مجلة الرسالة/العدد 582/العمالية الفكرية

مجلة الرسالة/العدد 582/العمالية الفكرية

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1944


للدكتور محمد مندور

نقصد بالعمالية الفكرية نشوء طبقة اجتماعية جديدة ينزل قيها المشتغلون بالمسائل العقلية منزلة العمال بما لهم من حقوق ومطالب ومشكلات على نحو ما شاهد النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالنسبة للعمال اليدويين، وبخاصة عمال الصناعة؛ وتلك مشكلة ستتمخض عنها الحرب بعد أن مهدت لها الحرب السابقة. ولفهمها لا بد من إلقاء نظرة عابرة على قيمة العمل الإنساني خلال التاريخ، وتطور تلك القيمة إلى يومنا هذا.

في العصور القديمة كان العمل من اختصاص العبيد، وأما المواطنون فكانوا يرون عاراَ أن يزاول أحدهم بنفسه زراعة أو صناعة، ولقد أثقلت هذه النظرة تاريخ الإنسانية، وجاهد المفكرون وطلائع البشر في رفع هذا الثقل قروناً طوالاَ، بالرغم من أن الإنسانية قد اجتمعت كلمتها على إلغاء الرق؛ فأنه لا يزال العمل ينظر إليه إلى اليوم نظرة لا تتفق مع قيمته الحقيقية من حيث أنه منبع الثروة الوحيد. ومن غريب الأمر أن قدماء الإغريق أنفسهم قد فطنوا إلى قيمة العمل، فجسمها أرسطوفانيس المؤلف الكوميدي الشهير في رواية رائعة هي بلوتس - إله الذهب وهذا إله أعمى قالوا إن الآثينيين ضرعوا إلى الإله الطبيب أيسكيلاب أن يشفيه من عماه فيقيم بمدينتهم اعترافاً بالجميل؛ وهذا ما كان. واستوطن الإله بآثينا، وإذا بالسماء تمطر الذهب حتى غصت به الطرق والحارات، وأمسك جميع السكان عن العمل اكتفاء بهذا الذهب الوفير يغرفون منه لقضاء حاجاتهم. ولكنهم لم يلبثوا بعد أيام أن رأوا المنتجات تنفد، وإذا بهم يتضورون جوعاً والذهب تحت أرجلهم. وهال عقلائهم الأمر، فخفوا إلى الإله الطبيب يرجونه أن يسكب في عين إله الذهب ما يذهب ببصره ثانية، حتى يستطيعوا آسفين معتذرين أن يقودوه خارج مدينتهم لترتفع عنهم تلك المحنة القاسية، محنة الذهب، ويعودوا إلى نشاطهم المثمر، يعودوا إلى الكد وعرق الجبين الذي ينتج من الخيرات ما يشبع حاجاتهم الحيوية، هذا ما رآه الإغريق القدماء، أما رآه أحد كبار مفكريهم، ومع ذلك ظل العمل من اختصاص الرقيق، ولم يستطع أن يتمتع بما له من واجب الاحترام، بل التقديس، وهذا أمر بديهي، فأنت تستطيع أن تملأ خزائنك بالمال، وتترك هذا المال بالخزائن طوال السنين، ثم ترى أنه لم تنتج شيئاً، وإنما المنتج كد الرجال

