مجلة الرسالة/العدد 6/فلسفة برجسون

مجلة الرسالة/العدد 6/فلسفة برجسون

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933



نشرت (الرسالة) بحثاً قيما لحضرة الأستاذ زكي نجيب محمود لخص فيه فلسفة برجسون أحسن تلخيص وأوفاه، وهي تلك النظرية التي تسود عالم العلم الآن، والتي صار لها الرجحان التام على كل ما خالفها من المذاهب والآراء.

وإنني على شدة إعجابي بالطريقة الشيقة الواضحة التي عرض فيها بحثه، وبما دعمه من الحجج القوية، والأدلة الساطعة التي تثبت بأجلى بيان إن الأصل في الكائن الحي هو الروح لا الجسم، وإن الروح كائن مستقل بذاته، وأنه هو الذي يسيطر على الجسم، وهو الذي يديره ويوجهه حسب إرادته الذاتية. وإن الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان، خلقت أنواعها خلقاً مستقلا، ووضعت في الدرجات والمنازل التي عينتها لها الروح بمطلق إرادتها، لا بطريق النشوء والتطور؛ كما كانت تذهب إلى ذلك الآراء المادية البائدة. أقول مع إعجابي بذلك وبغيره مما شيد به أركان النظرية، وأقام عليه بناءها المحكم. أراه قد انتهى إلى نتيجة لا تتفق مع هذه المقدمات، ولا تسير مع أحكام العقل؛ بل بعضها يناقض بعضا.

تلك النتيجة هي قوله في ختام بحثه: (هذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتغير وتبتدع، والتي تلتمس الحرية من قيود المادة هي الله (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) فالله والحياة اسمان على مسمى واحد؛ ولكنه إله ذو سلطان محدود بقيود المادة، وليس مطلق الإرادة كما تصوره الأديان؛ إلا أنه دائب في التخلص من أغلاله وأصفاده. وأغلب الظن أن الحياة ستظفر آخر الأمر الخ. . .)

فنرى من ذلك أنه جعل الله والحياة شيئاً واحدا، وبعد أن وصف هذا الشيء بأنه أساس الوجود وبأنه هو الخالق وهو الذي عيّن الحياة درجاتها ومراحلها وخلق لها أعضاءها ووظائفها، وسخر لها المادة تسخيرا، عاد فجعل هذا الشيء الذي هو الحياة، وهو الروح، وهو الله، خاضعا لقيود المادة، وأنه يجاهد ليتخلص منها. وهذا لعمر الحق تناقض لا يقبله العقل ولا يقول به أحد.

إنه لا بد من أحد أمرين: فأما أن تكون الروح هي الأصل في الوجود والمادة طارئة عليها أو العكس، فإذا كانت الروح هي الأصل (كما ذهب الأستاذ إلى ذلك وبرهن عليه) فلا ريب في أن هذه الروح مستقلة الإرادة مالكة لتمام حريتها، وأن وجودها لذاته لا يحتاج في قوامه إلى شيء، وانه مطلق. فليت شعري ما هي العوامل التي جاءت بعد ذلك وأخضعت الروح للمادة الطارئة وقيدتها بأغلالها وأصفادها؟. أما إذا كان العكس أي إذا كانت المادة هي الأساس، فهذا ما لا يسعنا فرضه، لأن النظرية لا تقول بذلك، بل أنها قامت على هدم هذا الأساس، وقد نجحت في ذلك نجاحا باهرا، حتى لا يكاد يوجد الآن من يقول به.

وعلى هذا يكون الغرض الأول (وهو أساسية الروح واستقلالها عن المادة وتسلطها عليها) هو الواجب التسليم به، ولا يكون ثمة معنى لارتباط هذا الروح بالمادة ارتباط خضوع، ثم لا أدري ماذا يريد الأستاذ بقوله: أن الله أو الحياة يجاهد ليتخلص من قيود المادة. فإذا فرضنا أنه نجح (كما توقع هو ذلك) فماذا يكون بعد نجاحه؟ وأي حالة يصبح عليها؟ أهي شيء غير استقلاله بذاته ونيله حريته التامة؟ ولماذا لم يكن ذلك من الآن بل ومن قبل ما دام هو الأساس في الوجود؟

أما اعتباره الحياة كائناً مستقلاً ذا شخصية موجودة تدافع وتناضل عن نفسها فما ذلك الا وهم، لأن الحياة أمر معنوي لا يقوم الا في الذهن وليس له وجود في الخارج، وكذلك سائر المعاني الكلية مثل العلم والإرادة والقوة فأنها لا توجد في الخارج، بل الذي يوجد منها إنما هو أفراد موصوفون بالحياة أو العلم أو الإرادة أو القوة، وذلك مبسوط في كتب المتكلمين والمناطقة فلا حاجة للتوسع في شرحه هنا؛ وإذا كان المر كذلك فما هي تلك الحياة التي يقول بوجودها وأنها هي الله؟ مع أننا لا نرى الا أفراداً من الأحياء سواء أكانوا من نوع الإنسان أم الحيوان أم النبات، وفي غير أفراد هذه الأنواع لا نرى للحياة وجودا.

الحقيقة أننا لا يمكننا إساغة النتيجة التي انتهى إليها حضرة الأستاذ الباحث بالصورة التي هي عليها، ولا يمكن التوفيق بينها وبين المقدمات التي وضعت بين يديها. فدفعا لهذه الإشكالاات، وتخلصا من هذه المتناقضات، يجب أن نضعها على النحو الذي يحكم به العقل والمنطق، بل الذي تقضي به البديهة: وهو أن نميز الروح التي قلنا إنها أساس الوجود، وأنها تخلق وتدبر من الروح المخلوقة والخاضعة لقوانين الوجود ونواميس المادة، ثم نميز كذلك هذه الروح المخلوقة والتي لها صفة الحياة من المادة المائتة، ونعتبرهما متباينين في الجوهر وفي درجة الوجود، وبعبارة أخرى تكون النتيجة هكذا:

إن للعالم روحاً هي أساس وجوده، وهذه الروح موجودة لذاتها لا عن شيء آخر، ولا لعلة، وإن وجودها مطلق، وسلطانها غير محدود، وأنها هي التي أوجدت كل شيء بمحض إرادتها، وهي التي خلقت المادة وخلعت عليها الحياة بجميع مراتبها، وهذه الروح يجب أن يكون لها كل صفات الكمال والبراءة من جميع شوائب النقص، تلك الروح هي ذات الله تبارك وتعالى.

وما نظن هذه النتيجة تكون موضع بحث فضلاً عن أن تكون موضع خلاف، لأنها هي التي يحتّمها العقل والتي أجمع عليها رجال العلم والفلسفة في كل عصر - الا شواذ لا يعتد بهم ممن يقولون بالحلول أو بوحدة الوجود كسبينوزا وجيوردانو وأضرابهما.

تلك هي ملاحظتنا نقدمها إلى الأستاذ الفاضل عن إخلاص، راجين أن يحلها محلها من الاعتبار، ولا يفوتنا هنا أن نكرر إعجابنا وعظيم اغتباطنا بمبحثه النفيس ومجهوده الموفق.

سيد أحمد فهمي