مجلة الرسالة/العدد 600/في عيد المعري
مجلة الرسالة/العدد 600/في عيد المعري
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذا قطار فلسطين، يحمل ذكرى البلاد التي نحبها، وييمم بنا مهوى أفئدتنا، ومثار أشواقنا من بلدان وجماعات طالما حننا إليها، وسعدنا برؤيتها، ورددنا الفكر بين ماضيها وحاضرها، ووجهنا العزائم والآمال إلى مستقبلها. وأن حز في نفوسنا الألم لها فأنه الألم الذي يحفز الهمم، ويمضي العزائم، ويعد العدد، ويجمع الكلمة، ويؤلف القلوب، ويؤكد الآمال
وهذه قناة السويس تسيل مع مائها العبر، ويجري التاريخ، ويزخر الحاضر بما عبرها من الجنود والخطوب. وليس هنا مجال الحديث عنها. ليس بها من جديد إلا جسر من حديد جمع عبريها ليمر القطار بركابه لا ينتقلون من قطار إلى آخر، ولا يشق عليهم العبور بأمتعتهم ليلاً على معديات القناة. ووقف القطار على القنطرة الشرقية وقفته لجوازات السفر وما يتصل بها.
ثم سار حين كاد ينتصف الليل في بيدائه، وعبرناها مضطجعين، تجيش بنا هموم لا تنام ولا تنيم. ولاحت فلسطين مع الضحى، والعين تتقرى ما يسر وما يسوء، والفكر يضرب في الماضي والحاضر، ثم يرى مستقبلاً تكفله القلوب المجتمعة والعزائم الموحدة
وبلغ القطار حيفا ظهراً متأخرا عن موعده ساعتين أو ثلاثا. ولم نتلبث بها إلا ريثما أعددنا لاستئناف السفر. وهذه سيارتنا تغور وتنجد، وتتوغل الجبال وتنحدر السفوح، وتقطع الأودية، وتقف عند حدود لم يخلقها الله، ولم يعرفها التاريخ ولم يقرها الحق ولم تقبلها الأوطان ولا الأوطان. . . فلنطو المسافات، ونقتحم العقبات، مسرعين إلى دمشق الجميلة الجليلة أدركنا الليل ونحن نغذ السير على مقربة من دار الأمويين فطمحت الأبصار، وهفت القلوب، وغشى الأنفس ما غشيها من جلال الذكر، ومن الاغتباط والابتهاج بالعود إلى المدينة التي ما دخلتها ولا خرجت منها ولا غبت عنها إلا محبا لها مشتاقاً إليها معجباً بها مفكرا فيها أملاً لها كثير الخير، داعياً لها بما هي أهله من الأمن والرخاء والمجد والعظمة. المدينة التي ما دخلتها ولا أقمت بها إلا منشرح الصدر، قرير العين، على رغم الخطوب والركوب، والتي قلت فيها وقد عاودت الشعر بعد طول العهد، من اجلها: أحيت دمشقُ رميم الشعر في خَلَدي ... لا غرو أن تبعث الأشعار أشعار
أقصر أيها القلم فأني متهم بالعصبية لدمشق، والمغالاة فيها. وما حملتك بناني الآن لتكتب عن دمشق، ولكن عن عيد أبي العلاء المعري
بلغنا دمشق بعد الغروب بساعة ونزلنا عند فندق أمية. وقد تعودت أن أنزل به وذكرته في بعض رحلاتي، فلم نجد به مكاناً فنزلنا بفندق دمشق - وكنا نزلنا به في بعض أسفارنا مع طلاب الجامعة المصرية ونزل رفقاء لنا في غيره. ففخر فريقنا عليهم بأن تسموا بالدمشقيين
ولم يستقر بنا المقام قي الفندق حتى جاء بعض إخواننا المشرفين على مهرجان أبي العلاء، فرأينا وجوها معروفة محببة ألينا. ولا اذكر أسماء خوفا من التطويل أن ذكرتها كلها والعتاب أن ذكرت بعضها. وأصبحنا في دمشق يوم الجمعة خامس شوال سنة 1363 وقد بقى المهرجان ثلاثة أيام، واجتمعنا هذا اليوم نحن جماعة من علماء الشام وأدبائها أعضاء المجمع العلمي العربي في دار المجمع، وهي المدرسة الاشرفية التي بناها الملك الأشرف الأيوبي.
وكان العمل يسرع في صحنها لتشارك في حفلات أبي العلاء، ولكن وافي المهرجان ولما يفرغ من الترميم. وجلسنا مع رئيس المجمع وبعض أعضائه حينا. وقدم ألينا من مطبوعات المجمع: كتاب التبصر بالتجارة لأبي عثمان الجاحظ. صححه وعلق عليه السيد حسن حسني عبد الوهاب التونسي
تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة لأبى المنصور الجواليقي.
صححه وعلق عليه الأستاذ عز الدين التنوخي
ديوان الوليد بن يزيد جمعه المستشرق الإيطالي جبريالي وكتب مقدمته الأستاذ خليل مردم بك
بحر العوام فيها أصاب فيه العوام لحمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي نشره الأستاذ عز الدين التنوخي
الجزء الثامن من جامع التواريخ للتنوخي
وعدنا إلى دار المجمع مرة أخرى بعد أيام، فزرت ضريح الملك الأشرف، وقد اتخذ حجرة الضريح خزانة كتب. ثم خرجنا إلى البناء المقابل وهو المدرسة الظاهرية التي بناها الملك الظاهر بيرس، وزرنا القبة التي فيها قبره، ووراينا فيها بدائع النقش والفسيفساء فيها. وقد جعلت هي وحجرة متصلة بها خزانتان لبعض كتب المكتبة الظاهرية. ورأينا حول قبر الظاهر طائفة من الكتب المكتوبة بأيدي علماء معروفين فرأينا سلسلة من خطوط كبار علمائنا في عصور متطاولة. منها:
مسائل احمد بن حنبل بخط الذهبي
كتاب بخط سبط ابن الجوزي
أنباء الغمر لابن حجة بخطه
كتاب بخط ابن تيمية
كتاب بخط ابن الفوطى
كتاب بخط ابن عبد الهادي
كتاب بخط ابن عساكر
كتاب بخط الغزي
كما ورأينا كتبا أخرى قديمة نفيسة
وأمضينا سحابة يوم السبت قي الربوة دعانا إليها اثنان من كرام تلاميذنا: الدكتور اسعد طلس والأستاذ شكري فيصل، فاجتمع هناك الأساتذة طه الراوي ممثل العراق في مهرجان المعري، والأساتذة احمد امين، وعبد الحميد العبادي، واحمد الشايب ممثلو جامعة فؤاد الإنسان وجامعة فاروق، والمجمع اللغوي
والربوة مكان جميل نزه يحار فيه الطرف والفكر بين ماء يجري على السفح، وآخر في بطن الوادي وآخر في العدوة الأخرى وآخر فوقه. هناك تجري شعب سبع من هذا النهر المبارك العجيب نهر بردى، في القمم والسفوح وبطن الوادي واصلها واحد
والماء هناك تتجلى به الحياة قوة وبهجة وزينة ولعباً، يسقط من السماء على السفح شلإلا، ويجري على السفوح وفي الوادي أنهاراً، ويستسر تحت الشجر والعشب، يومض بينها أحيانا ويختفي، ويفجؤك منبجساً من صخراً أو صاعداً من نافورة، أو سائلاً من جدار، وتسمع خريره أحيانا ووسوسته حيث لا تراه. فما تزال بين الفكر والنظر والسرور والتعجب والمرح والوجوم. ولا تدعك هذه المرائي الجميلة العجيبة تفلت من بهجتها إلى التفكير فيما يحزنك من هموم العيش، ولا يخليك الجمال والجلال من نظر سادر، وخيال حائر، ووجوم سار ولذة يشوبها حزن.
ولا يمكنك هذا الجريان الذي هو أشبه بالزمان أن تحس مضي الوقت. ولا ينبهك طول الزمن من التمادي مع هذا الجريان وما احسبني جلست على هذه الربوة فقدرت الجلوس بالطول والقصر، والساعات والدقائق، ولكنها أفكار متوالية، ونظرات متمادية، وصور متتابعة، لا يدري الإنسان بينها أهو في فراغ الأمريكي أم في شغل، وفي تفكير أم في غفلة، وفي جد وفي لهو، يدعوه صحبه إلى الكلام أو القيام فيتكلم مشغولاً بها، ويقوم وملء عينيه التلفت إليها، وفي جوانحه الحنين إلى معاودتها. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام