مجلة الرسالة/العدد 589/على هامش النقد:
مجلة الرسالة/العدد 589/على هامش النقد:
3 - في عالم القصة
الرواية الشعرية بين شوقي، وعزيز أباظة
للأستاذ سيد قطب
عيب من عيوبي، أنني أنفر من الزحمة، واكره الضجيج. وأطبق هذا في عالم الأدب كتطبيقي له في عالم الحياة. فيكفي أن تثور الضجة حول مؤلف أو مؤلف، حتى يصرفني هذا عنه إلى حين، ثم أتناوله في هدوء وانفراد لأرى رأيي فيه. وكذلك أصنع مع كل شخصية في الحياة يتزاحم حولها المتزاحمون، إلا أن يخلو الجو، وتهدأ الضجة، فأقرب من هذه الشخصية لأتملاها، وكأنما لم أسمع من قبل عنها شيئاً!
ويسبق إلى نفسي سوء الظن؛ بكل ضجة وازدحام. ويقع في بعض الأحيان، أن يتبين لي خطئي في إساءة الظن بإحدى الضجات؛ ولكن هذا لا يعصمني في المرة التالية، من تغلب هذا الطبع، أو هذا العيب، الذي أعترف به ولا أخفيه!
كان هذا شأني منذ أكثر من عشر سنوات مع (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم. فآني لأذكر أن ضجة استقباله في عالم الأدب، قد أخرتني نحو عام كامل لا أقرأ الكتاب، ولا أعرف عن صاحبه شيئاً، حتى قرأته، فعلمت خطئي في هذا التأخير
وكذلك كان شأني مع (قيس ولبنى) لعزيز أباظة. لقد كنت أعرف فيمن أثنوا على الرواية وشاعرها من لا أشك في صدق تقديرهم وصدق تعبيرهم ولكني كنت أعرف بجوارهم جماعة أخرى؛ يضجون ويتبارون في الضجيج؛ وأنا على يقين جازم من أنهم إنما يتوجهون بالضجة إلى عزيز بك أباظة المدير!
ولما كنت قد قضيت شطراً من حياتي في احتقار هذا الصنف من الناس؛ وفي كشف العوامل الخفية التي تحفز هذه الطفيليات الواغلة في الأدب. فقد وجدتني - دون وعي - أعزف عن شهود الرواية وهي تمثل على المسرح، وأعزف عن قراءتها بعد أن طبعت في كتاب. وكأنما اختلطت الرواية في وعيي الباطن بما أكرهه من تزاحم المتزاحمين!
وأخيراً أقرأ في مجلة الثقافة للدكتور الفاضل أحمد بك زكي كلمة تحت عنوان: (بي المقروء والمسموع) يثنى فيه على (قيس ولبنى) ثم يوازن بينها وبين (مجنون ليلى) فيفضل الثانية على الأولى
والدكتور زكي بك من الرجال القلائل الذين أشعر لهم بالود والاحترام في هذا الزمان، والذين أثق بأخلاقهم وتلذ لي قراءتهم في آن. ولكني أعرف (مجنون ليلى) وأعرف مستواها الفني والتعبيري!
قلت في نفسي: إن كلمة هذا الرجل الفاضل في الموازنة بين الروايتين فرصة سانحة لقراءتهما جميعاً
قال الدكتور زكي:
(وجلست إلى (قيس ولبنى) أقرأه ساعتين حتى أتيت على آخره. أفتدري إلام شاقني؟ شاقني إلى صنوه (مجنون ليلى) لشوقي بك. ومددت يدي فجررته من محبسه على رف الكتب. وأخذت أقرأ لشوقي، فما أحسست أني انتقلت بعيداً. كان إحساسي إحساس من انتقل من منشستر إلى لندن. أو من ليون إلى باريس، أو من الإسكندرية إلى القاهرة. الناس هم الناس، واللسان هو اللسان، وأسلوب العيش هو أسلوب العيش، والمدنية هي المدنية، وإنما في ظرف أكبر. فعزيزي يترسم خطوات شوقي، وله من جزالة لفظه ما يعينه على أن يحاكيه فيقاربه، ويقاربه كثيراً. وهذه خير تحية (يتحي) بها شاعر في مصر أو في الشرق كله
(كان إحساسي. إلى أن بلغت إلى قول شوقي على لسان قيس. قيس ليلى. إذ بلغ وهو في سبيله إلى ليلى، جبل التوباد، ملعب صباهما ومرتع شبابهما. قال قيس ليلى:
جبل التوباد حياك الحيا ... وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى من مهده ... ورضعناه فكنت المرضعا
وحدونا الشمس في مغربها ... وبكرنا فسبقنا المطلعا
وعلى سفحك عشنا زمناً ... ورعينا غنم الأهل معا
هذه الربوة كانت ملعباً ... لشبابنا وكانت مرتعا
كم بنينا في حصاها أربعاً ... وانثنينا فمحونا الأربعا
وخططنا في نقا الرمل فلم ... تحفظ الريح ولا الرمل وعى (الله! الله!