وفي خلال القرون الوسطى لم يتغير الموقف، فكان الرجال ملحقين بالأرض، تنتقل ملكيتهم بانتقالها من يد إلى يد. ولم يتحرر البشر إلى حد ما إلا عندما أخذت المدن تتكون وتنشا بها طبقات اجتماعية جديدة من الصناع والتجار. ومن المعلوم أن نشأة هذه المدن هي التي مهدت السبيل لمناهضة أمراء الإقطاع، والقضاء على نفوذهم القاسي، وقد اعتمد عليها الملوك في انتزاع السلطة من يد المراء وتوحيد الممالك. وفي مقابل ذلك كان الملوك يمنحون تلك المدن وثائق بها كثير من مبادئ التحرر السياسي والاقتصادي. ومع هذا فإن الحريات التي أعطيت للمدن لم يصب العامل منها إلا خيراَ يسيراَ، وذلك لأن رق الإقطاع قد قابله في المدن تكوين اتحادات عمالية كانت لرؤسائها على أفراد العمال حقوق ثقيلة. وفي الحق إنه لم يكن بد لكي يسترد العمل كرامته من أن تظهر الشخصية البشرية أولاً في الهيئة الاجتماعية، ويسلم لها باستقلالها الذاتي لتستطيع بعد ذلك أن تنضم إلى اتحاد أو نقابة راضية مستنيرة. وتحرير الشخصية البشرية من رق المجموع هو الكسب العظيم الذي كسبته الإنسانية في عصر النهضة الذي وضع حداً للقرون الوسطى. فمنذ ذلك العصر نستطيع أن نقول إن فجر الإنسانية قد تنفس

ثم اخذ المفكرون يبحثون في منابع الثروة ووسائل الإنتاج، وعلاقة الإنسان بكل ذلك. ولما كانت الصناعات لم تنشأ بعد، فقد رأى الباحثون في الاقتصاد عندئذ أن الزراعة هي المصدر الوحيد للثروة، وأما الصناعة فما هي إلا تحويل للمواد الأولية التي تنتجها الزراعة، فهي لا تخلق جديداَ، والتجارة ليست إلا نقلاً للمنتجات

وجاء القرن التاسع عشر باختراعاته العظيمة وأخذت الصناعات تنشأ، ففطن المفكرون إلى أن الإنتاج الاقتصادي ليس تكوين شيء من العدم، والعدم لا ينتج شيئاً، وإنما هو خلق لقيم اقتصادية جديدة، ومقدرة على إشباع الحاجات الإنسانية المختلفة؛ فالمادة الأولية بتحويلها تصبح قيماً جديدة وتشبع حاجات جديدة، وأنث كذلك إذا نقلتها من مكان لا يحتاجها فيه أحد إلى مكان تطلب فيه تعطيها قيمة جديدة أيضاً. وهكذا دخلت الصناعة والتجارة في ميدان الإنتاج، وكان في المناقشات التي دارت حول منابع الثروة وإنتاجها ما انتهى بالمفكرين إلى تقدير العمل الإنساني. ولكن التقدير شيء، والتسليم بحقوق هذا العمل شيء آخر؛ ثم إنه كان تقدير المفكرين، وهؤلاء في كل العصور نفر من الخاصة، والأمر لم يكن يوماً لسوء الحظ بيدهم ليستطيعوا تحقيق نظرهم عملاً، فهم طلائع البشر ولكنهم ليسوا قادته الفعليين. ومع ذلك فقد كان في سبقهم إلى تقدير قيمة العمل البشري قيمته الحقة ما أيقظ ضمائر العمال؛ ولهذا عند ما ظل أصحاب رءوس الأموال متخلفين عن مسايرة العقلية الجديدة لم يلبث التصادم أن نشأ بينهم وبين عمالهم. ورأى العامل أنه لا يستطيع أن يقاوم بمفرده فتكونت النقابات، واجتمعت النقابات في اتحادات، واستعرت روح الطبقات واحتدم الكفاح بينها، حتى انتهى الأمر إلى الحركات الاشتراكية والشيوعية المعروفة، وحتى في البلاد التي حافظت على الملكية الفردية كحافز قوي للإنتاج لم تفلت لم نظمها الاقتصادية، من أن تتأثر بالكثير من المبادئ الاشتراكية بحيث يمكن القول بان الديمقراطية ذاتها قد أصبحت في جميع بقاع الأرض ديمقراطية اشتراكية، أو اجتماعية إذا أردت أن تتجنب اللفظ

هذا الجهاد الإنساني الطويل قد انتهى إلى الإقرار بقيمة العمل اليدوي والتسليم لطبقة العمال، وبخاصة في الصناعة، بالكثير من حقوقها، وهي لم تمنح تلك الحقوق بل أخذتها أخذاً، بحيث نستطيع أن نقول إن العمال في معظم بلاد أوربا كانوا قد وصلوا قبل الحرب الحاضرة إلى درجة محمودة من الرخاء لم يصل إليها المشتغلون بالأعمال العقلية. ولقد رأيت في فرنسا قبيل هذه الحرب العامل المتخصص يكسب ما لا يقل عن ثلاثين جنيهاً شهرياً، بينما ُيعطى القاضي الفرنسي ثمانية عشر جنيهاً. ولقد رأيت في جميع أنحاء أوربا أن الطبقة المهضومة لم تعد طبقة العمال، بل طبقة أولئك العقليين، فبينهم تفشت البطالة، وعن حقوقهم سكتت الهيئة الاجتماعية، وذلك لأن إنتاجهم غير ملموس النتائج، وأفرادهم لم ينظموا بعد في نقابات أو اتحادات. هنالك تجد الموظف تحت رحمة الحكومة، والصحفي مستذلا لصاحب الجريدة، والكاتب يتحكم فيه الناشر، والمتعلم يبحث عن عمل فلا يجده. وليس من شك في أن الإنسانية التي لا يمكن أن تفنى لابد ملتمسة علاجاً لهذه الحالة الصارخة. ولقد عدت إلى مصر فوجدت البلوى أعم: نقابة للصحفيين لم أر لتكوينها مثيلاً في العالم، فهي تضم العمال وأصحاب العمل، ومن الطبيعي أن يتحكم هؤلاء في أولئك. والوضع الطبيعي أن ينفصل كل في نقابته، وأن تتفاوض نقابة مع نقابة لا أن يجتمعوا سوياً كقطط وفيران في مصيدة واحدة. ورأيت أثرياء يخشون أن تطالبهم الحكومة بما يجب أن يدفعوه من ضرائب فيصيحون بها أن أمسكي عن إنصاف المظلومين من الموظفين، وقد عضتهم الحياة بأنيابها، مع أن الضرائب في بلادنا قلما تصل إلى أكثر من 12 % بينما هي لا تنحط في أي بلد أوربي أثناء السلم عن 36 % على نسب تصاعدية عادله. ورأيت ناشرين من التجار الجشعين، يتحكمون في عقول الكتاب وأقلامهم، وينزلون بهم إلى حد الدعارة العقلية لتروج البضاعة التي يقبلونها منهم. وأخيراَ كم بين المتعلمين من عاطلين؟! ولقد جاءت تلك الحرب فقلبت أوضاع الحياة الاجتماعية، فإذا بالعزيز ذليل والصعلوك ثري كبير، ونمت روح الدجل والنصب والاحتيال والنفاق حتى لأعتقد مؤمناً أنه لا بد لتستقيم الحياة الاجتماعية من أن يعاد إليها اتزانها بأية وسيلة كانت

ليست هناك هيئة اجتماعية تستحق الاحترام إذا لم يقدس فيها الفكر، وهذا الفكر هو القوة التي نسيطر بها، لا على النفوس فحسب، بل على المادة أيضاً. وهاهي الحرب قد أوشكت أن تنتهي، وأنا على ثقة من أن العمالية الفكرية ستحزم أمرها، وهي التي تقود الرأي العام، فتطالب بحماية حقوقها وتوفير كرامتها وضمان استقلالها المادي حتى لا يستذلها أحد. وإنه لمن غريب الأمر ألا ترى ببلادنا إلى اليوم قانوناً يحمي الملكية الأدبية والفنية، ولا نقابات للعقليين الذين يزاولون النشاط الحر والثقافة غير المهنية، وإذا أريد لتلك النقابات النجاح، فمن الواجب أن تنحى عنها السياسة، وأن يكون تكوينها سليماً.

محمد مندور