مجلة الرسالة/العدد 599/ما لزكي مبارك وكتاب الله
مجلة الرسالة/العدد 599/ما لزكي مبارك وكتاب الله
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
لقد فقد زكي مبارك كل حق كان له في أن يعرض لكتاب الله سبحانه بفهم أو برأي بعد أن ثبت عليه ما ثبت من إنكاره إعجاز القرآن، وقوله بأن القرآن كتاب محمد، وتعديه هذا وذاك إلى القول بمذهب وحدة الوجود الذي هو في الحقيقة إنكار للخالق بإجلاله في المخلوق، أو بإجلال المخلوق فيه (سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً)
إن الذي يعتقد في القرآن عقيدة تضاد عقيدة المسلمين لابد متأثر بما يعتقد حين يعرض للقرآن الكريم يبحث أو يفهم. فالذي يقول مثل زكي مبارك بأن القرآن كلام محمد مضطر أن يحمل القرآن على ما ينتظر أن يقوله بشر في العصر الذي عاش فيه النبي. أما المعاني التي تدل دلالة قاطعة على أن القرآن من عند الله لاستحالتها على العقل البشري في العصر الذي نزل فيه القرآن، فهي عند مثل زكي مبارك ممتنعة عقلاً أن تكون من معاني القرآن. هذا هو السر في إنه دائما يحمل القرآن على ما يظن أن الناس كانوا يفهمونه أو يعتقدونه في العصر الذي عاش فيه رسول الإسلام كما يسعى النبي عليه الصلاة والسلام
حتى الوحي الذي كان ينزل على النبي هو زكي مبارك كهذا الإلهام الذي يزعم إنه يلهمه، أو أن الشعراء والمفكرين يلهمونه، ولو كان إلهاماً أسخف المعاني وأرذلها كما فعل في مقاله الذي قلت إنه عاد فيه إلى التعرض للقرآن بما لا يليق فانتقم الله منه في نفس المقال، وقال هو إنه رجع إلى المقال فلم يجد فيه لفظة واحدة تدل على إنه يخاصم القرآن
ولقد خاصم زكي مبارك القرآن الكريم في موضعين من مقاله ذلك، يصرف النظر عن موضوعه الذي كله خصومة لما جاء به القرآن ودعا إليه
أما الموضع الأول، فحين أنطق روح صاحبته بقولها له:
(لقد أوحينا إليك)؛ ووضعه ذلك هكذا بين أقواس ليدل على إنها كلمات مقتبسات وليست من إنشائه. واستعماله هذه الكلمات في المقام الذي وصف فيه ما كان بينه وبين صاحبته فحة وخصومة للقرآن. إنه يعلم أن (أوحينا إليك) و (لقد أوحينا) كلمات لا توجد في العربية في غير القرآن. إنها من أخص الكلمات القرآنية وأفخمها وأشرفها، لأن ضمير المتكلم فيها هو في القرآن ضمير الجلالة، وضمير المخاطب فيها هو في القرآن ضمير الرسالة.
فتصور بعد ما بين الضميرين في الكلم القرآني وفي مقال زكي مبارك يتضح لك مبلغ عداوة هذا الرجل للقرآن.
ذلك هو الموضع الأول الذي تعرض فيه زكي مبارك للقرآن في مقاله. أما الموضع الثاني، فحين أجرى المحاورة الآتية بينه وبين صاحبته التي أراد أن يقنعها بأن الجماد حي، لأن بعض الزلط شكاه شكل الدوم والخيار!
هي: ما رأيك في الآية الكريمة: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)؟
هو: (القرآن يعرض الظواهر التي تعارف عليها الناس لتكون الحجة على القدرة الإلهية أقوى وأوضح. فمن العجيب في نظر من لا يعرف أن تكون البذرة الخرساء أصلاً للدوحة الشماء، وأن تكون البيضة الصغيرة أصلاً لطائر جميل يغرد أو يصيح
وفي جوابه هذا يفرض أن معنى الكلمات الكريمة لا يمكن أن يخرج عما كان يعرفه الناس في ذلك العصر، لأن القرآن عنده إن هو إلا كلام محمد العربي الذي عاش في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الميلاديين. ومن هنا نسبته الخطأ إلى القرآن الكريم مرات في جوابه هذا: نسب إلى القرآن إنه جارى الناس في تعجبهم مما لا عجب فيه في الحقيقة، ونسب إليه إنه أراد أن يحتج لهم على القدرة الإلهية بما لا حجة فيه في الحقيقة، ونسب إليه إنه جهل جهلهم حين عجب عجبهم من البذرة تخرج منها الشجرة، والبيضة يخرج منها الطائر، لأن هذا كله عجيب عنده في نظر من لا يعرف! أما من يعرف ما يعرفه زكي مبارك من أن الأشياء كلها حية حتى الزلط، فليس خروج الدوح من البذر، ولا الطير من البيض عنده يعجب!
والرجل يفتري في كلامه ذلك ليتوصل إلى إنكار الإعجاز المعنوي لتلك الآية وأشبهها في القرآن الكريم. فلا الناس في ذلك العصر، بل ولا جمهرتهم في هذا العصر يرون عجيباً أن يتحول البذر والبيض إلى نبات وحيوان، لأن ذلك شيء عادي مألوف قد غطت الألفة على موضع العجب منه، وصرفتهم عن تدبر سر القدرة الإلهية فيه. والقرآن الكريم هو الذي عجب الناس من أمثال هذا المألوف، واستلفتهم إلى ما فيه من معجز القدرة الإلهية حين طالبوا النبي بالمعجزات، وأقام منه الدليل العقلي العلمي على إمكان البعث حين أنكروا البعث، ودعا إلى التفكير والبحث عما أودعه متنزل القرآن سبحانه في كل ذلك من أسرار كشف العلم الآن عن بعضها؛ فتجلى بذلك جانب من إعجاز القرآن قامت به حجة الله على من يعلم ويعقل ولو لم يعرف من العربية ما يدرك به الإعجاز اللغوي للقرآن
فالعلماء، لا عوام الناس، هم الذين يعجبون من خروج النبات من البذور، وخروج الحيوان من البيض. يعجبون من ذلك عجباً لا يكاد ينقضي، يحملهم على متابعة البحث عن سر جديد حين يتجلى لهم بالبحث العلمي سر قديم، ولا يتفكرون يسلمهم السر هكذا إلى سر، جيلاً بعد جيل، من غير أن يكون لهم أمل في الإحاطة بكل أسرار الحياة. ثم يجيء زكي مبارك فيزعم أن القرآن يقيم الحجة على الناس بتعجيبهم مما لا عجب فيه إلا في نظر من لا يعرف! حتى إذا قلنا إنه عاد يعرض للقرآن بالجهل وسوء العقيدة والرأي قال: إنه رجع إلى المقال فلم يجد فيه لفظة واحدة تدل على إنه يخاصم القرآن!
محمد أحمد الغمراوي