسيم ولا تشبيه ولا مخابر ولا معامل كيمياء وفيزياء ولا نظارات ولا قارورات ولا اتصال بسيط أو غليظ كما يتوهم الأستاذ. وإنما هي إرادة عالمة قادرة تقول للمعدوم (كن) فيكون!

لقد حكى القرآن الكريم أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه: رب أرني كيف تحيي الموتى! قال أو لم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير فصرْهُنَّ إليك (اذبحهن) ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم أدْعهُنَّ يأتينك سعياً) وقد فعل إبراهيم فأتته ساعية من غير أن يرى شيئاً يجمعها ويركب أعضاءها ويهندس وضعها!

لقد توهم إبراهيم أن هناك (كيفية) للإحياء، وأن هناك أدوات ووسائل للخلق والتكوين، ولذلك سأل ربه سؤاله. ولكن تبين له بعد أن دعا أشلاء الطير المذبوحة المطروحة في كل أفق، فإذا بها مقبلة حية أن إيجاد الله ليس إلا بتوجيه الإرادة إليها، فإذا هي كائنة

5 - أما الصوفية المادية التي ندعو إليها ويسألنا عنها الأستاذ؛ فقد سبق لنا أحاديث فيها بين تضاعيف مقالاتنا السابقة، وبخاصة المقال الرابع من مقالات (أومن بالإنسان) وقد نشر بالعدد 396 من هذه المجلة، ومقال (الحياة صادقة) الذي نشر بالعدد 206 من الثقافة ولعل لنا إليها عودة بتوضيح آخر. والله يهدينا إلى اليقين ويفتح لنا من رحمته!

والسلام على جيرة بغداد العزيزة!

عبد المنعم خلاف