لم تزل ليلى بعيني طفلة ... لم تزد عن أمس إلا إصبعا
ما لأحجارك صمنا كلما ... هاج بي الشوق أبت أن تسمعا
كلما جئتك راجعت الصبا ... فأبت أيامه أن ترجعا
قد يهون العمر إلا ساعة ... وتهون الأرض إلا موضعا
(الله! الله! مرة أخرى، لهذا البيت الأخير
(بلغت هذه القطعة، فقلت: معيار المقارنة أن أجد مثلها لقيس لبنى. وبحثت فلم أجد
(أم أنا عميت؟ ربما. . .
(أم أني نظرت في الكتابين نظرة القارئ العادي، ومثل هذا الذي طلبت، يحتاج لا إلى بصر قارئ مثلي عابر، وإنما إلى بصيرة أديب مكين؟ ربما أيضاً)
ومع احترامي لهذا التواضع العلمي النبيل فيما كتبه الدكتور العالم الأديب. فأنني أخشى أن تكون عاطفة (تقديس الموتى) - وهي عاطفة إنسانية عامة وعاطفة مصرية خاصة - قد غلبت في نفسه على حاسة الفن، التي ألمحها في كل ما يكتبه!
وإلا فما يمكن أن يقرأ الإنسان هاتين الروايتين في وقت واحد؛ دون أن يحس بالفارق الهائل بين الحياة الحارة والصدق الطبيعي، في (قيس ولبنى)، وبين الموت البارد، والتلفيق المتهافت في (مجنون ليلى) من ناحية رسم الشخصيات وإجراء الحوادث والعرض الفني. ولا بين الطلاقة والقدرة على الأداء في الرواية الأولى، والاضطرار والتهافت في مواضع كثيرة من الرواية الثانية
ويجب أن يلاحظ أنني أتحدث عن (الروايتين) لا عن (الشاعرين) فشوقي الشاعر قد يكون أكبر من عزيز أباظة الشاعر في مجموعهما. ولكن رواية (مجنون ليلى) أصغر بما لا يقاس من رواية (قيس ولبنى). أصغر من جميع الوجوه التي تقاس منها الرواية الشعرية
والقطعة التي اقتبسها الدكتور زكي من (مجنون ليلى) قطعة عذبة النغمة جميلة التصوير، وهناك قطعة أخرى أو قطعتان في الرواية من هذا النوع. ولكن الرواية وحدة كاملة تقاس بمجموعها: برسم الشخصيات، وإجراء الحوادث، وعرض المشاهد، والتعبير القوي عن هذا كله في النهاية. وقياس الروايتين على هذا النحو، لا يدع مجالاً للشك في تقرير الحقيقة التي أسلفناها
إن معظم الخطأ الذي قد نقع فيه عند الموازنة بين عمل شاعر كشوقي بك، نال في زمانه شهرة عالية؛ وبين عمل لأحد الأدباء المعاصرين. إنما ينشأ من اعتمادنا على ما تحوي ذاكرتنا من طنين سبق؛ واطمئناننا إلى هذه الأوهام المقررة؛ والاستغناء بذلك عن مراجعة الأثر الفني مراجعة جديدة
ولكن الدكتور زكي بك يقول: أنه أعاد قراءة (مجنون ليلى). وهذا هو موضع العجب. فالأمر من الوضوح الحاسم، بحيث لا يقع فيه التباس
إن عمل شوقي بك في (مجنون ليلى) كان عملا مشكورا من الوجهة التاريخية في الأدب. وذلك لفتح هذا المجال، ومحاولة نظم الرواية في اللغة العربية - وإن يكن غيره قد حاول قبله ولم يبلغ ما بلغه - وعند هذا الحد يقف تقدير هذه الروايات التي أخرجها جميعاً، و (مجنون ليلى) في أولها
فإما حين تعرض هذه الروايات للتقدير الفني، فإنها تبدو عملا بدائيا متهافتا من جميع الوجوه
وأول ما يلحق الناقد في (مجنون ليلى) هو البرود والركود. فالمجنون - وهو المثل الأعلى لحرارة العاطفة، وللجد فيها ذلك الجد المتلف - يصبح في يد شوقي طيفا متهافتا كأنه أحد شبان القاهرة المترفين الأطرياء اللطاف! كل حرارة الحب عنده بكاء ودموع وإغماء. وذلك كل نصيبه من الجد في هذه العاطفة المشبوبة. بينما يلمح في (قيس ولبنى) حرارة العاشق، وحركة الإنسان، وفحولة هذه العاطفة في نفسه المحبة المهتاجة
أنك لا تلمح مرة واحدة في (مجنون ليلى) تلك الحرقة اللاعجة، ولا تلك الثورة العاصفة. ولم تكن كل ميزة المجنون هي الحب المتهالك الذائب من الرقة والحنين - كما فهم شوقي وكما يفهم الكثيرون من الظرفاء المترفين الوادعين - إنما كانت هي الثورة المشبوبة والحرقة الموقدة، والاضطرام العنيف
لقد كان يحب، ولم يكن (يتدلع)! وكان هذا الحب يتعمقه ويهيجه ويشقيه، وكان هذا الحب يقيمه ويقعده ويثير اعمق مشاعره، ويهزه في الصميم؛ ولم يكن الإغماء والنواح هو كل حظه من الحب المجنون! استمع إليه فيما يروى له من شعر، ثم استمع إليه فيما ينطق به شوقي، تجد المسافة شاسعة بين شعور وشعور:
استمع إليه يقول:
فيا رب إذ صيرت ليلى هي المنى ... فزِنِّي بعينها كما زنتها ليا
وإلا فبغضها إلىّ وأهلها ... فأني بليلى قد لقيت الدواهيا
أو قوله:
كان فؤادي في مخالب طائر ... إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ... عليّ فما تزداد طولاً ولا عرضا
هذه النغمة الجادة، التي تشعرك (بالهول) في هذا الحب العنيف العميق، لا تسمعها مرة واحدة في (مجنون ليلى). وذلك هو المقياس الأول في صحة رسم شخصية المجنون، وتصوير عاطفته كإنسان يحب حقيقة، لا مترف يتظرف بالتهالك في الحب و (يذوب) حنيناً وإغماء كان (الذوبان) هو وحده دلالة الحب الإنساني العميق!
فإذا شئت هذه النغمة الجادة الصادقة العميقة، فانك واجدها في (قيس ولبنى)
أن شوقي لم يعرف الحب، واغلب الظن أنه لم يعرف (الألم) والألم هو ذلك الزاد الإلهي، الذي يفجر عواطف الفنان؛ وبدونه يصبح الفن بل تصبح الحياة كلها متعة رخية توحي باللطف والرقة، ولكنها لا توحي بالعمق والصدق. وما الحب وما الحياة بدون الألم الصادق العميق؟
أما عرض المواقف والمشاهد، فتبدو فيها السذاجة وقلة الحيلة، في إثارة النظارة بالمشاهد الملفقة. وذلك طبيعي ما دامت الحرارة الإنسانية الطبيعية مفقودة
وإلا ففيم هذا الإغماء الذي لا يفيق منه المجنون حتى يعود إليه خمس مرات! لقد أغمى على (قيس لبنى) مرتين. ولكن ذلك كان لمرض هده ولأزمات نفسية حقيقية تهد الكيان. أما المجنون، فيبدو لنا متهالكا متهافتا منذ أول فصل في الرواية، قبل آية أزمة من الأزمات، قبل أن تمنع منه ليلى وقبل أن يهدر دمه وقبل أن تتزوج سواه فكأنما هو (مستعد سلفا) لهذا (الذوبان) الرقيق لأن هذه هي سمة الحب الوحيدة، كما يتوهمها الرجل الظريف!
