مجلة الرسالة/العدد 601/اعترافات مؤمن
مجلة الرسالة/العدد 601/اعترافات مؤمن
للدكتور محمد مندور
لا يستطيع مثلي أن يتنكر لجلال الفكر البشري، وهو منبع شقائنا وعزائنا على السواد، ولكنني احسب أن هناك أنواعا من ذلك الفكر، فالمرء قد يفكر بخياله وقد يفكر بقلبه. والتفكير بالعقل هو ما ينفر منه طبعي وذلك لأنه ما لم يحلق الفكر إلى عالم الصور الجميلة بخيال قوي أو يرسب إلى أعماق القلب بحرارة حية لم تهتز له نفس ولا اطمأن إيمان، وإن كنت لسوء الحظ مضطراً كغيري من البشر أن أكسر في بعض الأحايين جنح الخيال وان أطفئ حرارة القلب حين لا يكون بد من أن نتناول الأمور ببرودة العقل اللصيق بالأرض.
منذ أزمة الإيمان التي صادفتني في اليفاعة كما أحسبها صادفت غيري وأنا دائم التفكير في حقيقة ذلك الإيمان. ولقد مرت بي عقب تلك الأزمة مباشرة أعوام كنت أناقش فيها كل من القي عن المشاكل التي يثيرها العقل عن وجود الله وكيف كان ذلك الوجود وعن علاقته بهذا العالم وما فيه من خير وشر. ولاشك أنني كنت ابحث عندئذ على غير وعي مني عن يقين اطمئن اليه، ولكني اعترف في بساطة أنني ما قرأت ولا سمعت ما يوجب ذلك اليقين، حتى أصابني ما يشبه الملل فلم أعد أطيق الحديث في هذه الأمور، وأصبحت كلما سألني عنها سائل أو تحدث بها متحدث بها متحدث رميته بالتفاهة وذلك بوعي مني أو غير وعي، ولكنها تفاهة لا يمكن أن أعفيه منها مهما بلغ سؤاله أو حديثة من عمق أو أصالة. ولقد حاولت غير مرة أن أتبين السر في موقفي هذا فوجدته، أو خيل إلى أني قد وجدته، في أمرين: أولهما أن العقل نفسه نشاطه الأكبر موجه إلى تقويض ذاته، فهو لا يزال يبحث عن حدود قدرته ويتناول بالشك ما يصل إليه من آراء ونظريات يعاود فيها البحث فيقوضها حتى اصبح نقده لنفسه خليقاً بأن يهدم ثقتي فيه. وثانيهما أني كنت أحس دائما في غموض أن تطاول العقل إلى ما لا يستطيعه دليل ضعف فيه لا قوة، ولهذا كم كانت فرحتي يوم سمعت عميداً لكلية الطب بباريس يقول: إن من إمارات الضعف العقلي أن نبحث بعقولنا عما لا نستطيع أن ننفذ إليه، والعقل القوي هو الذي يغرف حدود قدرته). لقد خيل إلى عندئذ أن هذه الألفاظ قد أضاءت مظلماً في نفسي، فرأيت بوضوح ما كنت أحسه غامضاً. ومنذ ذلك الحين آمنت بتفاهة من يناقشني في الإيمان بعقله فهذا رجل ضعي العقل مبدد لنشاطه هدراً
أنا إذن لا احب الحديث عن الإيمان ولا أؤمن بالدعوة اليه، ولكنني مع ذلك مؤمن إيماناً راسخاً، وليست لي في الحياة قوة غير هذا الإيمان، فقد تهب أعاصيرها ومن الممكن أن تتنكر لي يوماً عناصرها ذاتها، ولكن ذلك لا أظنه ينال مني شيئاً، وذلك لا اعتزازاً مني بعروض حياة أو مواهب نفس، ولكن لأنني مؤمن باله عادل اطمأنت إليه نفسي بحيث لا اذكر أنني قد اتجهت إليه يوماً فلم أجد تأييده، وعند ما أدعوه يسكت في نفسي طنين الفكر فلا أحس غير الصمت الساكن ولا أفكر حتى في وسائل القوة التي ابغيها، وإنما أساق بعد ذلك في غير وعي إلى تلك الوسائل كالآلة المسيرة وهي تعرض لخاطري في لمحات خاطفة فأسير إليها دون أن أتبين حتى مواقع اقدامي، وإنما اكتفي بما استشعر من ثقة من أنني ما دمت قد تركت السكون إلى الحركة فإنني في سواء السبيل. ومهما تكن بعد ذلك من صعوبات، فلا يمكن أن يساورني شك في أنها ستذل ولو في اللحظة الأخيرة وذلك هو الإيمان الهادي
من أين لي بهذا الإيمان وقد لقيت ضروبا من الناس وقرأت ألوانا من الكتب، ودرست أنواعا من اللغات والثقافات، بل وخبرت الحياة هزلها وجدها في كافة الأجواء وتحت مختلف السموات. أستطيع اليوم بعد أن نضجت ملكاتي أن أقول إنني لم يقنعني أحد به، ولا اكتشفته في بطون كتب، ولا تلقيته من أفواه بشر، بل ولا غرسته بمواصلة القيام بشعائره كما نغرس في النفس مختلف العادات بدوام مزاولتها، وإنما هو إحساس قديم مكنت له في نفسي حوادث صغيرة كانت بيني وبين أبي
ولا أرى ضيرا من أن أقص طرفاً منها على القراء فتلك تجارب بشرية قد تكون أجدى في إلقاء بعض الضوء على مشكلة خطيرة هي مشكلة الإيمان من كثير من موسوعات علوم التوحيد والكلام، ولها على الأقل ميزة الصدق النابض بالحياة، وهي صادرة عن نفس فيها من القوة ما لا يصرفها عن أن ترد كبار الأمور إلى صغائر الأشياء عند ما تؤمن أن تلك الحوادث الصغيرة هي الأسباب الحقيقية التي تتضاءل إلى جوارها كبرياء العقل ومغالطات الإحساس
عندما أخذت أدرك علمت أن والدي قد بنى بأحد حقوله (خلوة) لا منفذ لها غير الباب وانه قد هجر زوجته وأبناءه أربعين يوماً ليقيم في تلك الخلوة يعبد الله فيها آناء الليل وأطراف النهار لا يرى أحدا ولا يراه أحد، وإنما يحمل له الطعام من خصائص الباب. ولقد أثار هذا الخبر خيالي فكنت ألاحق أبي بالسؤال عنه ولكنه رجل كتوم لسره فلم احظ منه بجواب غير أن دافعه كان عبادة الله وكفى. ثم علمت أن الشباب كان قد ساقه في مهاويه فلم يجد عصمة خيراً من معاهدة أحد علماء الدين على التوبة إلى الله. وكان هذا العالم نقشبندي المذهب وكان رجل خيراً، فلم يعد تأثيره على والدي حد توجيهه نحو تجنب الإثم، وعبادة الله، والإحسان إلى الناس، وقراءة كتب الدين ولكم من مرة حاولت ان اعرف شيئا عن هذه الطريقة فكان أبي يرفض الإدلاء بشيء، مكتفيا بان يخبرني بان تلك أسرار لا يجوز أن تباح، ومن غريب الأمر أنني علمت منذ ثلاثة أشهر فقط أن لفظة نقشبند معناها النقش على القلب. واستنتجت من ذلك أن سر هذه العبادة هو أن يستشعر الفرد دائما أن اسم الله منقوش على قلبه. ولقد لاقيت والدي منذ أيام فأخبرته فرحا مسرورا أنني قد عرفت معنى الفظة دون بحث عنه، ولكن بتوفيق من الله ساقه إلى سوقا. فدهش الرجل وقال: (هو هذا وهو سر العبادة) وإذن فقد خلا أبى لعبادة الله أربعين يوما، وتحرك خيالي لتلك الخلوة، ولكنني لم يكشف لي عن سرها، واقتنعت بأنه لا يجوز لي لن أتطاول إلى معرفة هذا السر، ولقد آمن أبي سنين طويلة بأنه قد نقش اسم الله على قلبه واتخذ من هذا النقش سبيلا إلى حمده منعما وسالباً، وسمعت بذلك، ولكني أيضاً لم أكشف سر هذا الحمد، وآمنت انه لا يجوز لي لن أتطاول إلى كشفه، وهكذا تهيأت نفسي إلى الإيمان بالمجهول والاطمئنان إليه والثقة به، وأكبر ظني أن الخير ما أراد الله. فلو أن أبي بصرني بما أردت لخلت نفسي من الأسرار ولا أصابها العقم. واتفق أن أبي لم يستطع أن يتم حجه في بعض المرات إذ أصيب بنقرس شديد في السويس وأنا عندئذ في السادسة من عمري، والزمه المرض الفراش عامين كاملين قاسى فيهما من الألم ألوانا حتى لا أزال حتى اليوم كلما ذكرت أنينه اقشعر جلدي. ولست ادري لأي سبب ارتبط هذا المرض في نفسي بالإيمان حتى لا احسبه ثمن ما افاض الله علي والذي منه، ولا زلت منذ ذلك أؤمن بأنه لابد أن يبتلي الله المؤمن ليختبر إيمانه وان المرء لابد تاج ما سلم الإيمان في قلبه
