مجلة الرسالة/العدد 59/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 59/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 08 - 1934



فكرة النظام الشمسي عند العرب

بقلم فرح رفيدي

امتدت الممالك العربية في أيام الدولة العباسية، والكنيسة حينئذ في أول عهد نفوذها، وما قويت شوكة الخلافة في بغداد، حتى هدأت الزوابع السياسية التي كانت شديدة في أيام بني أمية، وانصرف هم الخلفاء إلى نقل العلوم اليونانية والزيادة عليها. وأقول كما قلت في أمر الكنيسة، إن العرب تلقنوا هذه العلوم، وخصوصاً علمي الهيئة والنجوم من اليونان، لكنهم شرحوها شرحاً أقرب للحقيقة مما شرحته الكنيسة. والسبب في ذلك واضح، لأن الكنيسة كان غرضها الأكبر من تفسير العلوم اليونانية المحافظة على مقامها وتعاليمها لدى الشعب، فأبقت العلوم لديها مختلطة بالدين أو جزءا منه. لكن العرب لم يختلط عندهم العلم بالدين اختلاطه عند الكنيسة، فكان ما نقلوه وزادوا عليه هو لأسباب علمية بحتة، وأيضا لم يكن عندهم هيئة خاصة كمحكمة التفتيش تحاسب الفرد على اعتقاده ودينه.

لكنا إذا سلمنا بكل هذا، فلماذا لم يحدث الانقلاب العلمي في أيام العرب؟ أي لماذا لم يتوصل العرب إلى حل رمز هذا الكون الجليل بطريقة تبين اعوجاج النظام اليوناني؟ نذكر لذلك سببين:

لما ابتدأ العالم العربي في نقل العلوم كان ذلك فقط في أيام المأمون في أوائل القرن التاسع للميلاد، أي في بداية العصر العباسي الثاني، ونعلم إنه قبل القضاء على الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر للميلاد قامت دول شتى في كل أنحاء البلاد فعمت الفوضى وكثرت القلاقل والحروب، فلم يستتب السلام في أيام بني العباس إلا مدة قصيرة جداً. أي أن الوقت لم يكن كافياً للعرب ليقوموا بانقلاب أو تجديد في العلوم اليونانية، فإذا قابلنا مثلاً المدى الذي تطورت فيه حضارة اليونان بالمدة التي قام فيها العرب بنهضتهم العلمية وجدنا الفرق كبيراً. فلو اقتصرنا ببدء حضارة اليونان من عصر تاليس وبيتاغوراس فقط في القرن السادس قبل الميلاد، إلى عهد بطليموس وبوكليد في القرن الثاني بعد الميلاد لوجدنا المدة تقرب من الثمانية قرون. أما عند العرب، فيمكن أن يقال إن ترجمة العلوم اليونانية ابتدأت فقط من العصر العباسي الثاني، أي في ابتداء القرن الثالث للهجرة، وبقيت حتى أواخر القرن الخامس للهجرة وهي مدة لا تزيد على الثلاثة قرون. فإذا كان اليونان بعظمة نبوغهم، وباعتبار أن قسماً كبيراً من مدنيتهم مرتكز على المدنية المصرية القديمة، لم ينتجوا ما أنتجوه في أقل من ثمانية قرون، فكيف يقدر العرب أو غيرهم، أن يستوعبوا ما أبدعه اليونان من تعاليم طبيعية وفلسفية وغيرها في مدة لا تتجاوز ثلاثة قرون؟ خصوصاً والعرب كانوا حينئذ أمة جديدة على الحضارة، لم تتعود ما أعتاده اليونان قبلا.

زد على ذلك أنه لو لم يعتن العرب بعلوم اللغة والدين والتوسع فيهما توسعاً زائداً، في عهد بني أمية وما بعده وصرفوا اهتمامهم الكافي لبعض العلوم اليونانية، لكان العرب عندئذ أولى بأن يقوموا بحركة علمية جديدة.

لم يكن علماء العرب في ذلك الوقت راضين عن النظام اليوناني أو محبذين له. فإنه عندما بدأ العرب ترجمة العلوم اليونانية، ورأوا فكرة اليونان في المجموعة الشمسية، وما هي عليه من التعقيد والتناقض وعدم تلاؤم أجزائها ببعضها داخلهم الشك في صحتها وارتابوا في كثير من أقسامها. وجعل هذا الشك منهم عيوناً دقيقة الملاحظة، حريصة في التنقيب، لا تدع شيئاً مهما كان حقيراً دون بحث أو تفسير. ولم يتركوا سبباً إلا فحصوه وشرحوه ووازنوه مع غيره من الأسباب، وقابلوه مع ما تأتى لها من نتائج أرصادها، فأنقصوا من النظام اليوناني أشياء، وزادوا عليه أشياء، واعتمدوا في كل شروحهم وتعليلاتهم على ما يستسيغه العقل ويقبله المنطق محاولين بذلك اتباع طريق غير طريق بطليموس وشرح نظام جديد ربما تصوروه ولكن لم يدون.

قام حينئذ من العرب ابن رشد وابن طفيل وتلميذه البتروغي في القرن الخامس للهجرة، وانتقدوا كتاب الماجسطي حتى أنهم لعدم اكتفائهم بتفسير النظام البطليموسي أتوا بأفكار مبتكرة في حركات الكواكب السيارة، وألفوا نظاماً جديداً يقال له خلاف النظام اليوناني، فأنكروا وجود الدوائر الصغيرة وبذلك عللوا حركة الكواكب من الغرب إلى الشرق وبالعكس تعليلاً مخالفاً لكتاب الماجسطي، ومنهم من اعتقد أن الكواكب لم تبعد مسافة واحدة ثابتة عن دائرة البروج بل هي في أبعد مختلفة، إذ هذا هو السبب في اختلاف شدة الضوء المنبعث منها.

