مجلة الرسالة/العدد 601/نظام الشورى في الإسلام
مجلة الرسالة/العدد 601/نظام الشورى في الإسلام
بين الكثرة والقلة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كم في السيرة النبوية من أسرار التشريعية لو رجعنا إليها لأغنتنا عن الاستعانة بغيرها من التشريعات المنحرفة، في عصر ظلت فيه السياسة ظلالا بعيداً، وطغت فيه التعصبات الحزبية حتى أعمت الأمم عن النظر في مصالحها العامة، وآثرت عليه النظر في مصالحها الحزبية، وحتى ثارت في كل أمة خصومات وخلافات خطيرة تفرق كلمنها، وتقضي على الأخضر واليابس فيها، لأن الحكومة تكون فيها على أساس الحزبية، فكل حزب يعمل كل ما يوصله إلى الحكم، ويرى مصلحته في هذا فوق غيرها من المصالح
وقد أخذنا نظمنا الحديثة في الشورى على تلك الأمم، وقلدناها في تلك السياسة الحزبية العمياء، فظللنا وجه الصواب كما ظلت، وأخذنا نتخبط في حكمنا مثلها تخبطا معيبا، حتى اضطربت أمور الحكم فينا، وحررنا من الاستقرار الذي لتفرغ فيه لمصالحنا
ولو رجعنا إلى السيرة إلى السيرة النبوية لوجدناها سنة نظام الشورى على وجه يسود فيه التسامح، ولا يغلو في التعصب للرأي إلى ذلك الحد المعيب، فسارت سياسة الحكم في هدوء، واستقرار الأمر استقراراً ظهر فيه الحق بوضوح، فلم يعمه عن أعين الناس تعصب للرأي ولم يصرف الأمة من مصلحتها العامة مثل ذلك التغالي في الخلاف
وقد تم ذلك في غزوة أحد من غزوات النبي ﷺ، وكانت في السنة الثالثة من الهجرة، فقد وقع فيها خلاف بين المسلمين انقسموا فيه إلى فريقين: أحدهما يمثل الكثير، وثانيهما يمثل القلة، فحل الخلاف بينهما على وجه لا اثر فيه للتعصب ولا يمكن أن يكون هناك أتم منه في وجوه الشورى
وكان ذلك الخلاف أن رجالاً من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، لمل كانوا يسممونه من إخبار النبي ﷺ بفضل من شهدها، وعظيم ثوبه فكانوا يودون غزوة ينالون فيها مثل ما ناله أهل بدر وإن استشهدوا، فلما سار المشركون في غزوة اتحد إلى المدينة رأوا أن يخرجوا منها لقتالهم، وعرضوا رأيهم هذا إلى النبي صلى الله عليه فنام النبي ﷺ ليلته فرأى رؤيا، فلما اصبح قال: والله إني قد رأيت خيراً: رأيت بقرة تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة. فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل، وإني رأيت أن تقيم بالمدينة وتدعوهم ينزلون حيث نزلوا، فان أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم ورموا من فوق البيوت
وكانوا قد شبكوا المدينة بالنبال من كل ناحية، وجعلوا فيها الآطام والحصون، فكانت حصنا قويا لأهلها، وكان الرأي أن يقيموا فيها، كما فعلوا بعد ذلك في غزوة الأحزاب فلم يقو المشركون على اقتحامها على المسلمين، وكانت جموعهم فيها أكثر من جموعهم في غزوة أحد
فقال أولئك القوم الذين أسفوا على ما فادتهم من مشهد بدر، وغالبهم أحداث لم يمكنهم أن يشهد تلك الغزوة الكبرى، فاحبوا لقاء العدو وطلبوا الشهادة فأكرمهم الله تعالى بها: يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا
وقد رأى عبد الله بن أبي رئيس المنافقين تلك الرغبة الصادقة في القتال من أولئك الشبان، فساءه هو ذلك منهم، وقال النبي ﷺ: أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فأن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا خائبين كما جاءوا
ومال هذا لا يحمد من عبد الله بن أبي وإن وافق فيه النبي ﷺ، لأن الحق ليس في كلمة القتال، ولا في فعل يظهر بين الناس، بل لابد من هذا من صدق النية، وحسن المقصد، وقد عول الإسلام على النية في الأقوال والأفعال اكثر من التعويل على الأقوال والأفعال في ذاتها، حتى أثر قي ذلك القول المشهور: نية المرء خير من عمله
فلما سمع أولئك الشبان ذلك القول من عبد الله بن أبي لم يأبهوا له، واجتهدوا في حمل النبي ﷺ على رأيهم، وقال حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن أعداؤنا أنا كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جراءة منهم علينا. وزاد حمرة: والذي انزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسقي خارج المدينة. وقال النعمان: يا رسول الله، لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلناه. فقال له النبي ﷺ: له. فقال: لأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال له النبي ﷺ: صدقت. وقد استشهد رضي الله عنه في هذه الموقعة