ومشهد وادي عبقر وشياطينه وحواره مع شيطانه، وكذلك مشهد الصبية الذين يتحاورون: فريق مع الجنون وفريق عليه كلاهما حيلة من الحيل الرخيصة، التي تنشئها (قلة الحيلة) للفت النظر، حينما تقل الحرارة الطبيعية الصادقة!
وأعجب شئ هو ذلك الخصام بين رجال قيس ورجال لبنى، وكأنه لا يجري في الصحراء وما بها من رجولة وفتوة، إنما يجري في (صالون) بين بعض المترفين الظرفاء ويا للإخفاق عندما أراد شوقي أن يقلد شكسبير في يوليوس قيصر، فيصور ثورة الجماهير واندفاعها من جانب إلى جانب، متأثرة ببلاغة خطيب!
وموقف (ورد) زوج ليلى ذلك الموقف الطري المريب. الكي يقول لنا: أنه رجل كريم عطوف. لقد صور لنا (عزيز أباظة) ذلك الموقف نفسه أو ما يشبهه يقفه زوج لبنى فلم يمل به إلى هذه الطراوة المخنثة، وهو يصور نبله وكرمه. ذلك أنه صوره (إنسانا) حيا، لا دمية من الدمى، التي عرضها شوقي وسماها أشخاصاً!
وذلك في الحقيقة هو الفارق الأصيل بين الروايتين والمؤلفين وهو يلخص الفوارق كلها، ويختصرها: الصدق والطبيعة، والتلفيق والصنعة في كل موقف، وفي كل شخصية، وفي كل عاطفة أو شعور
ومن العجيب أن تخون شوقي في رواياته الشعرية أقوى خصائصه التي بهرت أهل زمانه، وهي قوة الأداء وضوح التنغيم. ففي (مجنون ليلى) أضطرارات في التعبير لا تجد لها مثالا واحدا في (قيس ولبنى)
ففي بيت واحد كهذا:
لِم إذن يا هند من ... قيس ومما قال تَبْرا
يضطر إلى تسكين الميم في (لِمَ) وتسهيل الهمزة في تبرأ. ويطرد هذا التسهيل في مواضع شتى مثل (كيف تجرا) أي تجرأ، و (تهزا بنا) أي تهزأ. . . الخ
وتشاء تصبح (تشا) فقط اضطراراً للقافية في قوله:
وليلى تفيض على من تشاء ... رضاها وتحرمه من تشا
و (مُنازل) تصبح (مُنازِ) فقط لضرورة الوزن في قوله:
(أنعم (منازِ) مساء ... نعمت سعد مساء)
وليلى تصبح (ليلَ) لنفس السبب في بيت ينطق به ثلاثة: أوغل الليل فلنقم
بل رويداً ... واسمعي (ليلَ)
خل عني دعني
ومظلوم هذا (الترخيم) الذي يسرف شوقي في استعماله كلما نادى واحتاج للحذف خضوعا للضرورات النظمية!
والرُّبى تصبح (الرُّبىِ) لحركة القافية:
عارضنا الحسين في ... طريقه ليثرب
هذا سنى جبينه ... ملء الوهاد والرًّبى
وشيطان من وادي عبقر ممن يوحون بالشعر للشعراء يهبط ويهبط حتى يضع لا للناهية في موضع لا النافية لضعفه في النظم كقوله. (لا أدر. تلك ضجة)!
وكثير من مثل هذه الاضطرارات التي يعانيها المبتدئون في النظم، والتي تندر في شعر شوقي في غير الروايات، مما يدل على أنه كان يعاني، لا في تلفيق المواقف فحسب، ولكن في تذليل النظم أيضاً
وهذه عيوب تفهم حين ننظر نظرة تاريخية كما قلنا، فنسجل أن شوقي كان يطوع اللغة لفن جديد عليها فكان عمله هو عمل المبتدئ؛ وجهده هو جهد المبتدئ. وهذا كلام مفهوم. فإما حين نقيسه إلى عمل ناضج من الوجهة الفنية ومن الوجهة التعبيرية كالعمل الذي قام به عزيز أباظة في (قيس ولبنى) فإننا نشعر بالفارق العظيم بين العملين من الوجهة الفنية الصحيحة.
سيد قطب