وعندما اختارتني الجامعة لبعثها حدث حادثان صغيران كان لهما في نفسي ابلغ الأثر: أولهما أنني قبل سفري رتبت كتبي في صندوق كبير وبغير وعي مني وضعت (المصحف) على قمة الكتب، ورأى والدي ذلك عرضا فسر سرورا لم اقصد اليه، ولربما جاء توفيق من الله. وحدث اخوتي عما رأى قائلا (إن أخاكم فلان سيكون الله دائما معه وسيوفق في كل ما يعمل) فسألوه (ولم ذلك) فأجاب (لأنني لاحظت انه وضع كتاب الله فوق كل كتاب) ثم أنني في يوم السفر فوجئت بهدية من والدي أوصاني أن احتفظ بها مدة غيبتي وان أعود بها إليه، وكانت تلك الهدية عبارة عن منديل للشيخ العالم النقشبندي الذي عاهده والدي على الهدى. ولقد أخذت المنديل واحتفظت به تسعة أعوام التي مكثها بأوربا وعدت وهو لا يزال إلى اليوم بين ملابسي. ولا أستطيع أن ازعم أنني قد علقت به أيمانا خاصا أو قوة معينة بل ولا فكرت في ذلك، ولكنه نوع من الاطمئنان السلبي المريح. وقد اختلطت في نفسي قيمة الهدية بمحبتي لمهديها وإيماني به، وكان لهذين الحادثين فضل دائم في ردى الإيمان كلما تجهمت لي الحياة.
ولقد اتخذ الإيمان في نفسي وجهة الإحسان إلى الغير، حتى لأحسب أنني عاجزاً عجزاً أصيلا عن بغض واحد، قد يقسو قلمي وقد يلذع لساني، ولكنني ما عدت إلى نفسي إلا أحسست بفيض من التسامح لا أستطيع دفعه. وأكبر ظني أن هذا الاتجاه كان أيضاً لا شعاع من والدي، وليسمح لي القراء أن أقص حادثا عائليا كان له في هذا الاتجاه أكبر الأثر كان لوالدي تسعة أخوة وكان يحبهم جميعاً حباً قلبياً صادقاً حتى لقد كان يذهلني عندما يموت أحدهم أن أراه هو الشيخ الكتوم لسره يبكي بدمع حار، وكان اصغر اخوته رجلاً كريماً متلافاً، وكان والدي يهتز في دخيلة نفسه لكرمه وان أحزنه إتلافه لماله، ولقد هدد هذا الإتلاف ثروته حتى أوشكت أن تضيع، وكان والدي يحرص على أن يستنفذ من تلك الثروة ما يستطيع، وحدث ذات يوم أن ألح الدائنون بالمطالبة وكان الوالد يستطيع عندئذ أن يسكتهم ببعض ماله الخاص ولقد فعل وكنت عندئذ في السابعة عشرة من عمري وكانت والدتي ككافة الأمهات تحرص على أن يستبقي الوالد أمواله لأبنائه، وكان أخي الأكبر يناصرها في الرأي فانتحى بي والدي في الليل ناحية واسر لي بنيته طالبا إلى أن اخفي الأمر عن والدتي وأخي. ولقد رأيت في هذه الحركة ثقة بي برغم حداثة سني أثرت في نفسي ابلغ الاثر، فتحمست منذ ذلك اليوم لعمل الخير وآمنت انه جزء من الإيمان حتى استقر بي الرأي إلى أن عون الملهوف وإسداء المعروف إلى الناس لابد يخلفه الله بالخير إلى صاحبه، ولا زلت حتى اليوم اعتقد أن بركة الله قد حلت بمال والدي منذ الحين. وذلك لأنه مال لم يطهره بالزكاة فحسب، بل زكاة بالإحسان.
هذه هي عناصر الإيمان في نفسي، اطمئنان إلى المجهول، وعدم تطاول بالعقل إلا ما لا يستطيعه، وربط للأخلاق بالإيمان، وتسامح مع الناس، وعمل للمعروف حيث نستطيعه. وأما منابع ذلك الإيمان فهي كما ترى لم تنك محاجة عقلية ولا إثارة عاطفية، ولكنها حوادث صغيرة كانت ابلغ في تمرسه بالنفس من كبار الموسوعات وطوال الخطب
محمد مندور
المحامي