مجلة الرسالة/العدد 60/القضاء عند قدماء المصريين

مجلة الرسالة/العدد 60/القضاء عند قدماء المصريين

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1934



بقلم حامد أسعد محمد عاشور

قبل أن نطرق هذا الموضوع يجب أن ألفت نظر القارئ إلى أن مصر كانت على درجة عظيمة من الرقي والحضارة، وأن العدالة كانت مستتبة الأركان موطدة الدعائم؛ وأن النظم الديمقراطية التي يدعي الأوربيون اليوم أنها من بنات أفكارهم أو مما ورثوه عن الإغريق والرومان، لم تكن إلا وليدة النظريات السياسية الفرعونية في عصور سحيقة؛ وأن الحريات المدنية والسياسية وحماية الملكية الفردية التي يباهي بها القرن العشرون بعد الميلاد، عُرفت في مصر وتوطدت أركانها في القرن العشرين قبل الميلاد تحت حكم ملوك مصر وفراعينها العظام.

كذلك قبل أن أبدأ الكلام أرى لزاماً عليّ أن أذكر أنني استقيت معلومات هذا المقال من مصادر تأريخ مصر المعروفة من كتابة على جدران القبور والمعابد إلى ما كتب في أوراق البردي، ثم من محاضرات أستاذي الدكتور زكي عبد المتعال في كلية الحقوق، ثم من كتاب (وصف مصر) الذي وضعته الحملة الفرنسية بعد رجوعها من مصر.

يرجع أصل سكان البلاد إلى بعض العناصر الآسيوية التي غزت مصر من الشرق، ثم امتزجت بعناصر أخرى من السود آتية من الجنوب.

أما تكوُّن الإقليم فهناك رأيان فيه: الأول يقول إن البلاد كانت تتكون من قبائل اتحدت فكونت مدناً، ثم اتحدت هذه فكونت أقاليم ومقاطعات، ثم تكونت مصر العليا مستقلة عن مصر السفلى إلى أن وحد سكوربيون ملك نخعة (مصر الوسطى) قسمي الإمبراطورية، ومن بعده جاء مينا فأتم ما بدأه سلفه.

أما الرأي الثاني فيقول: إن مصر لم تمر بهذا التطور التدريجي بل أنها من يوم أن دبت الحياة فيها وهي أمة موحدة، ويستند أصحاب هذا الرأي الأخير إلى أن نهر النيل هو منبع الثروة الوحيد في البلاد، فلا يمكن إلا أن توحد جهود السكان في سبيل الغرض المشترك وهو حب البقاء، والدفاع عن أموالهم ومورد رزقهم؛ هذا إلى أن الوثائق وأوراق البردي لم تذكر أن البلاد مرت بالدور التطوري السابق ذكره.

ولما تكون الإقليم وجدت الأسرات. ففي عهد الأسرتين الأولى والثانية كان الحكم مطلقاً، فكان المُلكُ قائماً على الحق الإلهي. وبذا كان الملك ممثلاً للسلطتين الزمنية والدينية، فكان يصدر القوانين بنفسه وبمساعدة كتبة خصوصيين.

وفي عهد الأسرة الثالثة كان الملِكُ مصدر جميع السلطات، يستعملها بمساعدة موظفيه المدنيين لا الدينيين، وكان خاضعاً للقوانين التي يصدرها وتسري على شعبه، وبذا كان الحكم مطلقاً مشبعاً بروح العدالة والإنصاف، فالجميع متساوون في الحقوق لا فرق بين أمير وحقير أو غني وفقير، وكانت الدولة إذ ذاك زمنية لا دينية أي لم يكن للكهنة نفوذ كبير فيها.

وفي عهد الأسرة الرابعة أصبحت الدولة دينية، وأصبح الملك ممثلاً لرع وهاتور الإلهين، وقدمت الديانة الملكية على الإدارة الحكومية، والكهنة على الموظفين، وكانت هناك إدارات حكومية كثيرة، منها (إدارة الري ومياه النيل، وإدارة الحربية، وإدارة الإحصاء والضرائب، وإدارة المالية، وإدارة العقائد والتموين.) وكل هذه الإدارات كانت تحت إشراف مجلس العشرة الملكي، وهو يقابل مجلس الوزراء الآن، وكان الوزير الأكبر هو الذي يرأس هذا المجلس.

