مجلة الرسالة/العدد 587/الحروف اللاتينية لكتابة العربية

مجلة الرسالة/العدد 587/الحروف اللاتينية لكتابة العربية

مجلة الرسالة - العدد 587
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 10 - 1944



للدكتور عبد الوهاب عزام

سمعت منذ شهرين أن سعادة عبد العزيز فهمي باشا الذي اقترح على مجمع اللغة العربية أن تكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية، يطبع كتابا يجيب فيه على المعترضين على رأيه، فقلت لمن أخبرني: جدير بكل ذي رأي أن يدفع عنه حتى يتبين للناس إنه مصيب أو يتبين له هو إنه مخطئ

ثم أرسلت ألي نسخة من الكتاب منذ عشرة أيام فتعجلت النظر فيه آملاً أن أجد جدالاً يمليه الإنصاف، وتحوطه التؤدة والأناة، ويقصد إلى الغاية على طريق مستقيم لا يجور به الهوى، ولا تحيد عنه العصبية، ولا يقطعه الكلام في غير الموضوع على غير وجه

ثم عبرت الكتاب فإذا المؤلف يعدد في القسم الثاني من كتابه ثلاثة وعشرين عنوانا متوالية على العدد، ويحاول بعد كل عنوان أن يذكر اعتراضا ويرده، ولو استقام البحث على هذه الطريقة لاستوعب المؤلف الاعتراضات كلها، وأجاب المعترضين جميعا غير معرج على الأشخاص، ولا هانو عن الجدال في الرأي إلى الاستهزاء بصاحبه والافتراء عليه. ولكن الأستاذ عرض في بعض هذه العنوانات لذكر أشخاص بأوصافهم أو بأسمائهم. وأطال في تجريحهم بأشياء توهمها لا تتصل بموضوع الجدال صلة قريبة أو بعيدة، على حين أوجز في الفصول التي ردّ فيها الاعتراضات غير مبال بالأشخاص. فنم صنعه عن قصده إلى الانتقام من ناس خالفوا رأيه، ودل فعله على أن تجريح هؤلاء ينال من اهتمامه نصيبا أكبر من الاعتراضات التي جادل فيها

وقد قرأت الفصل الخامس عشر الذي تكلم فيه عن كاتب أرسل إليه بالبريد صحيفة فيها مقال يجادله فيه. قرأت هذا الفصل متعجبا مشدوها لا أكاد أصدق أن هذا الهجوم الحاقد والطعن المتدارك خطه قلم الأستاذ الجليل. وحسبت أن الأستاذ ترك الموضوع إلى هذا الطعن والتجريح في أمور لا صلة لها بالموضوع عقابا لرجل يعرف الباشا إنه يستحق ما يرميه به، ويرى ألا يضيع الفرصة للانتقام منه. وحسبت أن الرجل لو لم يكن جديراً بهذا ما رماه به المؤلف. ثم عرفت الرجل المقصود من بعد فإذا هو رجل مجاهد مخلص يعمل دائباً صامتاً لا يماري ولا يفتري. فلبثت حيران لا أدري ما وراء هذا من سر. وللرجل قلم هو أولى الأقلام وأقدرها على الدفاع، فلست محاولاً الدفاع عنه، ولكني أجعل الطعن فيه والبغي عليه مقياساً لما في كلام المؤلف من تثبت وتورع عن ظلم الناس والعدوان عليهم

وكان العنوان: (الحادي والعشرون) نصيبي من رد سعادة الأستاذ

وأنا أقدم قبل مجادلته فيما أدعي، أني كتبت في هذا الموضوع قبل تسع سنين حينما نشرت في مجلة الرسالة مقالاتي عن النهضة التركية الحديثة. وأني عنيت به منذ غير الترك العثمانيون كتابتهم. وحادثت فيه وجادلت في مصر والبلاد العربية وفي تركيا وأوربا قبل أن يختار الأستاذ عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية. وقد اخترت موضوع محاضرتي: (الخط العربي. مزاياه وعيوبه) قبل أن ينشر تقرير الأستاذ الذي قدمه إلى المجمع. ونحن نسجل موضوعات المحاضرات العامة أول العام الدراسي ثم نلقيها ولاء في أوقاتها. ولم يكن سعادة الأستاذ يشغلني كثيراً وأنا أكتب محاضرتي وإنما عمدت إلى البحث الصرف غير مبال بالأشخاص لاسيما سعادة الكاتب الذي لم يبتدع هذه البدعة بل تبع فيها دعاة هم أولى بأن يجادلوا فيها

ولكن المؤلف توهم نفسه إماماً في هذه الدعوة، وحسب كل مجادل فيها يعنيه لا يعني غيره، وظن أن كل مخالف عدو، وأن العدو ينبغي أن يحارب، وأن الحرب تبيع كل عدوان

