مجلة الرسالة/العدد 594/أبو تمام
1 - أبو تمام مجلة الرسالة/العدد 594/أبو تمام وموازين السرقات الشعرية عند ابن الأثير للأستاذ دريني خشبة رأينا أن أبا تمام لم يشتغل طول حياته بغير الشعر تأليفاً وتصنيفاً، ورأينا كيف كان يختار مرة للمشهورين ثم يختار أُخرى لغير المشهورين، فيحكم ذوقه النقاد في الحالين، فلا يقدم إلينا إلا كل درة وكل غرة من درر الشعر العربي وغرره. . . ولم يكن أبو تمام مصنفاً ومؤلفاً فحسب، بل كان حافظاً، بل كان أعجوبة في الحفاظ الذين اشتهر بهم تاريخ الفكر العربي. . . ورأينا اتفاق آراء خصومه وأصدقائه على أنه كان يأخذ المعنى، فيعني بتخميره - على رأي الآمدي - أو بالاتكاء فيه على نفسه - على رأي الصولي - حتى يخلص له آخر الأمر، أو لا يخلص له، بل يشوهه وينقص منه، كما صرح بذلك دعبل وابن الأعرابي التوجي وأبو هفان وأبو حاتم السجستاني وغيرهم من أعداء أبي تمام. . . وقبل أن نأخذ في عرض طائفة من سرقات أبي تمام، مما استدركه عليه الآمدي، لا نرى بداً من وضع خلاصة لذلك الفصل القيم الذي ختم به الأستاذ العلامة أبو الفتح بن الأثير كتابه (المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر) والذي خصصه للسرقات الشعرية، ولا سيما عند أبي تمام والبحتري، وابن الرومي والمتنبي، وهو فصل من أبرع الفصول في بابه، وأكثرها إحاطة بهذا الموضوع الذي تشعبت أطرافه، وكثر فيه إرجاف الرواة والنقاد. ومن الطريف أن ابن الأثير المتوفى سنة 637هـ كان قد ألف في ذلك الموضوع كتاباً قائماً بذاته، ثم ضاع هذا الكتاب، فعوضنا منه بذلك الفصل خيراً 1 - فعند ابن الأثير أن الشاعر إذا أورد شيئاً من ألفاظ شاعر آخر، في معنى من معاني هذا الشاعر، ولو كان ذلك لفظة واحدة، فإن ذلك يكون دليلاً قاطعاً على سرقته. 2 - ويقسم السرقات الشعرية إلى خمسة أقسام: هي النسخ، والسلخ، والمسخ، واخذ المعنى مع الزيادة عليه، ثم عكس المعنى إلى ضده 3 - أما النسخ، فهو أخذ اللفظ والمعنى برمته، من غير زيادة أو نقصان؛ وأما السلخ فهو أخذ بعض المعنى، وأما المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه 4 - ويعود ابن الأثير فيجعل النسخ على ضربين: فإما أخذ كلاماً كما تقدم، وأما أخذ معظم اللفظ والمعنى كله، كقول أبي نؤاس: دارت على فتية ذل الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاءوا فقد نسخه من بيت في أصوات معبد، وذكره أبو الفرج: لهفي على فتية ذل الزمان لهم ... فما أصابهم إلا بما شاءوا ومثل قول أبي تمام: محاسن أصناف المغنّين جمَّة ... وما قصبات السبق إلا لمعبد نسخه ممن مدح معبداً، وذكره أبو الفرج، فقال: أجادُ طوَيس والسُّريجي بعده ... وما قصبات السبق إلا لمعبد؟! 5 - ثم يقسم السلخ فيجعله أحد عشر نوعاً: (وهذا التقسيم أوجبته القسمة، وإذا تأملته علمت أنه لم يبق شيء خارج عنه!) فالأول: أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه، ولا يكون هو إياه، وهذا من أدق السرقات مذهباً، وأحسنها صورة، ولا يأتي إلا قليلاً كقول بعضهم: لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل آخذه المتنبي فقال بيته المشهور: وإذا آتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وقول أبي تمام: رعته الفيافي بعدما كان حقبة ... رعاه وماء الروض ينهل ساكبه آخذه البحتري فقال: ركبا القنا من بعدما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكر! الثاني: أن يؤخذ المعنى مجرداً من اللفظ، وهو صعب قليل الورود، بل هو من أشكلها، وأدقها، وأغربها، وأبعدها مذهباً، كقول أبي تمام: فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقوم مقام النصر إذ فاته النصر فقد سلخه من قول عروة بن الورد: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح ليبلغ عذراً. أو ينال رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل مُنجح ولا يخفى ما في بيت أبي تمام من الجمال والعبقرية في السلخ مع حسن السبك! والثالث: أخذ المعنى ويسير من اللفظ، وهو عند ابن الأثير من أقبح السرقات وأظهرها شناعة، وقد افتضح بهذا النوع البحتري خاصة، ووقع فيه أبو تمام كثيراً، مثل قوله: فلم أمدحك تفخيماً بشعري ... ولكني مدحت بك المديحا فقد سلخه من قول حسان: ما إن مدحت محمداً بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمد وقول ابن الرومي: جرعته العيون فاقتص منها ... بجوى في القلوب دامي الندوب فقد سلخه من قول أبي تمام: أدميت باللحظات وجنته ... فاقتص ناظره من القلب! وسرقة ابن الرومي ظاهرة مفضوحة لا شك فيها، ويخفف من وزر السارق في نظر ابن الأثير أن يجيء بلفظ أحلى، أو معنى زائد فيه جمال. أما أن ينحط عن الأصل، فهذه هي الشناعة التي ما مثلها شناعة عنده! - والرابع أن يؤخذ المعنى فيعكس. وهو حسن يكاد يخرجه حسنه عن السرقة، كقول أبي الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذة ... شغفاً بذكرك فليلمني اللوم عكسه المتنبي فقال: أأحبه وأحب فيه ملامة؟ ... إن الملامة فيه من أعدائه - والخامس أخذ بعض المعنى، كقول أبي تمام: تُدعي عطاياه وفرا وهي إن شهرت ... كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفا ما زلت منتظراً أعجوبة زمناً ... حتى رأيت سؤالاً يجبتني شرفا أخذه من قول أمية بن أبي الصلت: عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... ببذل، وما كل العطاء يزين وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال بشين - والسادس هو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر، كقول ولد مسلمة: أذُلَّ الحياة، وكره الممات ... وكلا أراه طعاما وبيلا فإن لم يكن غير إحداهما ... فسيرا إلى الموت سيراً جميلاً أخذه أبو تمام فقال: مثَّل الموتَ بين عينيه والذلّ ... وكُلاً رآه خطباً عظيما ثم سارت به الحميَّة قُدْما ... فأمات العِدا ومات كريما! فزاد في المعنى: فأمات العدا ومات كريما - والسابع أن يؤخذ المعنى فيكسي عبارة احسن من الأولى، وهنا تتجلى عبقرية أبي تمام. . . ولله من قال: من سرق معنى واسترقه، فقد استحقه: وإن كنا لا نشجع السرقة!! قال بعض الشعراء: مُخَصّرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زيّنتها عقودُها أخذه أبو تمام فقال: كأن عليها كل عقد ملاحة ... وحسناً وإن أضحت وأمست بلا عقد وسطا عليه البحتري فقال: إذا أطفأ الياقوت إشراقُ وجهها ... فإن عناءً ما توخت عقودُها وكلاهما رقق المعنى وزاده حسناً - والثامن أن يؤخذ المعنى ويوجز في سبكه، وهو عند ابن الأثير من أحسن السرقات كقول أبي العتاهية: وإني لمعذور على فرط حبها ... لأن لها وجهاً يدل على عذري أوجز فيه أبو تمام فقال: له وجه إذا أبصر ... ته ناجاك عن عذري! وقول بشارة: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهِج أوجز فيه تلميذه سلم الخاسر فقال: من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللذة الجسور! - والتاسع أن يكون المعنى عاماً فيجعله السارق خاصاً والعكس: كقول الأخطل (ونسبه الناشر إلى أبي الأسود): لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم خصصه أبو تمام فقال: أألوم من بخلت يداه وأغتدى ... للبخل تربا؟ ساء ذاك صنيعاً وقال أبو تمام: ولو حادت شُولٌ عذرت لقاحها ... ولكن مُنِعتُ الدَّرَّ والضَّرع حافل عممه المتنبي فقال: وما يؤلم الحرمان من كف حارم ... كما يؤلم الحرمان من كف رازق - والعاشر زيادة البيان مع المساواة في المعنى، أو ضرب مثال يوضح المعنى المسلوخ: كقول أبي تمام قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فَخِيل من شدة التعبيس مبتسما توسع فيه المتبني فقال: وجاهل مده في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فراسة وقم إذا رأيت نيوب الليث بارزةً ... فلا تظنن أن الليث يبتسم وهذا عند ابن الأثير من المبتدع لا من المسروق! - والحادي عشر هو اتحاد الطريق واختلاف المقصد. . . وذلك أن يسلك الشاعر طريقاً واحدة تنتهي بهما عند جنتين مختلفتين! ثم تتجلى فيهما عبقرية كل منهما. . . وقد ضرب ابن الأثير لذلك مثلاً قصيدة لأبي تمام في الرثاء بولدين وقصيدة للمتنبي في الرثاء يولد. ومطلع قصيدة أبي تمام: ما زالت الأيام تخبر سائلا ... أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا وهي موجهة إلى عبد الله بن طاهر. ومطلع قصيدة المتنبي: بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل ... وهذا الذي يضني كذاك الذي يُبلى وهي في رثاء أبي الهيجاء بن سيف الدولة وقد توفي صغيراً، ثم أقام بينهما موازنة يشوهها التلخيص، فيحسن الرجوع إلى المثل السائر ليشهد القارئ مثلا من أمثلة العبقرية العربية في النقد الأدبي الدقيق (جـ2 ص391 وما بعدها)، وإن ظهر فيها ابن الأثير متحزباً (بحق!) للمتنبي، مع سلخ المتنبي كثيراً من معاني أبي تمام. ثم أنه فضل المتنبي على البحتري في وصفهما الأسد في قصيدتين متشابهتين تواردا على كثير من معانيهما، ولعل هذا التوارد هو الضرب الثاني عشر من السلخ الذي لم يشر إليه ابن الأثير ثم يعرف ابن الأثير المسخ فيذكر أنه (قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة. . . والعكس) على أنه هذا العكس ليس في رأينا مسخاً، بل هو خلق وابتداع وتجميل يقتضيه الذوق الدقيق الصناع قال أبو تمام: فتى لا يرى أن الفريصة مقتل ... ولكن يرى أن العيوب مقاتل مسخ صورته المتنبي فقال: يرى أن ما بان منك لضاربٍ ... بأقتل مما بان منك لعائب والمسخ هنا هو في تجاور ما وما المختلفتين معنى وحسبنا الآن هذا القدر مما لخصناه من ابن الأثير، وهو تلخيص نضعه بين يدي القارئ العجل، ليكون نوراً يكشف له جوانب الظلام وجوانب العبقرية، فيما سنقدمه له من سرقات أبي تمام التي أحصاها عليه الآمدي. ولو أن ابن الأثير تولى عنا الفصل بين أبي تمام وخصومه، لأمدنا بذخيرة لا تنفذ، ويد لا تجحد. . . رحم الله نقادنا الأفذاذ وجزاهم عنا خيراً دريني خشبة