مجلة الرسالة/العدد 590/على نمط المقامات

مجلة الرسالة/العدد 590/على نمط المقامات

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 10 - 1944



في العيد

للأستاذ علي متولي صلاح

حدثنا أبو الحسن الفسطاطي قال:

قضيت شهر رمضان المعظم هذا العام - إلا أقله - في عزلة عن الحياة، أتقرب بالعزلة إلى الله، وأبتهل إليه وأبتغي رضاه، فكنت أقضي النهار صياماً، والليل قياماً، وألزمت نفسي ألا تنطق إلا لماماً، وألا تقارف آثاماً، وألا تقول إلا سلاماً، والتزمت هذه الحال ثمانياً وعشرين من الليال. . .

ولما أوشك رمضان الكريم على النهاية، وأشرف على الغاية، حدثتني النفس الأمارة بالسوء، التواقة دائماً إلى ما يسوء، أن أنفلت من هذا العقال، وأتحلل من تلك الأغلال، وأسعد نفسي بالأنس بين الصحاب، والسمر بين الأحباب، وأنقل وإياهم الحديث في العلوم والآداب، فذلك عندي وعندهم أشهى الرغاب، وما خضنا علم الله يوماً في حديث نم أو اغتياب، ولا ذكرنا وقاك الله حديث أعراض ولا أنساب. . .

قصدت إلى تلك الصومعة الجميلة، والظلة الظليلة، صومعة الأدب والأدباء، ومثوى الشعر والشعراء، تلك التي أنشأها مقام الأستاذ الزيات بالمنصورة الحبيبة حينا من الدهر، كان والله في مثل عمر الزهر، وكان - وحقك - عهداً ما برحت نشوته في الفؤاد، وما زال برده في الأكباد، وما فتئ حديثه هو الحديث المعاد، ليته بقي ودام، إلى هاتيك الأيام. . .

وفي جوار تلك (الكافورة الحسناء) الكاملة البهاء، الحانية على النيل الجميل كأنها الرحمة والعطف والمحبة تهبط من السماء، تلك التي خلدها الزيات بآيات من السحر، ما هي من نثر، ولا هي من شعر، ولكنها من الدر والتبر، في جوارها أخذت مكاني، وآثرت الجلوس منتظراً إخواني، وطال بي المكث والانتظار، وما وافاني منهم ديار، ولا نافخ نار، فجلست وحدي أتأمل ما يفعل الناس في شهر الصيام وما يقولون، وفي أي حديث يخوضون، فما راعني إلا أن أسمع الناس يسبون شهر رمضان ويلعنون، ويتضجرون منه ويتململون، ويودون فراقه ويشتهون، ويصفونه بأقبح الصفات، ويشيعونه بأسوأ اللعنات، فسألت نفسي فيم يصوم هؤلاء ويمسكون؟ ومازالوا باللغو والباطل يتمسكون؟ أم هم على الصي والإمساك مكروهون؟. . . والصوم كما أفهم عبادة مردها إلى الضمائر، ومرجعها إلى السرائر، ليست عبادة نفاق، ولا تجارة للإرتزاق، ولا يقصد بها سوى الخلاق! ومن أراد أن يبدو للناس صائماً وهو عند الله مفطر كان ذلك عليه يسيرا، لا عسيرا! أما أن يمسك عن الطعام، ولا يفتأ يسب الصيام، كأنه على فعله مسير، لا مخير، فذلك ما لا أستطيع له تأويلا، ولا أعرف له تعليلا. . . ورجعت إلى داري وقد انتصف الليل أو كاد، وأنا في إبراق وإرعاد، أسب هؤلاء الأوغاد، وأحمد الله على تلك الوحدة والانفراد. . .

وفي الليلة التالية - وكانت آخر ليالي رمضان - ذهبت كدأبي إلى مكاني المعهود، ومراحي المنشود، فما عتمت أن رأيت الناس وقد تنفسوا الصعداء، وأبرقت أساريرهم بالبشر والصفاء، كأنما انحطت أثقالهم، وانفكت أغلالهم، وتحللوا من وقر لا يطيقونه، وأسر لا يحتملونه، ولا حديث لهم إلا ما كانوا يحرمون في رمضان من لذات، ويمنعون من طيبات، ورأيت فيما رأيت بعد برهة شخصاً يخب في المسير، حتى ليكاد أن يطير، فلما وقع بصره على إخوانه في السهر، ورفاقه في ليالي السمر، صاح فيهم يقول:

رمضان ولى هاتها يا ساقي. . .!!