وقد نظر النبي ﷺ فوجد الذين يرون من أصحابه رأى أولئك الشبان أكثر من الذين يرون رأيه، فنزل طائعا على رأي ذلك الفريق الذي كان أكثر عدداً، وترك رأيه إلى رأيهم، وهو الرئيس الأعلى والرسول المبعوث إلى الناس كافة، لأنه رأي أن من يوافقه في الرأي اقل عدداً من الفريق الأول، فلم ينظر إلى شخصه في ذلك الخلاف، وإنما نظر إلى التشريع الذي يجب أن يسن في تلك الحادثة من الشورى التي شرعها في الإسلام، ليستقيم للمسلمين أمرهم فيها، ولا يقعوا في ذلك التعصب الأعمى للرأي، فتنقلب نعمة الشورى نقمة، ويضل الناس بها سبيل الحكم الصالح، وبهذا علم المسلمون أنه يجب عند اختلاف الرأي في الشورى أن ينزل الفريق الأقل عدداً على رأي الفريق الأكثر عدداً، وإن كان يرى انه رأيه هو الأرجح، لأن مخالفة الكثرة اشد ضرراً، وكما يجب تقديم النافع على الضار، يجب تقديم الأخف ضرراً على الأشد ضرراً ولما نزل النبي ﷺ رأى تلك الكثرة صلى بالناس الجمعة، وثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد في التأهب للقتال، واخبرهم بأن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس لذلك فرحا شديداً، ثم صلى بهم العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي وهي القرى حول المدينة من جهة نجد، فدخل حجرته ولبس عدته، وتقلد السيف، وألقى الترس وراء ظهره
وقد اصطف الناس ما بين حجرته إلى منبره ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد بن معاذ واسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله ﷺ على الخروج، وقلتم له ما قلتم والوحي ينزل عليه من السماء فردوا إليه الأمر
ثم خرج النبي ﷺ وقد لبس لأمته، وتقلد سيفه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، وفي رواية - ما بدا لك - وفي أخرى - فإن شئت فاقعد
وإنه لا يثار جميل من تلك الكثرة، ولم يحملهم عليه إلا بدء النبي ﷺ قبلهم بإيثار رأيهم على رأيه حفظا للوحدة، وحذرا من الفرقة، وإذا كانت فضيلة الإيثار جميلة فيما يملك الإنسان من مال، فكم يكون جمالها فيما يعتز به من رأي، والرأي عند الإنسان اشرف من المال وكم ضحي بالمال في سبيل الرأي، ولكن فضيلة الإيثار كانت ظاهرة ذلك العهد النبيل، فلا غرو أن تبادل تلك الكثرة النبي ﷺ إيثار بإيثار، وأن تترك رأيها إلى رأيه طائعة مختارة، بعد أن جاهدت في تأييده ما جاهدت، وناضلت في الدفاع عنه ما ناضلت
ولكن النبي ﷺ رأى أن رأيه كان هو الأرجح قبل أن يؤثر رأيهم على رأيه، وقبل أن يلبس لامته ويتقلد سيفه، فأما بعد ذلك فقد أتفق رأيهم جميعاً على الخروج، فإذا عنه لم ير الأعداء إلا انهم جبنوا عن قتالهم، فيحملهم ذلك على الطمع فيهم، ويعطيهم قوة معنوية يكون لها أثرها في قتالهم
فقال لأولئك الذين تركوا رأيهم إلى رأيه في القعود بالمدينة: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. وفي رواية - لا ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب، وأذن في الناس بالخروج إلى العدو، أن يرجع حتى يقاتل. فياله من عهد كريم بلغ فيه حكم الشورى غاية الكمال، ولم تتفرق فيه الأمة إلى أحزاب متخاصمة على الحكم، بل ظهرت فيه كتلة واحدة، إذا اتفق أفرادها فرائدهم المصلحة العامة، لا مصلحة حزب من الأحزاب، وإذا اختلف أفرادها فرائدهم تلك المصلحة أيضا، لأنهم لا ينقسمون إلى أحزاب ينافس بعضهاً بعضاً، ويحملهم التعصب لها على نسيان مصلحة الأمة في نبذ التفرق، وإيثار الوفاق على الخلاف
وإذا فخر في عصرنا قوم بنظام الشورى عندهم، فهذا نظام الشورى عندنا قد بلغ غاية الكمال، وخلا من العيوب التي يرمي بها حكم الشورى في عصرنا، وتجعل بعض الناس يفضل عليه الحكم الاستبدادي، وأين تشريع البشر من تشريع الله تعالى؟ فلا تشريع أكمل من تشريعه، ولا حكم أعدل من حكمه، فتبارك الله اعدل الحاكمين، وأحسن الخالقين
عبد المتعال الصعيدي