مجلة الرسالة/العدد 6/من رسالة إلى صديق

مجلة الرسالة/العدد 6/من رسالة إلى صديق

مجلة الرسالة - العدد 6
من رسالة إلى صديق
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933



حول التجديد

. . . الجديد جديد في مظهره، قديم في جوهره، لا يصلح موضعاً لدرس ولا موضوعاً لحديث.

ستقول: إذن ما بال هذه القصائد الرائعة التي يجلوها الشعراء والمقالات الرائقة التي يدبجها الكتاب؟ فأقول لك إنك إذن تفهم من كلمتي القديم والجديد غير ما أفهم، وتريد من مدلولهما غير الذي أريد. كأنك تريد بهما ما كان يريده الأقدمون حين كانوا يتمارون في شعر امرئ القيس وجرير وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي وابن هانئ. والأقدمون كما تعلم إنما كانوا يختلفون في شكل الشعر لا في موضوعه، فهم يتكلمون في اللفظ الجزل والركيك، والأسلوب الرصين والمهلهل، والمعنى المسروق والمطروق، والتشبيه المنتزع من وجوه البادية أو من صور الحضر، والمطلع الجيد والرديء، والتخلص الحسن والقبيح، ويجرون في كل ذلك على أذواق تختلف باختلاف الطبقات والبيئات والصناعات والأجناس. وعذرهم في ذلك واضح. فالشعراء لأسباب فطرية واجتماعية، لم يقدموا إليهم الا نوعاً واحداً من الشعر هو ما يتعلق بالوجدان والعاطفة. فكان النقاد أمام وحدة الشعر العربي ونقصه، مسوقين إلى أن يقصروا جهودهم على لفظه: يحكون معدنه، ويعجمون عوده، ويسبرون غوره بالموازنة والمقارنة والتعقب. والشكل الخارجي حكمه حكم اللباس والأثاث والآنية: يتغير بتغير الزمان والمكان والحالة، ليس لأحد في ذلك حيلة.

فهل ترى أن أبا نواس مجدد بالإضافة إلى أمرؤ القيس، لأنه بدأ قصيدة بوصف الخمر، وتكلم في الغلمان والطرد؟ أو أن المتنبي مجدد بالإضافة إلى أبي نواس، لأنه داف شيئاً من فلسفة اليونان في شعره؟ أو أن مطرانا مجدد بالإضافة إلى المتنبي، لأنه ذكر القطار والكهرباء، ولوّن أدبه بأدب الغرب؟ أني لا أرى في مثل هذا التفاوت الظاهري تجديداً، ما دام الشعر قد ظل في كل هذه العصور واحداً في موضوعه وطريقه ونوعه ووزنه. . أما تغير الشكل فذلك فعل القانون العام الذي يغير أبدا كل شيء.

وهل قصد أحد من هؤلاء وأولئك إلى هذا التجديد المزعوم فجاهد في سبيله أهل جيله، ك فعل أرباب المذهب الاتباعي والابتداعي والواقعي في فرنسا مثلا؟؟ لم يكن شيء من ذلك، لأنهم لم يختلفوا كما اختلف الفرنج في الموضوع والينبوع حتى تتباين الأغراض من تلك المواضيع، وتتشعب المسالك إلى هذه الينابيع. وهل سمعت أن الناس اختلفوا يوم تركوا العلبة إلى الكوز والكوب والقدح والجام؟ أم علمت أنهم اختصموا كلما تغيرت موادها من الجلد إلى الخشب، ثم إلى الخزف. ثم إلي الزجاج، ثم إلى المعدن؟ كلا! لم يسمع أحد بذلك، لأن اللبن والماء وهما القصد والغاية لم يتغيرا منذ خلقهما الله. أما حين تغير الشراب من اللبن إلى الخمر فقد حدث الخلاف وتشعب الرأي وتعددت المذاهب.

الحق أن التجديد لا يحدث، والجديد لا يكون، الا متى وجد القِصص والتمثيل في الشعر فيكمل، ودخلت الأقصوصة والقصة والرواية في النثر فيتم. أما ادعاء التجديد بالدعوة إلى العامية وترجمة الأساليب الغربية فعجز يتظاهر بالقدرة، وجهل يتستر بالتحذلق!

ا. الزيات