فرد عليه جميعهم في صوات واحد، وكل منهم يشير إلى صدر نفسه قائلاً:

مشتاقة تسعى إلى مشتاق!

وسرعان ما أداروا بينهم الكؤوس، حتى مالت الرؤوس فحوقلت ورجعت، ومن الشيطان بالله استعذت، وقلت: ليلة أخرى أحتسبها عند الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، وهرولت إلى بيتي كأسف البال، سيئ الحال، أعجب كيف لم يهذب الصيام تلك القلوب الكاشحة، ولم يكبح تلك الطبائع الجامحة. . .

وفي فجر يوم العيد الأغر، وبعد انبلاج صبحه الأزهر، خرجت ألتمس العظات، بزيارة الأموات، فقصدت إلى تلك الصحراء الموحشة التي ينتهي إليها الجميع، الرفيع منهم والوضيع؛ والمتبوع منهم والتبيع، تلك التي تسكن النفوس عندها وتخشع، وتتأمل القلوب لديها وتخضع، وتزهد الطامع فيما فيه يطمع، واليه ينزع،. . . فإذا بي أرى عندها مما تندى له الجباه، ما لا يصل الخيال إلى مداه! وما ظنك بنساء حول المقابر متبذلات، غير محتشمات، ولا مؤدبات؟ قد أخذن زخرفهن وازين بأفخر اللباس، ليبهرن عقول الناس؟ ورجال قد خلعوا العذار، وتركوا الوقار، ونصبوا الحلقات للأحاديث والأسمار، لا للعظة والاعتبار، كأنهم وحقك في قصور، لا في قبور!

وشبان مفتونين قد جاءوا إلى المقابر جماعات، يسعون وراء الغادات، الرائحات الغاديات، ويغمزون لهن بأطراف الأحداق، ويبثونهن لواعج الصبابة والأشواق، ويظهرون لهن العشق والهوى، والهيام والجوى، ونسوا ما حولهم من الرجام! التي توحي بالآيات العظام، وتنسي الحب والغرام!

فلما شاهدت هذه الأباطيل ضاقت نفسي، وهاج حسي، وعدت إلى داري وصرت حلسها إلى وقت الأصيل، فخرجت بلا صديق ولا دليل، أنعم النظر في مشاهد العيد وأطيل، فما كادت والله تقع عيني إلا على شر، ولا ترى غير هزل ونكر، ولا تكاد تسمع أذني إلا الفحش والهجر، أفواج من الآدميين سائرون كالبهم هنا وهناك بلا أغراض ولا أهداف، كأنهم قطيع من الخراف، يسيرون - وقاك الله - كما تشاء لهم أرجلهم عن اليمين أو عن اليسار أو في المنتصف مشية الفرح والزهو والسرور، استمتاعاً بما تبيحه لهم حرية السير والمرور!

وعربات تكدست بالأجسام التي تتغنى بأنكر الأصوات، وأقبح النغمات، كأنها خوار ثيران، أو نهيق قطعان، ومجالس ومجتمعات لا للصلاة ولا للدعاء ولا للسجود، ولكنها لابنة العنقود! وناهيك بما يدور فيها من حديث الإفك والبهتان، والغيبة في الأبرياء والعدوان، مما تحرمه الأديان، ويستنكره الديان، ولا يليق بطبيعة الإنسان!

وكم وراء الستار في ليالي العيد من أمور! وكم يخفي ظلام أمسياته من فجور! وكم تباح حرمات، وتنال شهوات، وتدرك غايات! كأن الناس ما كانوا منذ يوم لله صائمين، ولحدوده ملتزمين، أو كأنهم كانوا في صيامهم هازلين لا جادين:

قال أبو الحسن: فلما رأيت هذه الحال، وذلك المآل، فزعت إلى الله أقرأ في كتابه، وأقف خاشعاً عند بابه، وأستزيد من رحمته ومن ثوابه، واطلب للناس الهدى والرشاد، والصواب والسداد، ثم أنشدت:

ما صام من أمسك عن طعامه ... ولم يصم عن اقتراف إثمه

الصوم أن تمسك عن عدوان ... وعن أذى. . . في السر والإعلان إن لم يهذب بالصيام الطبع ... فما وراء أن تجوع. . . نفع!

(المنصورة)

علي متولي صلاح