هذه نظرة عامة عن اختصاصات السلطة التنفيذية، أما فيما يتعلق بالتشريع والقضاء - وهو موضوع هذا المقال - فإن القوانين عرفت ودونت في مجموعات عندما اخترعت الكتابة في القرن الخمسين قبل الميلاد، فوضع (نحوت) إله القانون مجموعته القانونية في سنة 4241 قبل الميلاد.

وقد شملت هذه المجموعة الالتزامات والأموال وجميع العقود الأخرى، والزواج والطلاق. وكان مما نص عليه في هذا الشأن أن الزواج يتم بعقد مدني بطريق الشراء، ثم يجري بعد ذلك احتفال ديني. أما العلاقة المالية بين الزوجين فكان يتفق عليها في مشارطة الزواج على أحد بأمور ثلاثة: (1) فصل مال كل من الزوجين عن الآخر فيكون للزوجة في هذه الحالة حق التصرف في مالها بدون إذن الزوج (2) تخصيص جزء من مال الزوجة لمساعدة الزوج على المعيشة العائلية، ويكون للزوج في هذه الحالة حق الانتفاع بأموال الزوجة وعليه ردها عند الانفصال (3) اشتراك الزوجين في بعض الأموال أو جميعها. وكان للنساء امتيازات كثيرة عللها المؤرخ ديودور الصقلي باحترام المصريين للآلهة إيزيس.

أما الطلاق فقد أجازه الشارع الفرعوني كما أباح للمرأة أن تتزوج، بشرط أن يكون لها الحق في فسخ الزواج كما كان لها حق الرهن العام على أموال زوجها ضماناً لعدم تعرضها لخطر الطلاق منه.

ويترتب على البيع الصحيح (باليمين والشهود) التزام البائع بتعهدين: الأول وموضوعه تسليم سندات الملكية - والثاني وموضوعه ضمان كل تعرض للمشتري. وينقسم عقد البيع إلى عقدين أحدهما اتفاقي والآخر عيني وبه تسلم العين المبيعة.

وقد أخذت سائر العقود الأخرى صورة عقد البيع، حتى أن الوصية كان يكتب لها عقد اتفاقي بين الموصي والموصى له بشرط ألا يتم استلام الأخير للوصية إلا بعد وفاة الموصي وتسلم الوارث العقد العيني من باقي الورثة.

ولما تشتت مجموعة نحوت جاء بو خوريس مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين وجمع شتاتها وعدلها في مجموعة نظم بها جميع المعاملات المدنية والأحوال الشخصية في مجموعة قوانين سميت باسمه كما سماها اليونانيون بمجموعة العقود.

ولما جاء أحمس أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين أصدر مجموعته المسماة باسمه. ثم جاء من بعده الملك نفريت فأعاد العمل بمجموعة بو خوريس بعد أن نقحها، واستمر العمل بها حتى نهاية العهد الفرعوني. ثم طبقت على المصريين فقط في العهد الإغريقي حتى جاء الرومان فمنحوا ممتلكاتهم الرعوية الرومانية في عهد الإمبراطور كراكلا، وبذا طبقت في مصر القوانين الرومانية.

هذه نظرة عامة عن تطور التشريع في عهد قدماء المصريين حتى الفتح الروماني، والآن نستعرض نظام المحاكم واختصاصاتها وسلطة القضاء في الدولة.

كانت سلطة القضاء العليا في يد الملك يباشرها إما بنفسه أو بواسطة موظفين مدنيين أو دينيين تبعاً لازدياد نفوذ الكهنة في الدولة. وفي حالة ازدياد نفوذ رجال الدين (كما كانت الحال في عهد الأسرة العشرين) كان يجري العمل على استفتاء الإله آمون في القضايا الجنائية والمدنية، فكان يقدم المتهم أمام تمثال الإله فيقر بذنبه، وإذا أنكر أعيد إلى السجن، وفي حالة تعدد المتهمين كان الإله يشير بيده إلى السارق مثلاً قائلاً هذا هو السارق، فإذا أنكر أعيد إلى السجن حيث يلاقي أشد أنواع العذاب، إذ لا يمكن تكذيب الإله، ثم يعاد إليه فيقر بذنبه ويؤمن التمثال على كلامه، ومن ثم يقدم إلى المحكمة بعد أن يقسم اليمين الآتية:

(أقسم بآمون والملك أن أقول حقاً، ولئن كذبت فلأعودن إلى السجن ولأسلمن إلى الحراس) ثم تأخذ المحكمة بأقواله وتحكم عليه.

