مجلة الرسالة/العدد 60/في المعلقات أيضا

مجلة الرسالة/العدد 60/في المعلقات أيضا

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1934


ً

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

. . . وكنت عازماً على العودة إليها بتكملة رأيي فيها، وأقول رأيي وإن حاول بعضهم أن يجعله رأي عالم أوربي سبقني إليه فلا يكون لي جديد فيه، وقد اشتغلت بالكتابة في العلم والدين والأدب والتاريخ من نحو خمس عشرة سنة، ولى في ذلك بفضل الله آراء كثيرة جديدة خالصة جِدتها لي، ولم يحاول أحد في رأي منها ماحوول في رأيي الجديد في المعلقات، اللهم إلا ما كان من الأستاذ الجليل أنطون الجميل فيما كان بيني وبين الأستاذ زكي مبارك في نقد تسمية العصر الأدبي قبل الإسلام باسم العصر الجاهلي، لأنها تسمية دينية لا أدبية، وكان بيننا في ذلك جدال فيمن هو صاحب ذلك الرأي مني ومنه، فذكر الأستاذ الجميل أن هذا الرأي ليس لي ولا له وفلاناً مسبوق به، فأما أنا فذهبت إليه فلم أجد عنده في ذلك شيئاً فاكتفيت بذلك منه، وأما الأستاذ زكي فإنه سكت على ذلك، وهو من عادته ألا يسكت عن شيء، وألا يرضى بالهزيمة وهو منهزم، ولعله رضى من ذلك بما رضيت به إحدى المرأتين اللتين تنازعتا في ولد عند سليمان عليه السلام.

وكذلك هذا الرأي الذي أذهب إليه في المعلقات ليس هو رأي الأستاذ نولدكه، ولا رأي الأستاذ كليمان هيار، وإنما هو توجيه جديد لتسمية هذه القصائد باسم المعلقات أصح من توجيههما لها، فإني أرى أن المعلقات اسم مفعول مشتق من التعليق بمعنى الحفظ أو الشرح أو الحب والتتبع كما قال الشاعر:

علقتها عرضاً وعلقت رجلا ... غيري وعلق أخرى ذلك الرجل

وكما يقولون فلان علق علم أي يحبه ويتبعه، وعلق شر كذلك.

وأما الأستاذ نولدكه فيحاول أن يحمل اسم المعلقات معنى علق، وهو الشيء النفيس فتعني هذه التسمية عنده أن هذه القصائد قد سمت إلى درجة خاصة مجيدة، وهي محاولة خاطئة، لأن العلق بمعنى الشيء النفيس صفة مشبهة لا يشتق منها اسم مفعول هكذا (معلقات)، وإنما يشتق اسم المفعول من المصادر وما في معناها، ولم يقل أحد إن اسم المعلق يطلق على الشيء النفيس، وإنما الذي يطلق عليه اسم العلق فقط فاخذ أحدهما من الآخر خبط وخلط.

وأما الأستاذ كليمان هيار فيرى أن المعلقات جمع معلقة بمعنى القلادة بدليل أنهم يسمونها أيضاً السموط بمعنى العقود أو القلائد وهو أيضاً توجيه خاطئ لأن كلمة معلقة تطلق على التميمة وعلى المرأة المعلقة وهي التي ليست بذات زوج ولا مطلقة وعلى غير ذلك من أمور كثيرة وهي أشهر في المرأة المعلقة من التميمة والقلادة وغيرهما من كل ما يعلق ولو كانوا يريدون هذا المعنى في تسمية هذه القصائد بالمعلقات لسموها باسم القلائد كما سموها باسم السموط حتى يكون هذا الاسم نصاً في ذلك المعنى ولا يحتمل معنى التميمة أو غيرها مما يصح أن يطلق عليه اسم المعلقات. وقد جاء في الأساس أنه يقال أعلقت المصحف جعلت له علاقة يعلق بها واشتقاق اسم المعلقات لهذه القصائد من نحو هذا أجدر من اشتقاقها من المعلقة بمعنى القلادة. وقد ذكر بعض شيوخ الأدب ما يقرب من هذا في سبب تسمية تلك القصائد باسم المعلقات فقال إن العرب لم تكن تكتب في دفاف ولم تكتب قبل القرآن كتاباً مدففاً، وإنما كانوا يكتبون في رقاع مستطيلة من الحرير أو الجلد أو الكاغد يوصل بعضها ببعض ثم تطوى على عود أو خشبة وتعلق في جدار الرواق أو الخيمة بعيدة عن الأرض حرصاً عليها من قرض فأرة أو عث أو نحو ذلك من دواب الأرض، وذلك تأويل قوله تعالى (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) إذ يظهر أن السجل ومعناه الصحيفة أو الكاتب الذي كان يعلق الكتب أو يطويها لعله كان يستعمل مثل هذا العود في طي الكتاب وتعليقه.

