مجلة الرسالة/العدد 586/مكافحة الشكلية

مجلة الرسالة/العدد 586/مكافحة الشكلية

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1944


للدكتور محمد مندور

لا عجب أن نرى مشكلة التعليم من بين المشاكل الكبرى التي تشغل الرأي العام، لا في بلادنا فحسب، بل في جميع بلاد العالم، والحرب القائمة عمادها الأول مبادئ العلم ومكتشفات العقول، وهي حرب ميكانيكية قبل كل شيء.

ولقد انتهى الأمر ببلادنا إلى الفطنة لوجوب مكافحة الأمية الأبجدية، وهذا خير نحمد الله من أجله، ولكننا نطمع إلى ما هو أبعد من ذلك. فنود لو كافحنا الأمية العقلية، وما نظن مفكرا يزعم أنك قد أصلحت نفسا أو هذبت خلقا أو سددت إدراكا إذا لقنت الفرد مبادئ القراءة والكتابة، فتلك وسائل لا خير فيها إذا عربت عن غايتها، وغايتها بلا ريب هي محو الأمية العقلية، ومن هنا كانت راحة النفس عندما رأينا الحكومة تقيم مكافحتها للأمية على أساسين: تعليم الأبجدية وما يلحق بها، ثم نشر الثقافة الشعبية بإلقاء الدروس المبسطة في مبادئ العمران والحياة المدنية.

وليس من شك في أن مكافحة الأمية العقلية التي هي هدفنا القومي لن نستطيعها إلا إذا أعددنا لمكافحتها طوائف من المثقفين ثقافة جامعية صحيحة، ولقد اتفق لكاتب هذه السطور أن لاحظ على تلك الثقافة الجامعية اتجاها نحو الشكلية قد لا يكون منه مفر في بلاد أخذت تفتح أعينها على العلوم الغربية، فتود لو تلتهمها متعجلة، ثم تنثرها عن يمين وشمال فجة قبل أن تتمثلها تمثل الهضم، وتلك آفة من الآفات الكبيرة التي لابد من محاربتها أعنف الحرب، لأنها خليقة بأن تنشر في نفوس الشباب غرورا كثيفا يحجبها عن الحقائق العميقة. وأخطر ما تكون تلك الآفة في العلوم المعنوية، ونعني بها العلوم التي تتناول الإنسان وظواهره البشرية كفرد وكعضو في هيئة اجتماعية. وسر الخطورة في هذا المجال يأتينا أيضاً عن الغرب، وإن يكن الغرب نفسه قد أخذ يتخلص من تلك الآفة التي مكنت لها اتجاهات العلوم المادية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.

ذلك أن العلوم المادية في تلك الفترة كانت قد خطت خطوات كبيرة نحو اكتشاف كثير من القوانين العامة التي تسيطر على المادة فتمكن الإنسان من استخدامها حتى شاع في كل العقول أن العلم إن لم يكن اكتشاف قوانين فهو ليس بشيء؛ ونظر الباحثون في الإنسان فإذا بهم لا يكادون يتبينون لظواهره قوانين، فتطلع طموحهم الساذج إلى أن يصلوا في معارفهم إلى ما وصل إليه علماء المادة، فقالوا إن الإنسان ما هو إلا ظاهرة من الظواهر العامة، وهو لابد خاضع في حياته الفردية وفي حياته الاجتماعية إلى قوانين لا مفر من سلطانها، ومن هنا اتجهت الأبحاث النفسية والاجتماعية تلك الوجهة الشكلية التي نكتب اليوم عن وجوب مكافحتها إذا أردنا أن نقيم مجد هذا الوطن على إرادة أبنائه، إرادة يجب أن ينتهي كل تعليم صحيح إلى تأييد حريتها التامة وقدرتها على كل شيء

ومكافحة الشكلية ليست بالأمر الهين، فقد اتفق لي أن لاحظت التجربة في نفسي حيث لم أستطع أن أفطن إلى ما أدعو إليه اليوم إلا بعد سنين من إقامتي بأوربا. ولعلي أفدت تلك التجربة من كلمات قاسية سمعتها من شيخ فرنسي أضعاف ما أفدت من أساتذتي ومطالعاتي. وليسمح لي القارئ بأن أقص تلك الذكرى الشخصية، فقد يفيد منها مثلما أفدت.

في أول عهد بباريس كنت أتناول الغداء على مائدة سيدة عجوز مع نفر من الشبان والشيوخ الفرنسيين وبعض الأجانب. وكان من بين الفرنسيين رجل جاوز الخمسين يعمل وكيلا للمحافظة؛ وأكبر ظني إنه ينحدر من أسرة كبيرة من الأسر المحافظة؛ وكان رجلا جافا في جسمه وروحه، أنيقا في لفظه وملبسه. ولقد علمت إنه قد ابتلى الحياة وابتلته بهمومها الثقال فتحملها في بطولة، ولقد خرج من نشأته وملابسات حياته بفلسفة قوية تقوم على مبادئ الخلق الصارمة، كما تقوم على الاعتداد بكرامة الإنسان وقدرته على توجيه الحياة وإخضاعها لإرادته. مع هذا الرجل تعلق حديثي أحد الأيام، ورأيته يبسط مبادئ فلسفته التي ذكرتها في حرارة المؤمن فدهشت، وأخبرته بأن مبادئ الأخلاق التي يتحدث عنها إن هي إلا ظواهر اجتماعية تملى على الأفراد دون أن يكون لهم دخل في بنائها، أو فضل في الإيمان بها، كما أخبرته أن إرادة الإنسان الحرة التي يعتز بها، ليست إلا وهما لأن الفرد لا يملك لنفسه شيئا، وإنما هو مسير بغرائز وقوى دفينة، وما إن سمع مني الرجل هذا الهراء، حتى انتفض كالأسد، واستند بمرفقه الأيسر على المائدة ليلتفت إلي محدقا في غضب، غضب الاستعلاء، وسألني من أي بلد أتيت يا بني؟ قلت من مصر. قال وماذا يصنع أبوك بمصر؟ قلت يزرع الأرض. قال إني أوصيك مخلصا أن تعود إلى بلدك لتحرث الأرض مع أبيك، هذا أجدى عليك وعلى وطنك مما تتعلمه أو تظن أنك تتعلمه هنا من هراء، فتماسكت موهوما وقلت، ولكن هذه يا سيدي هي الآراء التي سمعتها من أساتذة السربون في علم الاجتماع وعلم النفس؛ فأجابني: ومن أنبأك أن هؤلاء الأساتذة يفهمون شيئا عن حقائق الإنسان؟ أتظن أن حقائقنا البشرية من اليسر بحيث تصاغ نظريات أو يكشف عنها التفكير المجرد؟ ثم من قال إن التفكير الفرنسي يمثله ذلك النفر من اليهود الذين يزعمون أنهم قد اكتشفوا قوانين الإنسان، عندما زعم كبيرهم دركايم ومن خلفه ليفي بريل وموسى وفوكونيه، ومن تبعهم أن الإنسان حكمه حكم المادة، وأن هناك ما يسميه هؤلاء الحمقى وعيا اجتماعيا تتمخض عنه الحياة العامة كما يتمخض الناتج الكيماوي عن مزيج من العناصر، أحذر يا بني أن تؤمن بما يقولون فليس صحيحا أن الرجل المهذب لا يستطيع أن يصل إلى قيادة شخصية يهتدي بها إلى مواضع الخير والشر والبطولة والخسة بنفسه، كما تهتدي الطيور إلى أوكارها. وليس صحيحا أن قواعد الأخلاق ليست إلا ظواهر اجتماعية لا نستطيع في علاجها شيئا، وكل ما يجب عمله هو أن نرصدها، كما يفعلون لنستخرج منها قوانين عامة. هذا يا بني وهم، بل خداع مبطلين، ثم اذكر أننا في مجال المعرفة بالإنسان، ليس لنا إلا هدف واحد هو أن تصبح خيرا مما نحن. فبالله، هب أن هذا الهراء حق، فأي فائدة ستجني منه الإنسانية؟ أنا أفهم أن نكشف عن قوانين المادة، لنسيطر عليها ونسخرها في مرافق حياتنا، ولكن الإنسان ما شأنه بالقوانين؟ ومن قال إن الإنسان مادة فحسب، وهب أنه كان مادة، وأن الروح لم يكن لها وجود، وأنها تفنى بفناء المادة كما تنعدم النغمات بتحطم الناي، أليس من الخير، بل من الواجب على الإنسانية أن ترفض علما كهذا لن ينتهي إلا بتحطيم حياتنا وشل إرادتنا وتقويض دعائم الهيئة الاجتماعية التي نحيا بينها؟

هذا هو الدرس القاسي، الدرس الصارم النافع الذي تلقيته عن الشيخ في مستهل حياتي، رويته اليوم راجيا أن تتدبره شبيبتنا الناهضة. ولقد تذكرته إذ قرأت في إحدى صحف المساء مقالا لشاب أكبر الظن إنه حديث التخرج من قسم الفلسفة بالجامعة، ولقد رأيت شابنا المسكين يتحدث عن (مكافحة الأميين في ضوء علم الاجتماع) فيزعم أن هذه المكافحة ستجري ضد قوانين علم الاجتماع المزعومة، وأنها لذلك لن تنجح لأن عقلية الفلاح ليست عقلية حضارة وعلم، وإنما تصبح كذلك بعد أن تنتشر الصناعة في مصر، وذلك لما رواه عن دركايم وتلاميذه من أن لكل شعب عقلية تتكيف بتاريخه ونوع نشاطه الاقتصادي وما إلى ذلك مما ينتهي بخلق ما سماه طالبنا نقلا عن هؤلاء العلماء (بالعقل الجمعي)، وهذا هو موضع الداء، فطلابنا يرددون اصطلاحات علمية لا يحسنون فهم مدلولاتها فهم الناقد المستنير، وتبلغ بهم القحة أن يكتبوا للصحف فيما لا يفهمون غير واعين بما قد يكون في هرائهم من تثبيط لهمم أفراد الشعب الذين لم يصيبوا من العلم الزائف مثلما أصابوا. وهأنا ألقي عليه درسا مثل الذي سمعت في أول حياتي:

لا يا بني ليس هناك عقل جماعي كما زعمت أو زعم لك دركايم، وإنما هناك عقل فردي، هناك إرادة حرة، إرادة يجب أن تستيقظ في قلوب أمثالك فتهدم الصخر. لا يا بني ليس هناك جبر تمليه قوانين مزعومة، وإنما هناك نشاط حر، نشاط لا يعرف اليأس. وكم أحزنني من شاب مثلك أن يقول بقيام قوانين تقف دون إرادة هذه الأمة، التي أنت أحد أفرادها، فتردها عن أهدافها القومية. أقلع عن اليأس وبشر بالأمل، وإذا سمعت من حولك من يرمي هذه الأمة بالسوء فرد قوله، وآمن بأنه مهما بلغ بنا الفساد فنحن لابد مقوموه، وأن حافزنا الأول إلى هذا التقويم سيكون العلم الصحيح الذي يؤمن بأن النشاط الإنساني حر، وأن إرادتنا لابد آتية على كافة الصعاب كما أتى مصطفى كمال على صعاب تركيا وستالين على صعاب روسيا، دون أن يقف أمامهما عقل جمعي أو قوانين اجتماعية.

محمد مندور