وكان القضاة يقسمون يميناً أمام الملك بعد تعيينهم يتعهدون فيها بعدم طاعته إلا فيما يوافق العدالة. وكان يرجع إليه كثيراً عند تعذر الحكم في بعض القضايا الهامة.

أما المحاكم فكانت على أنواع كثيرة: محاكم جزئية بالقرى والمدن، ومحاكم ابتدائية في عواصم الأقاليم، ومحكمة استئناف عالٍ بعاصمة الدولة، ثم محاكم عسكرية للجند، ومحاكم عائلية تفصل في المسائل المتعلقة بالأسرة، ثم محكمة للأموات يقوم الكهنة بتكوينها ومحاكمة كل ميت أمامها، فإن كان سيئ السيرة قضت بحرمانه من الدفن.

أما المحاكم الجزئية فكان يرأسها حكام المدن، وقد أعطي لرئيس مقدري الضرائب اختصاص الفصل في المنازعات التي تقوم بين دافعي الضرائب والمقدرين.

أما المحاكم الابتدائية فكان يرأسها حاكم الإقليم وأعضاؤها الأعيان، وكانت مختصة بالفصل في المنازعات المدنية فقط، وترفع أمامها عريضة دعوى وجميع الإجراءات أمامها كتابية.

أما المحكمة العليا فقد كان يرأسها رئيس أسرار الملك وأعضاؤها كتمة الأسرار. وكان الملك يقوم بالقضاء فيها بنفسه، وعلى الأخص في القضايا الجنائية.

وكانت هذه المحاكم ترجع في اختصاصها إلى الإدارة القضائية وهي تشبه وزارة الحقانية الآن.

وقد وجدت وظيفة النائب العام في عهد الأسرة الثانية عشرة، وكان يسمى إذ ذاك (لسان الملك) ولكن كان له بجانب سلطته القضائية، وظيفة أخرى يقوم بها بصفته مدير شئون السراي الملكية وكبير الأمناء، وكان له وكلاء في الأقاليم يباشرون الدعوى العامة أمام المحاكم الجنائية.

وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة قسم القضاء إلى مدني وجنائي منفصلاً كل منهما عن الآخر، وكان للجميع حق رفع الدعوى المباشرة الجنائية.

هذا فيما يتعلق بالقضاء الجنائي العادي أي الذي يتعلق بأفراد الشعب، أما القضاء الجنائي غير العادي الذي يتعلق بشخص الملك أو الدولة، فقد كان موكولا إلى محكمة خاصة تشكل من أثنى عشر قاضياً بعضهم من رجال الجيش، وكان النائب العمومي هو الذي يختارهم بناء على أمر من الملك ذاته، فتتكون المحكمة وبمجرد انعقادها تنقسم إلى هيئتين تفحص كل منهما الدعوى على حدة، ثم تجتمعان، وكانت محاضرها مختصرة وسرية، فكانت تصدر الأحكام دون نشر الأسباب، وبالرغم من أن النائب العمومي هو الذي يختار هؤلاء القضاة فقد كان لا يتدخل مطلقاً في عملهم حتى أن اسمه كان يأتي بعد أسمائهم وقبل أسماء كتاب الجلسة.

هذا ما كانت عليه حال القضاء في عهد قدماء المصريين، ومنها يرى القارئ أنها كانت على درجة عظيمة من الثبات والاستقرار، وأن العدالة كانت مستتبة الأركان قوية الدعائم. وقد ظلت كذلك حتى انتهى العهد الفرعوني السعيد، ودخل الإغريق البلاد فأفسدوا نظمها، وقد كان للبطالسة شأن كبير في طرد العدل من البلاد، إذ أدخلوا امتيازات أعطوها للإغريق دون المصريين في القضاء وفي الضرائب، فكان على المصري الغُرم ولهم الغنم، ومما يدل على صحة ما قلت تقسيم المحاكم في عهدهم إلى إغريقية ومصرية، وكانت الإجراءات أمام الثانية معقدة تتبع شكل القانون الضيق دون التوسع فيه، بعكس المحاكم الإغريقية التي كانت طبقاً لقواعد العدالة والإنصاف والقانون الطبيعي. وكان نظام المحاماة معروفاً في المحاكم الإغريقية بعكس المصرية حيث كان الخصوم ملزمين بالدفاع عن أنفسهم كما كانت تقدم الوثائق والمستندات أمام المحاكم المصرية، فإذا لم تكن كافية مُزقت علانية في الجلسة.

حامد أسعد محمد عاشور