فهذا هو رأيي في المعلقات مع رأيي الأستاذين نولدكه وكليمان هيار وهذه ميزته عليهما ولا أقول الفرق بينهما، لأنه من الوضوح بحيث كان يغني ذلك الناقد عن نقده، ويغنيني عن هذا الرد عليه إلى ما هو أنفع عندي منه. ولا أثقل على نفسي من أن يقول ناقد رأيي إنني أغفلت مناقشة ونقض رأي القائلين بأن هذه القصائد سميت بالمعلقات لأنها كانت تكتب بالذهب وتعلق بأستار الكعبة فيلجئني إلى أن أعيد له ما ذكرته في نقض هذا الرأي عن أبي جعفر النحاس من أنه لا يعرفه أحد من الرواة، فكيف أكون مع هذا قد أغفلت مناقشته ونقضه.

ولا أثقل على نفسي من أن يذكر ناقد رأيي أن أبا جعفر النحاس أطلق الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزانته إطلاقا وأني أنا الذي حملته على النعمان بن المنذر ليتأتى لي نقض رأي أبي جعفر فيلجئني إلى أن أعيد له ما قلت من أن أبا جعفر لم يذكر من هو هذا الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزائنه وأن بعض علماء الأدب هو الذي رجح أنه النعمان بن المنذر، فلم أكن أنا الذي حملته عليه ليتأتى لي بذلك نقض رأيه، ثم إني لم أكتف بهذا في نقض رأيه بل ذكرت ما ينقضه، ولو كان ذلك الملك ملكاً آخر قبل النعمان بن المنذر وأشرت إلى الأسباب المعروفة التي قيلت المعلقات من أجلها والى الأمكنة التي قيلت فيها وهي أمكنة غير تلك الأسواق التي يقول أبو جعفر وغيره أنها كانت تقال فيها.

ولا أثقل على نفسي من أن لا يطلع ناقد رأيي على النص الذي أخذت منه أن سوق عكاظ أنشئ بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة. ثم يطلع على نصوص أخرى قد تخالف ذلك فيمضي فيها إلى أن يعود فيسألني عن النص الذي اعتمدت عليه في أمر قيام تلك السوق بعد عام الفيل، فيلجئني إلى أن أدله في ذلك على كتاب المتداول مشهور هو كتاب (الوسيط) للأستاذين الفاضلين الشيخ أحمد الإسكندري، والشيخ مصطفى عناني، وإني أذكر لناقد رأيي نصاً أقدم مما ذكره من النصوص التي ذكرها في إثبات قدم سوق عكاظ.

قالوا في تفسير المثل المشهور (الحديث ذو شجون) إنه يضرب في الحديث يتذكر به غيره، أي ذو طرق يتصل بعضها ببعض ويؤدي بعضها إلى بعض، والواحد شجن قاله ضبة بن أد ابن طابخة بن إلياس بن مضر، وقد نفرت إبل له فطلبها أبناء (سعد وسعيد) فوجدها سعد فردها، ومضى سعيد فلقيه الحارث بن كعب فأخذ منه برديه وقتله واختفى خبره على أبيه إلى أن وافى عكاظ فرأى بردي سعيد على الحارث فسأله عنهما فأخبره بأنه رآهما على غلام فطلبهما منه فأبى فقتله بسيفه، فقال له ضبة: أعطينيه أنظر إليه فإني أظنه صارماً، فأعطاه له فهزه في يده وقال: (الحديث ذو شجون)، ثم قتله به، فقيل له يا ضبة: أفي الشهر الحرام؟! فقال: (سبق السيف العذل) فذهب أيضاً مثلاً.

ولا شك أن عصر ضبة أقدم بكثير من عصر عبد شمس بن عبد مناف، ولكنها نصوص قد تحمل على الاشتباه وان ذاكرها يريد سوقاً أخرى غير سوق عكاظ فاشتبهت عليه لشهرتها، وهكذا يغطي كل مشهور على كل شيء سواه، فيبقى النص الذي يعين قيام سوق عكاظ بعد عام الفيل غير قابل للتأويل ويقدم على غيره من النصوص الأخرى لأنه نص سيق لبيان تأريخ بدء هذه السوق ونهايتها، وتلك نصوص في حكايات أخرى ذكرت هذه السوق عرضاً فيها، فيمكن حملها على الاشتباه كما ذكرنا.

وإذا أراد ناقد رأيي بحثاً في وثاقة رواية هذه القصائد وأمثالها فيمكنه أن يجد ذلك في بحث صحة أشعار امرئ القيس من كتابنا (زعامة الشعر الجاهلي) فلعله يقتنع بأنّا قد نحسن هذا النوع من البحث، وأراني بعد هذا قد أطلت، ومنعني الأستاذ الحاجري من العود في هذا المقال إلى تكملة رأيي في المعلقات فليكفه هذا منى وليتركني في سبيلي وجزاه الله خيراً.

عبد المتعال الصعيدي