ومن المشهورين في تطور النظام الشمسي من العرب الخوارزمي سنة220 هـ. وهو صاحب الأرصاد المختلفة والمرتبة بنظام خاص يقال له الزيج

والفرغاني سنة 225هـ. وله قياسات في أبعاد وأقطار الكواكب الخمسة، وكتابه (كتاب في الحركات السماوية وعلم جوامع النجوم) ترجمه أكثر من واحد إلى اللغة اللاتينية.

وثابت بن قرة (سنة 235هـ) ويعد اكبر المشتغلين في العلوم الهندسية من العرب، أصلح ترجمة إسحق بن حنين لكتاب أقليدس، ووضع عدة شروح عن النظام اليوناني، محاولاً فيها كلها ابتكار نظريات جديدة، وشروح سهلة لدرس النظام البطليموسي، وله أرصاد مختلفة في قياس بعد الشمس وتحديد السنة الشمسية، وقد أضاف فلكاً تاسعاً إلى النظام القديم وراء فلك النجوم الثوابت، وكان أول من وصف الكرات المتراكزة من العرب.

البتاني سنة 270هـ. وهو الذي اشتهر بدقة أرصاده من أيام هبارخس إلى كوبرنيكس، حتى فاق الخوارزمي بدقة ملاحظاته في الكواكب السيارة. وكان من منتقدي بطليموس وقد وجد ميل دائرة البروج عن دائرة خط الاستواء 35َ 23ْ وهو رقم مطابق لقيمة الميل الحديث، وعمل ملاحظات دقيقة عن القمر واختلاف حركاته، وعن أوقات الخسوف والكسوف. وهذا ما قاله عنه ابن خلكان. (له الأعمال العجيبة، والأرصاد المتقنة، وأول من أبتدأ بالرصد سنة 264هـ، وله من التصانيف: الزيج، وكتاب معرفة مطالع البروج، وشرح أربع مقالات بطليموس، وأصلح قيمة مبادرة الاعتدالين، وقيمة ميل دائرة البروج على دائرة خط الاستواء).

الزدكلي سنة 460هـ. اشتهر بصنع أدوات الرصد وخصوصاً الأداة المسماة بالصفيحة وهي لقياس أبعاد وأقطار الكواكب السيارة. كتب شرحاً ترجم على أيام الملك الفونسو ملك وقد أخذ عنه وعن البتاني كوبرنيكس في تعليل نظريته الجديدة

ولعل أشهر التجارب العملية التي قام بها العرب أيام المأمون

هو قياس الدرجة من خط نصف النهار، بواسطة ثلاثة أخوة

يقال لهم بنو موسى، وبطريقة غير التي عمل بها اليونان

الأقدمون ذهبوا إلى موضع في سهل سنجار في العراق، فذهب

بعضهم شمالاً والبعض جنوباً حتى رأوا في الشمال النجمة القطبية ترتفع درجة وفي الجنوب تهبط درجة. ثم قاسوا

المسافتين ووجدوا الوسط بينهما، ولكنهم أتخذوا الرقم الأكبر

منهما وهو 32 56 ميلاً

وغير هؤلاء الذين ذكرناهم، قام أناس كثيرون من العرب أتوا بأبحاث جليلة مختلفة في شكل النظام الشمسي، وتعليقات شديدة النقد على النظام اليوناني لا يسعنا ذكرها الآن.

قد يبدو النظام اليوناني للبعض بسيطاً بالصورة التي شرحناها، ولكنه في الحقيقة معقد وغاية في الصعوبة، وفيه كثير من المتناقضات لعدم ثبوته على أساس راسخ، والذي زاد في المسألة تعقيداً هو نظرهم للظواهر كما ترى لا كما يستسهلها العقل البشري.

فتعقد النظام اليوناني وتناقضه، من كثرة ما زيد عليه من الكرات والدوائر الصغيرة، ولد الشك في قلوب الكثيرين من العرب. وهذا الشك هو الذي حرضهم على البحث والتدقيق في ملاحظاتهم، وعلى التأمل في نتائج أرصاداتهم في الكون، وربما يمكن أن تكون أسباب التناقض وعلل النقائص ومسببات الحركات الشاذة والمختلفة التي لاحظوها ولاحظها اليونان من قبلهم. لكن هذا الشك الذي نرى في كثير من شروحهم ومؤلفاتهم لم يتخذ طريقاً محسوساً معيناً يمكن معه أن نسميه انقلاباً علمياً كالذي قام به كوبرنيكس وكبلر وغاليلو فيما بعد.

ومع أن العرب لم يتوصلوا إلى اكتشاف جديد في ميزة هذا الكون العجيب، وتعليل ظاهراته تعليلاً صحيحاً، فإن دقة ملاحظاتهم وحسن ترتيب نتائج أبحاثهم، جعلتهم يفوقون الإغريق ويبذونهم في أشياء كثيرة. فقد مهدت السبيل لاكتشافات مقبلة، وجعلت فكرة النظام اليوناني سهلة التغيير قابلة للانقلاب إلى الفكرة الصحيحة، حتى لم يكن بينهم وبينها إلا مسافة قصيرة جداً بدليل أن كوبرنيكس مبتدع الفكرة الجديدة لم يتوصل إلى ما توصل إليه إلا بعد مراجعة كتب العرب، وقد عاش بعد ما انطفأ نور العلم في الشرق بمدة غير طويلة

فرح رفيدي