ويعلم الله أني حين قرأت ما كتب الأستاذ عزمت على ألا أجادله يأساً من جدوى الجدال الذي يبتدئ على هذه الطريقة. وقلت كيف أجادل كاتبا حديد الطبع، تحمله الحدة على التسرع، وينسيه التسرع التثبت، ومن نسي التثبت كان حريا أن يسير على غير طريق إلى غير غاية، جديراً أن يقول غير سديد، ويطعن غير مقتصد، ثم أشار علي بعض الإخوان، كما أشار عليه بإجابة المعترضين (بعض المهتمين بهذه المشكلة)

وأبدأ بمجادلة الأستاذ في الخطة التي ارتضاها لنفسه، وأقول غير متردد: إنها خطة جائرة منكرة تكفل لصاحبها ألا يهتدي إلى صواب، ولا يبتعد عن ضلال، خطة تعنى بأصحاب الآراء أكثر مما تعنى بالآراء، ثم لا ينال أصحاب الآراء من هذه العناية إلا الاستهزاء والبغي والافتراء، وسواء على صاحبها أن يقارب الحق أو يباعده، وأن يصف خصمه بصفاته أو بما يناقضها

توهم الأستاذ لي صفتين أحسب أن وصفي بهما لا يكون إلا ميلا مع الهوى، وجورا مع الغضب، ورجما بالأوهام

عرضت لعيوب الكتابة الأدبية، وبينت من شناعتها ما لا تذكر معه عيوب كتابتنا. ثم قلت إن الكتابة الأوربية محمية بالأساطيل والطائرات والفتنة والهيبة اللتين تأخذاننا من كل جانب. وهي كلمة حق تجمل ما نحن فيه من افتتان بكل ما يأتي من أوربا وازدراء لكل ما عندنا. وما قصدت بهذه الكلمة الأستاذ عبد العزيز باشا ولا جماعة في مصر، ولا المصريين وحدهم، ولا البلاد العربية فحسب. بل أردت بها ما يعم أقطار الشرق كلها من هذه الفتنة. فأثارت هذه الكلمة ثائرة الأستاذ، وقد اعترف هو بهذه الفتنة في نفسه حين قال وهو آخذ بمخنق الكاتب الذي أرسل إليه مقالاً بالبريد. قال هو يعرب عن إكباره وإعجابه بالقوانين التي أخذناها عن أوربا:

(اعلم معلماً أن العقول التي كشفت لك عن عجائب الكهرباء. وهيأت للناس التلغراف واللاسلكي. كما كشفت لك عن معجزات الطيران الذي طبق عليك وعلي وعلى جميع الناس أرجاء السماء - هذه العقول لها أخ من أبويها يشتغل إلى جانبها بمسائل القانون ويسمو في بيئته إلى ما يسمو إليه اخوته الآخرون، ولكنك لا تراه لأن نظرك قصير)

وكان يمكن الأستاذ أن يطرد القياس، فيقول: ولهم كتابة هي ولاشك أفضل من كتابتنا، وهي العلاج الوحيد للغتنا. الخ.

أليس قياس القانون على الطائرات ونحوها هي الفتنة التي ذكرتها فغضب الأستاذ. ولا أدري لماذا ثار الأستاذ فقال عني: (هنا خلع العلم ثوبه وارتدى ثوبا سواه، الوطنية اللفظية، ولحمة أناشيد أرباب الحناجر). ومضى يكرر هذا المعنى إلى أن قال: (بل لعلي واهم فيما أخشاه على الأستاذ من إمكان حمل عباراته على معنى تعمده مسابقة أرباب الحناجر في حلبة الوطنية اللفظية)

وجوابي أن الله يعلم وأصحابي وتلاميذي يعلمون أني لست من أولى الوطنية اللفظية، ولا ممن ينشدون أناشيدها ويكدون حناجرهم فيها، بل كل صلتي بالوطنية العمل الصامت الدائب الذي لا يبغي من الناس جزاء ولا شكورا، وأن اتهام مثلي بهذا جدير بأن يلقي الشك في كل ما يزعم المتهم وينفي الثقة عن كل كلامه

ثم انتقل الأستاذ في غضبه وانطلاقه مع الغضب غير متئد ولا متثبت، فوصفني وصفا آخر يناقض الوصف الأول في معناه، ويوافقه في إنه باطل مثله. وصفني الأستاذ غير عارف، أو متجاهلاً تجاهل العارف بأني رجل متوفر متزمت. ثم لبث يشرح التزمت ويبين آثاره في خلقة صاحبه وخلقه، وفي الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج؛ فكتب صفحتين في هذا كأن مقصده الأول الكلام في التزمت لا الدفاع عن بدعة الحروف اللاتينية، وأنا أعرض على القارئ مقدمة كلام الأستاذ في التزمت ثم أسأله كيف يسمي هذا الكلام، وما ظنه بمن يرمي به وهو يجادل في الحروف اللاتينية، ويلفظه وهو يجادل رجلاً بعيداً كل البعد عن التزمت، قال الأستاذ:

(والتزمت، أجارك الله، متى أخذ بخناق الرجل نكر خلقه إنه يورث اقعنساساً فيبدو مقعر الظهر، محدب الصدر، منتفخ الأوداج، محتقن الوجه، بارز الحدقتين. في الأوج هامته، وفي الحضيض همته. إن لم يكن كالمعلق بحبل المشنقة، فهو على الأقل ضابط صف معلم بأورطة الأساس، يمشي متشامخا مدلا بكفايته بين أنفار القرعة المستجدين. هكذا يفعل التزمت. ثم هو يخرجه من تصرفاته عن التعابير المألوفة بين الناس. يجعله متى أراد إخراج الكلمة من فيه رطلا خرجت على الرغم منه قنطاراً. وإذا أرسل صوته يمينا التوى فذهب شمالاً، وإذا بصق أمامه على استواء نكص البصاق إلى الوراء، هو يخرجه من فيه، فيرتد لما فيه فيعجبه) الخ

هذا أيها القارئ مقدمة كلامه في التزمت ووراءه كلام طويل تناول الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج، وإن أراد الكاتب أن يضحك باكيا فليقرأ بقية الفصل ويرى كيف تعب المتزمت في كيل الزكاة وخنق دجاج الدار حين جاء يلتقط الحب، ثم طلق امرأته إذ أمرها بإخراج الدجاج الميت فلم تمتثل. وكيف فعل في الصلاة والصوم والحج، ثم ليدلني القارئ على صلة عاقلة أو مجنونة بين هذا وبين الحروف اللاتينية واللغة العربية. . .

وأنا أنشد الأستاذ الله الحق أن يسأل نفسه هادئا إن استطاع: أهذه الأوصاف تنطبق عليّ أو عليه خلقة وخلقا.

ثم أنشده الله الحق: ألا يشعر بشيء من التناقض والتهاتر والتهافت في أن يصف إنسانا في مقال واحد بأنه من أرباب الحناجر وأناشيد الوطنية اللفظية، وبأنه متوقّر متزمت، ثم أنشده الله الحق مرة أخرى: أحسب نفسه صادقا حين وصف بهذه الأوصاف رجلا يعلم الله وكل من يعرفه من الناس إنه من أبعد خلق الله عنها. إن كان قد غبي على الأستاذ وصف إنسان يعاصره ويعايشه في بلد واحد، وخفي عليه سيرة رجل قريب منه يستطيع أن يعرفه باللقاء والمحادثة، ويستطيع أن يسأل عنه أصحابه وتلاميذه، إن كان قد ذهب عنه هذا كله احتقاراً بالناس أو احتقاراً للحق أو ولوعا بالافتراء، وجموحا مع الهوى؛ فهل يثق عاقل بكلامه في الأمور المعنوية المعيبة، الأمور التاريخية والاجتماعية واللغوية الدقيقة، هل يظن عاقل أن من يجري مع الهوى وطلق الجموح، ويساير الباطل هذه المسايرة يكلف نفسه عناء في بحث موضوع أو وزن دليل، ونقد حجة؟ إني لا أنال من سعادة الأستاذ بمثل أن أدعو القارئ إلى قراءة هذا الفصل المضحك المبكي فهو أبلغ شيء في وصف نفسه ووصف كاتبه

وليت شعري أهذا شيء حديث عرض لسعادة الأستاذ أم كان بهذه الطريقة نفسها يعالج قضايا الناس محامياً ونائباً وقاضياً؟

وبعد؛ فقد قرأت في كتاب فارسي هذه القصة:

ذهب رجل إلى طبيب وشكا إليه أنه يحس في صدره عقداً، قال الطبيب ما صناعتك؟ قال شاعر. قال نظمت شعراً منذ قليل؟ قال نعم. قال أنشدته أحداً؟ قال لا. قال فأنشدنيه؛ فأنشده. فاستعاده مرات. ثم سأله كيف تجدك الآن؟ قال أشعر براحة، قال الطبيب هذا شعر كان معقداً في صدرك

لعل سعادة الأستاذ استراح بعد أن أخلى صدره من كلام تعقد فيه زمناً طويلاً، وقد بعد عهده بمجادلته في المجمع التي ضج منها الأعضاء ولا يزالون يضجون ويشكون، وكان في مجادلة المجمع عوضي عن مجادلات ألفها المؤلف طول عمره. فإن كانت عقد صدره قد انحلت بما لفظه علينا من البغي والافتراء، فليحمد الله الذي شرح صدره

وفي المقال الآتي أناقش الأستاذ في الكلمات القليلة، التي كتبها في الموضوع آسفاً على أنه أخرجني عن البحث كارهاً مشمئزاً ولا ذنب للمكره، وللناس والأقلام محن تكره فيها على ما لا تود، وتكلف ما يشق عليها.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام