مجلة الرسالة/العدد 601/سر الخلود في الشريعة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 601/سر الخلود في الشريعة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 601
سر الخلود في الشريعة الإسلامية
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1945



للأستاذ محمود شلتوت

إنما شرعت الأديان لتصفية الارواح، وتخليص العقول من شوائب العقائد الفاسدة، لتؤمن بالله خالق الكون ومدبره، وتذعن لعظمته، وتعترف بوحدانيته، وتسلم من الخضوع والعبودية لكل ما سواه، وتتبع هداه وتسلك صراطه السوي فلا تضل ولا تشقى.

هذا هو الجوهر الذي قامت عليه سائر الأديان منذ عرفت الأرض هداية السماء، وهذا هو (الإسلام) الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وهذا هو الوحي الذي أوحى به إلى محمد كما أوحى به إلى نوح والنبيين من بعده، وهذه هي الوصية التي (وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون).

تختلف الشرائع وراء هذا الجوهر في التفاصيل: فصور العبادات ليست واحدة، وأنواع التكاليف متعددة، ودرجات التثقيل أو التخفيف متفاوتة، كل ذلك باختلاف الأمم والأحوال والأزمان (لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم).

وقد قضت حكمة الله أن يضل هذا التدرج بالناس عصرا بعد عصر، ورسالة بعد رسالة، حتى تصل البشرية إلى مرتبة من النضوج الفكري والسمو العقلي، تتهيأ معه للاستقبال شريعة كاملة باقية، لا تنسخ بغيرها، ولا يأتيها الباطن من بين يديها ولا من خلفها، فكان ذلك في عصر محمد : اصطفاه الله لهذه الرسالة الكبرى بعد أن دعاه ورباه وصنعه لا عينه، ثم انتزعه من بيت الشرك والوثنية والكبر والعنجهية والثبات على الباطل الموروث إلى بيئة أخرى فيها صلاحية ولها استعداد لقبول دعوة الحق، فهاجر إليها مع صفوة من أهل الإيمان الراسخ، والولاء الثابت، يحبون الله ورسوله حبا لا تشوبه شائبة من أغراض هذه الدنيا، ويتسابقون إلى السمع والطاعة مخلصين راضين.

في هذا الجو الملائم وبين الأنصار والمهاجرين، اخذ الوحي ينزل على محمد بتفاصيل هذه الشريعة في العبادات والمعاملات والأخلاق، وأخذت جماعة المسلمين تتركز ويتكون قانونها العام، واستمر ذلك بالتدرج مدة عشرة أعوام هي حياة النبي محمد بعد الهجرة حتى اصبح العالم أمام دولة ناشئة قوية له أحكامها الشاملة، ومبادئها القوية في كل شان من شئون الحياة من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وميراث وهبة ووصية، وزكاة وصدقة، وقضاء وعقوبات وحرب وسلم وغير ذلك.

يومئذ أعلن القران في وضوح أن هذا الدين قد كمل كمالاً مطلقاً، وان نعمة الله به قد تمت، وانه قد ارتضاه لعباده فلا بنهل منهم سواء (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا)، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).

بهذا تقرر، واصبح من العقائد الإسلامية، أن هذا الدين خالد، وانه بعقيدته وشريعته طريق الصلاح والنجاة للناس في دنياهم وأخراهم، وان العالم مهما طال بهم الزمن وامتدت به الحياة لا يحتاج في صلاحه إلى شيء وراء الاستظلال بظل هذا الدين، والعمل بمبادئه، ومن هنا استقر في الأذهان أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.

ولكن ما سر الصلاحية التي استحقت بها شريعة الإسلام أن تكون هي الشريعة الخالدة؟ وهل في استطاعت الباحث أن يثبت ذلك في صورة علمية واضحة يستوي في النظر إليها جميع الناظرين؟

ذلك ما نريد في هذا المقال:

ليس الباحث أن يستقصي جميع الأحكام التي جاءت بها الشريعة المحمدية حكما حكما، ويتتبع ذلك كل جزئية من الجزئيات ليختبر مبدأ الصلاحية ويعرف مداه، فإن هذا شيء يطول ولا يكاد يقف عند حد.

