مجلة الرسالة/العدد 597/بين الأبصار والبصائر

مجلة الرسالة/العدد 597/بين الأبصار والبصائر

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1944



للأستاذ محمد عبد الغني حسن

امتاز الأدب العربي بطائفة من العُميان فقدوا نعمة البصر ولكنهم لم يفقدوا نعمة الذكاء والفهم والبصيرة. حتى لقد بلغ بعضهم منزلة يحسده عليها المبصرون.

وفي كل أمة طائفة من هؤلاء، اشتهروا بحسن الأثر، وجليل العمل. وعند الإنجليز منهم أمثال الدكتور أرميتاج؛ والقس توماس برنارد، والسير فرنسيس كامبل، ودكتور رانجر؛ والسير روبرتسون تندال، وهنري تايلر، والسيدة هيلين كيلر.

وعند الفرنسيين منهم أمثال السيدة جاليرون دي كاليرون

وعند العرب أمثال أبي العلاء المعري، وبشار بن برد، وحماد بن زيد الضرير.

والذي يولد أعمى يقال له أكمه. ومن هؤلاء عندنا بشار ابن برد وقد جمع إلى الكمه جحوظ العينين وضخامة الخلقة وعظم الوجه.

ومن العميان من أصابه العمى في طفولته، كما حدث للمعري، وقد اعترف هو بذلك في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة.

وقد يكون العمى في الصغر نتيجة لشيء آخر غير المرض. كما حدث للقس برنارد الإنجليزي وللسير فرنسيس كامبل الذي جنت على بصره لعبة طائشة.

وقد يكون العمى نتيجة لحادث مقصود لذاته، كتوقيع عقوبة أو تنفيذ حكم. كما حدث لأمير المؤمنين المتقي الخليفة العباسي الذي خلعه الثوار وسملوا عينيه، ولم يمنعهم دينه وصلاحه وكثرة صلاته وقيامه من تعذيبه على تلك الهيئة. واجتمع عليه فقد البصر وعذاب السجن خمسة وعشرين عاماً احتملها صابراً راضياً مذعناً لقضاء الله. وله في ذلك أبيات مؤثرة يقول فيها:

سملونا وما شكو ... نا إليهم من الرمد

ثم عاثوا بنا ونح ... ن أسودٌ وهم نقدْ

كيف يغتر من أقا ... م وفي دستنا قعد

وكما حدث للوزير محمد بن بقية وزير بني بويه الذي رثاه ابن الأنباري الشاعر بقصيدته المشهورة التي مطلعها: - علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات

وهذه القصيدة وزعت في شوارع بغداد خفية - كما توزع اليوم المنشورات السرية - إلى أن بلغ خبرها ابن بويه فتمنى أن يكون هو المصلوب وأن تكون القصيدة قيلت فيه.

ومن الناس من يصاب بالعمى على سن عالية كما حدث للدكتور أرميتاج الإنجليزي من رجال القرن التاسع عشر، فقد كان جراحاً نابهاً وبرع في علم النبات براعة جعلته من أكبر الثقات فيه. وأتقن الألمانية كأنه وهو يتكلم بها لا يستعمل لغة غربية، فلما نزلت به البلية لم يستكن إلى محبس العمى وسجن الظلام بل استطاع أن يقدم إلى إخوانه في البلاء أجل المساعدات التي جعلته في عداد الآخذين بيد المكفوفين العاملين على تحسين أحوالهم وتهوين الحياة عليهم.

ومن هؤلاء في أدبنا العربي صالح بن عبد القدوس صاحب البيت المشهور: -

ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه

فقد ذاق متع الدنيا ولذات العيش وهو بصير، فلما عمى لزم بيته وأوى إلى محبسه، ووجد في الوحدة أنساً وفي العزلة سروراً. وعبر عن ذلك بقوله: -

أنست بوحدتي فلزمت بيتي=فتم العز عندي والسرور

وأدبني الزمان فليت أني ... هجرت فلا أزار ولا أزور

وله أبيات مؤثرة يخاطب بها عينه الذاهبة بقوله: -

عزاءك أيها العين السكوب ... ودمعك أنها ثوب تنوب

وكنت كريمتي وسراج وجهي ... وكانت لي بك الدنيا تطيب

ومنها: -

على الدنيا السلام فما لشيخ ... ضرير العين في الدنيا نصيب

يموت المرء وهو يعد حيا ... ويخلف ظنه الأمل الكذوب

يمنيني الطبيب شفاء عيني ... وما غير الإله لها طبيب

إذا ما مات بعضك فابك بعضاً ... فإن البعض من بعض قريب

وممن أصيب بالعمى على كبر عطاء بن رباح الذي ولد في خلافة عثمان بن عفان، وكان تابعياً جليلاً. انتهت إليه الفتوى بمكة وشهد له أبو حنيفة بالفضل.

