مجلة الرسالة/العدد 584/السيد رشيد رضا

مجلة الرسالة/العدد 584/السيد رشيد رضا

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 09 - 1944



بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاته

للأستاذ محمود أبو رية

مما يبعث السرور إلى النفس أن نرى من الناس وفاءً للمصلحين واحتفاء بذكرى العاملين، ذلك بأن هذا الوفاء الذي هو أسنى خلال الإنسانية، إنما يدل ولا جرم، على أن العقول والأفكار، قد استعدت لقبول آراء هؤلاء المصلحين وتعاليمهم، وأن النفوس قد استعدت للأخذ بها واتباع ما تدعوا إليه. . .

وإن مما يغتبط له المرء حقاً أن لا تمر الذكرى التاسعة والثلاثون لوفاة الأستاذ الإمام محمد عبده هذا العام كما مرت من قبل في سكون ونسيان، بل رأينا الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. قد هبت كلها للإشادة بها والإفاضة في بيان فضل صاحبها

ومما زاد في اغتباطنا أن سمعنا لأول مرة في حياتنا صوت الأزهر ينبعث في هذه الذكرى الكريمة بعد أن ظل صامتاً طوال أربعين عاماً، واضعاً أصابعه في آذانه، حتى لا يسمع له نصحاً ولا يتبع له رأياً، مما يجعلنا نستبشر بأن هذه البيئة التي تنكرت لمصلحها العظيم في حياته، وازورت عنه بعد وفاته، قد أخذت تدنو من تعاليمه لتدرسها وتنتفع بها، وأن من كان فيها من الشيوخ الجامدين والخرافيين، ومن على شاكلتهم في غيرها من الحشويين والمعوقين، أولئك الذين تخلفوا عن قافلة الحياة بأفكارهم السقيمة وآرائهم العقيمة، وكانوا عقبة في سبيل كل إصلاح قد قضى عليهم ولم يبق لهم ولا لآرائهم بين الناس أثر.

لم يجد الأستاذ الإمام في حياته من التنكر له والمكر به والإعراض عنه مثل ما وجد في الأزهر، ذلك بأنه ما كاد يظهر بما يريد من خير لهذا المعهد الكبير، حتى هب منه في وجهه فئتان تعارضانه وتصدان عن سبيله: الفقهاء الجامدون، والشيوخ الخرافيون وقد درسوا في رؤوسهم تعويذتين لتحفظانهم من (عين) الإصلاح

أولاهما: هذا أمر لم تجربه العادة!

والأخرى: الجمهور على غير ذلك!

أما الفقهاء؛ فإنهم قد أبوا إلا أن يظلوا على ما وجدوا عليه شيوخهم، فلا يدرسون إلا كتبهم، ولا يتبعون إلا أقوالهم، حتى لقد بلغ الأمر بأحد كبارهم أن يجأر في مجلس إدارة الأزه الذي يجمع أمثاله بهذه الكلمة الأثيمة! (لا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، والواجب أن يؤخذ بكلام الفقهاء، ومن ترك كلام فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف فهو زنديق)!

ومن إمعانهم في هذا الجمود أن الأستاذ الإمام كان قد رغب إلى الشيخ الإنبابي، وكان شيخاً للأزهر أن يقرر تدريس مقدمة ابن خلدون بعد أن تبين له فضلها؛ فقال له الشيخ: هذا أمر لم تجربه العادة!

ولما طالب رضي الله عنه بإدخال علمي الحساب والهندسة في الأزهر عارض شيوخه في ذلك، وكانت حجتهم التي (تعوذوا) بها (أن الجمهور على أن هذين العلمين يفسدان العقل ويضيعان الاستعداد لفهم علوم الدين وينبغي عدم تدريسهما)!

ولقد كان لدرس الأدب في الأزهر ثورة عنيفة ندع الحديث عنها لصاحب (الرسالة) فهو أحق به منا إذ كان من الذين شهدوا هذه الثورة، ومسهم قرح منها!

