مجلة الرسالة/العدد 583/على هامش ذكرى المعري
مجلة الرسالة/العدد 583/على هامش ذكرى المعري
(داعي الدعاة) مناظرة المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 5 -
من الآثار الأدبية التي تركها المؤيد في الدين (داعي الدعاة) رسائله إلى أبي العلاء المعري. وهي الرسائل التي نبهت الجيل الحديث للبحث عن هذا الداعية، بعد أن ظل مجهولاً زهاء عشرة قرون، ويرجع الفضل في نشر هذه الرسائل إلى المرحوم الأستاذ مارجوليوث المستشرق الإنجليزي، الذي نقل هذه الرسائل عن كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي، ونشرها لأول مرة بمجلة الجمعية الأسيوية الملكية سنة 1896، ثم أعاد نشرها مرة أخرى بمجلة الجمعية الأسيوية سنة 1902، وقدم لها بمقدمة صغيرة ادعى فيها أن هذه المناظرة كانت سنة 438 هـ ولكني أخالفه في تحديد هذه السنة، وأذهب إلى أن هذه المناظرة إنما كانت سنة 449 هـ، وعندي ما يؤيد ما ذهبت إليه، فقد نقل ياقوت الحموي أنه (لما كانت المناظرة بين أبي العلاء، وبين داعي الدعاة، في ذبح الحيوان، أمر داعي الدعاة بأن يؤتى بأبي العلاء إلى حلب). وفي الرسالة الثالثة والأخيرة من رسائل داعي الدعاة، تصريح بأنه كان في الشام أثناء هذه المناظرة. وهناك نص آخر ورد في (المجالس المؤيدية) على لسان الخليفة المستنصر الفاطمي (حتى توجه من وجهناه من داعينا للقاء التركمانية فأنعقد بينه (أي بين الداعي) وبينه (أي بين المعري) من المناظرة مكاتبة لا مشافهة. فهذه النصوص تثبت أن هذه المناظرة جرت أثناء خروج المؤيد في الدين لحرب طغرلبك، وأن المؤيد كان بالشام وفي حلب، وقد ذكرت في مقالاتي السابقة أن المؤيد في الدين خرج من مصر للقاء التركمانية سنة 448هـ وكان بحلب سنة 449هـ، وتكاد تجمع المصادر على أن رسالة داعي الدعاة الأخيرة وصلت معرة النعمان بعد وفاة أبي العلاء بأيام قليلة، ونحن نعلم أن المعري توفي سنة 449هـ وهناك بعض نصوص أخرى تؤيدان هذه المناظرة التي كانت بين الأدبيين العالمين. حدثت سنة 449هـ. وسبب هذه المناظرة كما حدثنا المؤيد في مجالسه أنه جرى ذكر أبي العلاء المعري في مجلس الناظر بحلب، فهجا الحاضرون أبا العلاء وأغروا الناظر بدمه، وادعوا أن الغيرة على الدين تبيح قتله، ولكن المؤيد في الدين اقترح على الحاضرين أن يجرد لأبي العلاء من يحاجه ويناظره حتى ينكشف عواره وينحط قدره بين معاصريه، ويتخذ الناظر من هذه المناظرة ذريعة للقضاء على هذا الزنديق الخارج عن الدين، ثم نشط المؤيد لمناظرته تلك المناظرة التي كانت من أسباب خلود المتناظرين
ويخيل إليّ أن المؤيد في الدين لم يسرف في الحكم على أبي العلاء إسراف معاصريه، ولم ير في عقيدة أبي العلاء ما كان يراه غيره، فقد رمى المعري بالإلحاد والتعطيل والخروج على دين الجماعة بل لا تزال عقيدة أبي العلاء إلى يومنا هذا موضع نقاش بين الأدباء والعلماء. أما رأي المؤيد داعي الدعاة في أبي العلاء فقد وضحه في مجالسه بقوله: قد انتهى إليكم خبر الضرير الذي نبغ بمعرة النعمان وما كان يعزى إليه من الكفر والطغيان على كون الرجل متقشفاً، وعن كثير من المآكل التي أحل الله له متعتها. فهذا النص إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن المؤيد لم يقبل كلام الناس في أبي العلاء، ولم يذهب مذهبهم في اتهام دينه، بل هذا النص دفاع عن تحريم المعري للحوم تعففاً منه وتقشفاً
ويخيل إليَّ أيضاً أن غرض المؤيد من هذه المناظرة أن يعرف حقيقة مذهب أبي العلاء، وأن يستوضح أسرار فلسفته وأسرار عقيدته فقد يكون أبو العلاء من الذين يتخذون التقية والستر حجاباً لهم، ويوهمون الناس بغير ما يبطنون ولذلك بدأ المؤيد رسالته الأولى بشيء من الظرف والإعجاب بأبي العلاء، ثم نراه في الرسالة الثانية يسخر بأبي العلاء ويتهكم به، وفي الرسالة الثالثة يصرح بأنه لم يجد عند أبي العلاء ما كان يأمله
أما جواب المعري؛ فيظهر منه أن أبا العلاء قد سمع بأمر المؤيد في الدين داعي الدعاة من قبل، وكان يعرف مقدرته وحجته فبالغ في تعظيمه وتفخيمه، إما خشية على نفسه من سطوة المؤيد وإما تأدباً معه في المناظرة لمركز المؤيد في الدعوة الفاطمية والدولة الفاطمية
ومهما يكن من شيء، فالمؤيد في هذه المناظرة ضيق الخناق على أبي العلاء، وكان أبو العلاء يتلمس الطرق للهرب من خصمه فأخذ يحاوره ويحاول الفرار من موضوع المناقشة وداعي الدعاة من ناحيته يجذبه نحو موضوع المناظرة؛ فسؤال داعي الدعاة كان عن الأسباب التي أدت بأبي العلاء إلى تحريم أكل اللحوم والألبان. فكان جواب أبي العلاء في موضوع إرادة الله في الخير والشر، ثم البراءة من أشعار قالها بعض الملحدين. أما سؤال الداعي فلم يجب عليه جواباً شافياً. ولو طالت حياة أبي العلاء لظفر الدب العربي بثروة أدبية فلسفية لها قيمتها
أما ما قيل من أن المؤيد داعي الدعاة أمر بأن يحمل إليه المعري بحلب ليخيره بين الإسلام والموت، وأن المعري خاف على نفسه، فشرب السم؛ فهذا ما لم يقبله أحد من القدماء ولا المحدثين
والآن نتساءل هل كان المعري بدين بمذهب الفاطميين؟ فقد جاء في كتاب (الفلك الدوار في سماء الأئمة الأطهار) أن المعري كان أحد دعاة الحاكم بأمر الله الفاطمي وابنه الظاهر)!
ولا أدري من أين استقى مؤلف هذا الكتاب هذا الخبر إذ لم يقع بين يدي من كتب الدعاة ما يؤيد هذا الزعم، بل لم أجد داعية من دعاة المذهب الفاطمي يشير إلى أن أبا العلاء كان من زمرتهم ولو صح هذا الخبر لوجدت الدعاة على عادتهم يطنطنون بذكر كل نابغة يظهر بينهم، حتى لو فرض أن أبا العلاء اتخذ التقية لنفسه وستر حقيقة مذهبه ومرتبته في الدعوة لما خفي ذلك عن كبير دعاة المذهب وهو المؤيد في الدين، ولما احتاج الداعي الأكبر إلى مناظرة المعري لكشف ستره ومعرفة حقيقة مذهبه، لأن الداعي الأكبر عنده سجل الدعاة، وهو أعرف الناس بهم
حقيقة نجد في لزوميات أبي العلاء بعض العقائد الفاطمية، ولكن هذه الآراء التي ذكرها المعري لا تقوم دليلاً على اعتناقه المعري لهذا المذهب. فقد كانت التيارات الفكرية في عصر المعري تتحدث بهذه الآراء، وكان المعري في وسط يخضع للنفوذ الفاطمي سياسياً ودينياً، وشب المعري وقد امتلأ فكره بعقائد الفاطميين وآرائهم، وحوى منها الشيء الكثير؛ فلما نضج واستطاع أن يميز بين المذاهب المختلفة والآراء المتباينة تخلى عن كثير من عقائده وآرائه السابقة التي كانت تسود بيئته وعصره، وكون لنفسه مذهباً حراً لا يتقيد برأي ولا يتعصب لمذهب دون مذهب. فأغضب معاصريه سواء أكانوا على مذهب الفاطميين أم من جمهور أهل السنة، واتهم في دينه شأنه في ذلك شأن كل المصلحين وزعماء الفكر الحر في جميع أنحاء لعالم
فالمعري لم يكن من دعاة المذهب الفاطمي، بل لم يكن ممن اعتنق هذا المذهب، بل كان أشد الناس حرية للفكر ومن أكبر زعماء المسلمين والعرب دعوة إلى حرية الفكر
(يتبع)
دكتور
محمد كامل حسين
مدرس بكلية الآداب بالقاهرة