ولكن حسبه أن ينظر إلى مبدأ واحد هو المحور الذي تدور عليه سائر الأحكام مهما تعددت وتنوعت، وبيان ذلك: أن من يتأمل حالة العالم في عصوره المتعاقبة وأطواره المتتابعة يعرف حق المعرفة انه كان يتردد بين طرفين من إفراط وتفريط،

وكان ذلك شانه في كل شيء: في العقائد في الأخلاق، في صلة الإنسان بالحياة، في علاقة الفرد بالمجتمع، في علاقة الأمم بعضها ببعض، في طريقة التشريع، إلى غير ذلك من سائر الشئون، وقد جاء الإسلام فأدرك أن العالم لا يصلح بواحدة من هاتين الخطتين، وانهما منافيتان للفطرة الإنسانية والطبيعية البشرية، منافيتان لسنن الاجتماع التي تقضي بالوقوف عند الحد الوسط في كل شيء لضمان البقاء والصلاح، وعدم التعرض للانحلال والفساد. أدرك الإسلام ذلك فجاءت شريعته وسطا لا إفراط فيها ولا تفريط، ووقعت أحكامها ومبادئها مهما تنوعت وتشعبت في هذه الدائرة التي رسمها كتاب الله عز وجل (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله):

هي في العقيدة وسط بين الذين ينكرون الإله، ويزعمون ان هذه الحياة الدنيا ليست إلا وليده المصادفات والتفاعلات المادية (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) وبين الذين يقولون بالتعدد، ويتخذون مع الله أنداداً: تقرر في صراحة وجلاء أن الله إله واحد، وأنه المعبود الذي لا يعبد سواه (قل هو الله احد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)، (وقال الله: لا تتخذوا الهين اثنين إنما هو إله واحد فأياي فارهبون)، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

وهي في الأخلاق وسط بين الذين يتحللون من كل الفضائل وبين الذين يشتطون في تصور الفضيلة والتزام طرف التشديد فيها: تقرر أن الفضيلة وسط بين رذيلتين: لا جبن ولا تهور، لا بخل ولا تبذير، لا استكبار ولا استخذاء، لا جزع ولا استكانة. وأساس ذلك كله قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما).

وهي في صلة الإنسان بالحياة وسط بين المادية والبحت الإنسان التي لا تعرف شيئا وراء ما يقع عليه الحس من طعام وشراب ولذات وشهوات وغلبة وبطش وجمع للأموال وتكاثر وتفاخر، وبين الروحية البحت التي تزهد بالحياة وتعرض عنها إعراضاً تاماً، فلا زواج ولا سعي ولا عمل، ولكن تبتل مطلق وإهمال للأسباب! يقرر الإسلام في ذلك الوسط أيضاً فيقول (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)، (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)، (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطبيات من الرزق).

وهي طريقة التشريع ووضع قوانين الحياة وسط: لم تدع الناس يشرعون لا نفسهم في كل شيء، ولم تقيدهم بتشريع من عندها في كل شيء بل نصت وفوضت: نصت فيما لا تستقل العقول بإدراكه، كالعبادات زمانا ومكانا وكيفية ونحو ذلك، وفيما لا تختلف المصلحة فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، كالمواريث وأصول المعاملات من بيع وشراء وتحريم لأكل أموال الناس بالباطل ونحو ذلك، وفوضت فيما يدرك العقل الخير فيه وتختلف المصلحة فيه بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ومن هنا وجد الاجتهاد وكان ركنا من أركان الشريعة الإسلامية حفظ الله به للعقل الإنساني كرامته:

وهي في تحديد علاقة الفرد بالجماعة وسط أيضاً: لم يترك الفرد طليقا يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء ولم تدعه كالوحش في الفلاة يجري ويمرح ويعبث ويفترس ما يقدر عليه، ويتحكم فيه الأقوى منه، ولم تلغ شخصه، وتنس اسقلاله، وتضيعه في غمار الجماعة لا يعمل إلا لها، ولا يفكر إلا فيها، ولا يعرف لنفسه وجودا غير وجودها، كأنه جزء من آلة يتحرك بحركتها ويسكن بسكونها، ولكنها اعتبرته ذا شخصية مستقلة، وفي الوقت نفسه اعتبرته لبنة في بناء المجتمع، فأثبتت له، بالاعتبار الأول، حق الملكية لماله ودمه والهيمنة على نفسه وولده، ومنحته في هذه الدائرة حق التصرف بما يراه خيرا له وسبيلا لسعادته في حياته، وأوجبت عليه بالاعتبار الثاني، حقا في نفسه بالخروج للغزو والجهاد في سبيل رد العدوان عن الوطن، وحقا في ماله في بالبذل والأنفاق في سبيل الله، وأوجبت عليه إرشاد الأمة وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وأوجبت عليه أن يعمل لا نجاب النسل الصالح وتكثير سواد الأمة به فيختار الولود ذات الدين والخلق، لتقوى بذلك الأمة ويعلو شانها

وفي مقابل هذه الحقوق التي قررتها الشريعة على الفرد للجماعة، أوجبت على الجماعة للفرد حقوقا لا سعادة إلا بها: كفلت له دمه وماله وعرضه، وشرعت لحمايته حق القصاص وحق الحد والتعزيز، وجعلت له حق في لن تعينه بمالها إذا افتقر، وبذلك تبادل الفرد مع المجتمع الحقوق والواجبات وجعلت سعادة الحياة منوطة بالتعادل بين الجانبين، وعدم طغيان أحدهما على الآخر: فلو ضن الفرد بنفسه أو ماله أو لسانه على المجتمع ساءت حالته وأدركه الضعف والانحلال، ولو ضن المجتمع بقوته على الفرد فلم يكفل له سعادته، ولم يحفظه في ماله ونفسه وعرضه، ولم يعنه في حال فقره أضعفه وعرضه للهلاك، وبهذا وذاك تصبح الحياة عبئا ثقيلا لا يحتمل، بل جحيما لا يطاق!

وكذلك كان شأن الشريعة الإسلامية في تحديد علاقة الأمة بغيرها من الأمم: لم ترض للمسلمين بحياة الضعف والذلة وان يكونوا عزلا من القوة ينتظرون حظهم، ويترقبون مصيرهم، وما تقرره الأمم الأخرى في شأنهم، ولم ترض لهم كذلك بحياة الظلم والاستبداد والفتك بالضعفاء والاعتداء على الآمنين في أوطانهم وأموالهم، ولكنها أمرت المسلمين بالاستعداد والتقوى بالعدد والعدة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وأمرتهم أن يدعوا الله بالحجة والبرهان لا بالإلجاء والقهر (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)

ونظرت إلى الحرب وأسبابها الداعية إليها والمفضية إلى شب نيرانها نظرة تتفق وغايتها من الصلاح العام والمساواة بين الناس والسير فيهم على سنن العدل والرحمة، فحصرت أسبابها في دائرة معقولة تتناسب مع كونها ضرورة من الضرورات: دفع الظلم والعدوان، وإقرار حرية التدين، والدفاع عن الأوطان، وإن القرآن الكريم ليرشد إلى ذلك في عدة مواضع إذ يقول:

(وقاتلوا في سبيل اله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة اعلموا أن الله مع المتقين) (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)

وأساس الدستور العام في ذلك هو قوله تعالى (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)

وقد أباحت الشريعة الإسلامية أن ينشئوا ما شاءوا من العلاقات بينهم وبين الذين لم يعتدوا عليهم في الدين أو الوطن من كل ما يرونه عونا لهم على حياتهم في شئون التجارة والصناعة والعلم والسياسة والثقافة، ينظمون ذلك كله على الوجه الذي يتبين صلاحه، والذي تقضي به سنن الاجتماع والفطرة، والذي لا يتعارض مع دستورهم الخاص، وقد أجازت الشريعة أن تصل هذه العلاقات إلى حد البر بهم والإحسان إليهم

وأساس الدستور العام في ذلك هو قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين)

هذا هو الصراط المستقيم، والمبدأ، الوسط، الذي تسير عليه الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها، والذي صلحت به لكل زمان ومكان، واستحقت به الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين

محمود شلتوت