ومنهم عقيل بن أبي طالب أخو الإمام علي؛ وقد اجتمع له من علم النسب وأيام العرب شيء كثير.

ومنهم عبد الله بن العباس ابن عم النبي عليه السلام، وأبو الخلائف من الدولة العباسية. وكان فقيهاً عظيماً. وبلغ من فقهه أن الخليفة عمر كان يستشيره في مسائل الفقه. هذا إلى وضوح في الحجة، وجهارة في الرأي، وقوة في البرهان.

وليس في الدنيا من يشتهي العمى ويطلبه، فهو شيء بغيض إلى النفوس؛ حتى ليدعي به على المكروه، ولكن شاعراً واحداً تمناه لنفسه فكان له ما تمنى. . .

أما الشاعر فاسمه المؤمل بن أميل؛ وأما قصته فكما يأتي: -

أحب امرأة من الحيرة، ورآها فجنت عليه نظرته إليها فقال: -

شفَّ المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر

فما عتم طويلاً حتى تحقق ما تمناه، وضاعت منه عيناه. . .

ولم يبلغ أحد في الأدب العربي كله منزلة أبي العلاء، وهو في الشعر من هو. أما في التأليف فقد عد له المرحوم تيمور باشا أربعة وسبعين كتاباً؛ ليست مثل كتب السيوطي. . . ولكنها مثل (رسالة الملائكة) و (الفصول والغايات) و (رسالة الغفران).

استعمل العمى في القرآن بمعنى الضلالة والحيرة. وذلك شر أنواع العمى. أما فقد البصر فقد يخففه ويغني عنه تفتح البصيرة وتنور القريحة. ونحن نجد الآن بعض المكفوفين يفوقون المبصرين إدراكاً للأمور وخوضاً في المعترك الحيوي، وهم ليسوا كمكفوفي الأمس يخلدون إلى الدعة ويلتزمون المحابس في دورهم، ولكنهم يشتركون في الحياة العامة.

فالسير فرنسيس كامبل حصل على أعلى درجة من جامعة جلاسجو وهو أعمى. وكافح في الحياة، واحتل مكاناً بارزاً في الحياة الاجتماعية بإنجلترا حتى استحق لقب (سير) وهو به جدير.

والسيدة هيلين كيلر لم يمنعها العمى من التأليف المجدي في علم النفس ودرس نفسيات الأطفال. وكتاباها حجة في هذا الموضوع.

والشاعرة الفرنسية مدام جاليرون دي كالون لم يعطل العمى مواهبها في الشعر وبراعتها في الخيال. وهي تعبر عن ذلك في قصيدة لها عنوانها (ماذا بهم؟) تقول منها: - لن أراك بعد هذا أيتها الشمس الساطعة

ولكني سأحس حوادثك

لن أراك بعد هذا يا سناء الورود

ولكن السماء قسمت حظوظنا

فماذا يهم الضياء؟ - إن عندي روح الأشياء

لن أرى بعد هذا بهاء الورود

ولكن عندي عبيرها الفوَّاح

والدكتور رانجر مثال لشجعان المكفوفين. فلم ينطو على نفسه بل حصل على إجازة الحقوق وهو ضرير. واشتغل بالمحاماة واشترك في مجامع عديدة للعميان وصاهر إلى أشرف الأسر الإنجليزية.

والسير روبرتسون تندال لا يقل عنه شجاعة فقد ناضل واشترك في الهيئة الاجتماعية، وألقى دلوه مع المبصرين حتى شرفته مدينة بريتون الإنجليزية بالنيابة عنها في مجلس النواب.

والمستر هنري تايلر أكمل نفسه بالعلم - وهو ضرير - فاختير في سنة 1898 رفيقاً بالجمعية الملكية للمهندسين؛ واختير ممثلاً جامعياً في مجلس جامعة كامبريدج. واختير للمدينة سنة 1900م. وله على المكفوفين من طلاب العلم العالي فضل عظيم. فقد اشترك في طبع كتب لهم يقرءونها بأطراف أصابعهم، ولا بأبصارهم. . .

ولعل القراء يذكرون فصلاً ترجمته مجلة المختار خلاصةً لكتاب ألفه كفيف اسمه (كارستن اونستاد) وعنوان الكتاب (العالم عند أطراف أصابعي)، وهو ترجمة لحياة حافلة بالمغامرة والبطولة والنضال من شاب فقد نعمة البصر وهو دون الثلاثين. وهذا الكتاب يذكرنا بكتابين نفيسين للسيدة هيلين كيلر؛ الأول (قصة حياتي) والثاني (العالم الذي أعيش فيه)

وللمكفوفين نوادر وطرائف لا يخلو منها كتاب من كتب الأدب والتاريخ، وقد صنع فيهم صلاح الدين الصفدي كتابه المشهور (نكت الهميان) الذي أشرف على طبعه المرحوم أحمد زكي باشا رحمه الله.

محمد عبد الغني حسن