وأما الخرافيون. فبحسبك أن تعرف أن كبار شيوخ الأزهر كانوا يحتفلون في كل عام بمولد الإمام الشافعي، وكان لهم فيه عادة اسمها (الكنسة) ذلك أنهم كانوا جميعاً يتولون كنس ضريح دفينة الشافعي، ثم يقسمون هذه (الكناسة) بينهم ليتبركوا بها! ثم ينقلون العمامة الوهمية الموضوعة فوق القبر من رأس شيخ إلى رأس شيخ آخر ليقتبسوا من أسرارها

ولعل قراء (الرسالة) لم ينسوا تلك القصيدة التي رفعها أحد المفتين إلى السيد البدوي يشكو فيها شيخ الأزهر ويطلب من (غوث الورى) أن ينتقم له منه!

وقد ظلت الحرب بين الأزهر وإمامه مستعرة طول حياته. وقد مات رضى الله عنه وهو لا يخشى على الدين أحداً غير شيوخ الأزهر. وفي مرض موته قال أبياتاً جاء فيها

ولست أبالي أن يقال محمد ... أبَلَّ أم اكتظت عليه المآتم

ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم

هذا ما كان عليه الأزهر من قبل؛ فإذا ارتفعت منه اليوم أصوات تشيد بذكرى الأستاذ الإمام، وتستعلي بفضله بين الأنام، فتلك آية كبرى على أن البيئة الأزهرية قد أصبحت على غير ما كانت فيه بالأمس، وأنها قد خرجت إلى النور بعد أن كانت من قبل في الرمس.

وعلى أننا قد اغتبطنا بهذا المظهر الجديد الذي بدا في الأزهر فإنا قد لاحظنا أن كل الذين احتفوا بذكرى الأستاذ الإمام أهملوا ذكر العلامة المحقق السيد رشيد رضا رحمه الله، أكبر تلاميذ الإمام في حياته، وحامل رسالته وناشر علمه بعد وفاته، وما كان يصح لهم، وقد دفعهم الحق والوفاء إلى الاحتفاء بذكرى الأستاذ الإمام أن يدعوا إلى العناية بذكرى العلامة الجليل ولا أن ينكروا فضله

وإنا أداء لحق هذا الرجل العظيم الذي لقي من عدم وفاء المسلمين له ما لقي، والذي لم يجد أحداً يعنى بتراثه أو يحمل رسالته بعد مماته، ننتهز فرصة انقضاء العام التاسع على وفاته لننشر عنه هذه الكلمة القصيرة، ولعلنا نكون قد أدينا بها هذا الفرض الكفائي الذي يلزم المسلمين جميعاً

على أننا لا نحاول اليوم أن نتحدث عن علمه الواسع وفضله الشامل، ولا نفيض في بيان جهاده حوالي أربعين سنة في سبيل دينه، قائماً وحده بهذا الجهاد لا يفتر ولا بغى، لا تؤيده حكومة ولا يسنده منصب، لأن ذلك يحتاج إلى كتاب برأسه.

وإنا نجتزئ بلمحات تدل على صلته بالأستاذ الإمام ومكانه منه، ونشير إلى بعض ما عمل لتأييد دعوة الحكيمين جمال الدين ومحمد عبده، ونشرها بين أرجاء الأرض. ولكي لا يرمينا أحد بالغلو في القول أو الإسراف في الحديث؛ فقد آثرنا أن نرجع في ذلك إلى قول الأستاذ الإمام نفسه في تلميذه، فنتناول منه قبساً ونروح إلى ما كتب بعض المستشرقين عن دعوة الإمام فننقل عنه ذرواً

فمن قول الأستاذ الإمام لبعض أصحابه، وكانوا يريدون منه أن يُقصي عنه السيد رشيد: (إن الله بعث لي بهذا الشاب ليكون مدداً لحياتي ومزيداً في عمري، إن في نفسي أموراً كثيرة أريد أن أقولها أو أكتبها للأمة، وقد ابتليت بما شغلني عنها، وهو يقوم ببيانها كما أعتقد وأريد. . . وقد رأيت في سفري من آثار عمله وتأثير مناره ما لم أكن أظن ولا أحسب، فهو قد أنشأ لي أحزاباً وأوجد لي تلاميذ وأصحاباً. . . الخ.)، وقال للمغفور له الشيخ محمد شاكر عندما أبلغه إرادة الخديو عباس في أن يبعده عنه: (كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار عني وهو ترجمان أفكاري)، وكذلك قال لبطرس غالي باشا

وقال الدكتور تشارلز آدمس في كتابه الإسلام والتجديد: (كان السيد رشيد أكبر تلاميذ الإمام في حياته، ومؤرخ سيرته بعد وفاته، وهو الذي نشر كتبه وفسر تعاليمه، وكان من أشد الناس أخذاً وسيراً على سنتها)

وقال: وإن كتاباته لتنم على أنه أخذ بحظ عظيم في العلوم الإسلامية المعروفة ونجد في نشره لمصنفات أستاذه، وفيما كتبه عليها من الحواشي والتعليقات ما يدل على تمكنه من المواضيع التي يتناولها، وأعظم ما تبدو كفايته في علوم الحديث، وكان لا بد من أن يبرز رشيد في هذا الميدان، وذلك لأن الحركة التي أنشأها الشيخ محمد عبده علقت أهمية كبرى على السنة الصحيحة وحدها لتكون مصدراً أساسياً من مصادر الإسلام في صورته الجديدة)

ثم تحدث عن إنشاء مجلة المنار فقال: (وكانت غاية رشيد من إنشاء المنار مواصلة السير على نهج العروة الوثقى. وكان الغرض الذي رمى إليه المنار هو في الجملة عين ما عملت له صحيفة العروة الوثقى، فقد كان من الأغراض التي تضمنتها غايتهما الكبرى نشر الإصلاحات الاجتماعية والدينية والاقتصادية، وإقامة الحجة على أن الإسلام باعتباره نظاماً دينياً لا يتنافر مع الظروف الحاضرة، وأن الشريعة أداة عملية صالحة للحكم، وكان من أغراضهما أيضاً السعي في القضاء على الخرافات والاعتقادات الدخيلة في الإسلام، ومحاربة التعاليم الضالة والتفاسير الباطلة لعقائده. . . وما دخل على العقائد من بدع الاعتقاد في الأولياء، وما تأتيه طرق الصوفية من بدع وضلالات الخ.

وقال الأستاذ جب وهو يتحدث عن دعوة الأستاذ الإمام في كتاب وجهة الإسلام: (. . . ثم واصل تلاميذه ما بدأ من عمل، وهم وإن لم يبلغوا مبلغ شخصيته الباسلة، فقد حملوا مبادئه بكتاباتهم وجهودهم الشخصية إلى جميع أجزاء العالم وأثروا تأثيراً كبيراً، ولا سيما عن طريق مجلتهم المنار)

وقال برج الأستاذ بجامعة ليدن في كتاب وجهة الإسلام: (وكانت مجلة (المنار) في مصر أول مصباح أرسل شعاعاً من هذا التفكير الجديد على جمهور عظيم من المسلمين، ولم يشرق (منار) القاهرة على المصريين وحدهم، ولكنه أشرق على العرب في بلادهم وفي خارجها، وعلى مسلمي أرخبيل الملايو الذين درسوا في الجامعة الأزهرية أو في مكة وعلى الأندنوسي المنعزل. وقال (وحركة التجديد هذه التي انبعثت من (المنار) وذاعت في مجلات الملايو أثناء العشرين سنة الأخيرة أحدثت حركة عظيمة في أراضي - بادنج الواطئة - وحركة أقل منها في الأراضي المرتفعة الخ) وعاد الأستاذ جب فقال: (فمجلة (المنار) بنزعتها الإصلاحية ذائعة في العالم الإسلامي كله، وتلعب دوراً هاماً في إصلاح الأفكار الدينية كما بينه الأستاذ (برج) حين وصف تأثيرها في أندونسيا)

هذه فذلكة صغيرة من تاريخ العلامة الحجة السيد رشيد رضا ننشرها على الناس إثباتاً واعترافاً بفضله رحمه الله ورحم أستاذه.

(المنصورة)

محمود أبو رية