مجلة الرسالة/العدد 602/الدين في معترك الشكوك

مجلة الرسالة/العدد 602/الدين في معترك الشكوك

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1945


للأستاذ محمد فريد وجدي بك

حفظ الدين وجوده في العصور الأولى للإنسانية بالغريزة الطبيعية، فلم يجد العلماء في تاريخها كله جماعة مجردة من الدين حتى فيما نقبوا عليه من عهوده الأولى قبل تدوين التاريخ ولما أجال الإنسان فكرة في الوجود المحيط به، ونشأت فيه خاصة النظر والاستدلال، أيد الإنسان دينه بالعقل ولما استبحر علم الكون، وافتتن العقل بالبحوث المادية تحت تأثير سحر المستكشفات الطبيعية في عالم القوى والنواميس، ووضع الدستور العلمي وظهرت آثاره في ترقي المعارف، وتجنب الأخطاء التي كان دليلها مجرد النظر العقلي، لم يعد للمنطق سلطان على الإنسان، وأصبح الدين لا يستطيع البقاء، إلا إذا كان له دليل من الوجود المحسوس. وصرح علماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأن عهد الدين قد انقضى، وأن بقاءه على الأرض مرتبط ببقاء السذاجة العامية؛ فإذا نشر العلم على العامية رواقه زال الدين كما يزول كل ما ليس له أصل ثابت يقوم عليه.

على هذا كان الإجماع منعقدا في العالم العلمي إلى زمان ليس ببعيد. فهل العقل لا يكفي لإيجاد الإيمان في العهد الذي نحن فيه؟

يكفي إذا كان يستمد من العالم الكوني المحسوس، أما والعقل الذي يعتمد عليه الاعتقادين يقوم على مسلمات لا تزال في نظر العلم مسائل تعوزها الحلول، كنشوة الكون والمادة، وكوجود روح من عالم علوي في الإنسان تبقى بعد انحلال جثمانه في عالم وراء هذا العالم الخ الخ؛ فما يقرره الاعتقادين اعتمادا على أمثال هذه المسلمات لا يراه العلو جديرا بالاعتبار

ومعنى هذا أن الاعتقادين في هذا العصر قد أصبحوا عزلاً من الأسلحة التي تصلح للكفاح في هذا المعترك. فإذا لم يستكملوا هذا النقص فلا يرجى للموضوع الذي هم بسبيله بقاء

وقد بين ذلك الأستاذ (و. ميرس) مدرس علم النفس بجامعة كمبردج في كتابه (الشخصية الإنسانية) فقال.

(كنت مقتنعاً بأنه لو أمكنت معرفة شيء عن العالم الروحي على أسلوب يستطيع العلم أن يقبله، ولن يكون ذلك بالتنقيب في الأساطير القديمة، ولا بالتأمل في علم ما بعد الطبيعة، ولكن بواسطة التجربة والمشاهدة، وبتطبيقنا على الظواهر التي تشاهد أساليب المباحث المضبوطة، تلك الأساليب التي نحن مدينون لها بمعارفنا عن العالم المرئي المحسوس. هذا المباحث لا يجوز أن تبنى على التأكيدات التي صدرت عن هذا الوحي أو ذاك، بل يجب أن تؤسس ككل بحث على علمي بمعناه الصحيح، على تجارب يمكننا تكرارها اليوم؛ مؤملين أن نزيد عليها غدا، ويكون الدافع إليها هذه القضية وهي: (إذا كان يوجد عالم روحاني ظهر للناس في أي عهد كان، فيجب أن يكون كذلك قابلاً للظهور في أيامنا هذه) اهـ

ونحن نقول: هذا شرط العلم في قبول الأصول الاعتقادية، وهو شرط لا يجوز الاستخفاف به ولا إغفاله، لأن العلم آخذ في الانتشار بخطوات واسعة؛ وأساليبه المحررة، وآثاره الفاتنة، أثرت في العقول ابلغ تأثير، وانتشرت معها شبهات لم تدع محلا للعقيدة في العقول، وضعفت حجة الاعتقاديين أمام هذا التحدي ضعفاً ظهرت نتائجه في الجماعات، وخاصة في البلاد الشرقية، حيث ينتشر العلم، ويصر حفظة الدين على التغاضي مما يستنبعه هذا الانتشار من شيوع ما يلابسه من الشبهات.

وقد ظهرت لذلك آثار خلقية وأدبية لا يحسن السكوت عليها ولم هذا التعرض هذه المخاطر؟ فإذا كنا ننتظر خلاصاً منها باعتمادنا على أساليبنا القديمة، فقد دلت دلالة قاطعة على أنها منيت بالعجز عن وقف هذا التدهور السريع، فإذا كنا نتشبه بالغربيين في جميع أوضاعهم وأتجاهاتهم، فلم نقتصر في تقليدهم في وقف تيار هذا الانقلاب الخطير؟

أن العلم الأوربي يشتغل من نحو مائة سنة بمسألة الحياة الإنسانية على أسلوبه من التجربة والتمحيص وقد اهتدى إلى نتائج كانت غير منتظرة أثارت دهش العالم كانت مثاراً لحركة لم تحدث لاكتشاف قبلها، فاجتمعت لها مجامع علمية للدرس والتحقيق، وتألفت من أجلها مؤتمرات عامة في أوربا وأمريكا اجتمع فيها ألوف من الباحثين، وثارت بسببها مناقشات صحفية لم تثر لغيرها من المسائل العلمية، حتى وصل قادتها إلى نتائج فاقت كل ما كان يتخيله كبار العقول قبل هذا العهد القريب، إذ ثبت للباحثين فيها ثبوتاً علمياً قاطعاً لا يتطرق إليه ريب لابتنائه على التجارب العلمية، أن للإنسان روحاً مستقلة عن جسده استقلالاً تاماً، مما حمل العلماء المجربين أن يقولوا كما قال أحدهم وهو العلامة الفلكي المشهور (كاميل فلامريون) في كتابه (المجهول والمسائل النفسية):

(إن لدينا اليوم من الأدلة على وجود عالم الروح مثل ما لدينا منها على وجود العالم المادي المحسوس)

اكتشاف خطير في عالم البحوث العلمية يدهش منه حتى الذين يعتقدون بوجود الروح، وهو غير اكتشاف أخرى يثبت مجموعها وجود عالم روحاني وراء هذا العالم لا يمكن التماري فيه وقد بذل أقطاب العلم في جميع أقطار العالم المتمدن ردحاً طويلاً من الزمن في تمحيصها وتحليلها، وانفق أثرياؤهم أموالاً وفيرة لإقامة معاهد تجريبية لها، منها المجمع العلمي لما وراء علم النفس، وقد شيد بناؤه المثري الفرنسي المسي (مييه) ووقف عليه أربعة ملايين فرنك ذهباً تنفق في كل عام، وكان ذلك سنة 1920 وشرط ألا ينخرط في جماعته إلا العلماء.

وفي الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا والنمسا وغيرها أمثال لهذا المجمع؛ ومنها جمعية البحوث النفسية في لندن وقد تألفت في سنة (1882) ولا تزال قائمة للآن يزاول العمل فيها علماء من الطبقة العليا، وقد جمعت مما تقرر تجاربها نحو ستين مجلداً ولا تزال قائمة إلى اليوم.

ذكر هذه الجمعية الأستاذ الكبير وليم جيمس الأمريكي في كتابه (إرادة الاعتقاد) في صفحة 313 فقال:

(أن جمعية المباحث النفسية التي يمتد عملها في إنجلترا وأمريكا قد سمحت بأن يلتقي العالمان العلمي والروحي، فإذا صدقنا الجرائد وأوهام الصالونات، خيل لنا أن الضعف العقلي وسرعة التصديق هما الرباط المعنوي الجامع بين أعضاء هذه الجمعية وأن حب العجائب هو الأصل المحرك لها، ومع ذلك فيكفي أن نلقى نظرة واحدة على أعضائها لدحض هذه التهمة. فأن رئيس هذه الجمعية وهو الأستاذ (سيد جويك) معروف بأنه أشد الناس شكيمة في النقد، وأعصاهم قياداً في الشك بجميع البلاد الإنجليزية، ووكيلها الأستاذين (أرثر بلفور) و (جاب لنجلي) ويمكن التنويه من أعضائها العاملين بالأستاذ (شارل ريشيه) الفيزيولوجي الفرنسي الخطير، وتشمل قائمة أعضائها رجالاً كثيرين آخرين كفايتهم العلمية أشهر من نار على علم. فإذا طلب أبي أن أعين مجموعة علمية تكون مصادر أخطائها ممحصة بأدق الأساليب فأني أنوه بمحاضر جمعية المباحث النفسية، فأن الفصول الفيزيولوجية التي تنشرها المجلات الخاصة بهذا العلم لا تبلغ في دقة النقد مبلغ دقة المحاضر التي نحن بسبيلها) اهـ

فهذه المجامع العلمية التي تألفت من أكبر رجال العلم في أرقى البلاد المتمدنة، واجتمعت بسببها مؤتمرات عالمية في أكبر عواصم العالم احتشد فيها ألوف من الباحثين المستقلين ووضع فيها مئات من العلماء كتبا مستفيضة، قد أثرت في العالم الغربي أكبر تأثير كان من أثره تغيير وجهة الفلسفة في القرن العشرين حتى نوهت مجلة المقتطف بذلك في عهد شهر ديسمبر من سنة 1918 فقالت:

(من يطلع على ما يكتب وما ينشر من المقالات الفلسفية يجد أن أصحابها مالوا عن الطريقة العلمية إلى الطريقة الروحية. . إلى أن قالت: (ومما يدعو للأسف أن أكثر اهتمام الناس كان موجهًا في السنوات الأخيرة إلى هذا القسم من الفلسفة كما يظهر مما نشرناه من أقوال السير (أوليفر) وإضرابه من المعتقدين بمناجاة الأرواح والتلباثي وما أشبه).

نقول والأمر الذي جعل هذه البحوث جديرة بالنظر والتمحيص أن الجمعية الجدلية في لندن كلفت ثلاثة وثلاثين عالماً من أجل أعضائها ببحثها وضع تقرير عنها، فقامت بما عهد إليها وكان ذلك في سنة 1869، ولبثت تعمل ثمانية عشر شهراً باذلة أقصى ما يتيحه لها العلم من طرق التمحيص والتحقيق، ثم وضعت عنها تقريراً وقع في خمسمائة صفحة، اعترفت فيه إجماعاً بصحتها. فكان ذلك مغرياً للعلماء في كل بلد ببذل الوسع في دراستها؛ وانتهى الأمر بهم جميعاً إلى القول بأنها حقيقة لا مريه فيها.

ولما آنست الكنيسة الإنجليزية شدة اهتمام الناس بها ألفت مؤتمراً دينياً لإبداء رأي الكنيسة فيها. وقد نشرت خلاصة رأيها المجلات المشهورة، فكان مما قالته عنها المجلة العالمية بقلم مديرها الفيلسوف الكبير (جان فينو) فقال:

(في مؤتمر الأساقفة الانجليكانية الذي عقد في قصر (لامبيت) من 5 يوليو إلى 7اأغسطس من سنة 1920، اجتمع مائتان واثنان وخمسون من رؤساء الكنيسة، منهم مطارنة كنتربوري ويورك وسدني وكبتاون والهند الغربية وميلبورن وإمارة بلاد الغال الخ، هؤلاء عدا أكثر من مائة أسقف من أكبر الأساقفة، وتقرر النظر في أمر الاسبرتسم والعلم المسيحي والتيوزوفية، فاعترف المؤتمرون بقيمة هذه الميول الروحانية التي تكافح المادية نجاح عظيم).

هذه خلاصة ما حدث حول هذه المسالة في البلاد المتمدنة وقد سماها مدير المجلة العالمية بالفيض الإلهي، وقد تسرب إلى الجامعات الكبيرة، فأسست له جامعة كامبردج في سنة 1940 دراسة خاصة، واتخذت جامعة اكسفورد لأمهات مؤلفاته محلاً خاصاً بها، وعينت لمحاضراته عالماً خبيراً به. وأدخلته إلى حظيرتها العلمية جامعات أخرى في أمريكا، فهل نغض نحن الطرف عنه ولا يستفيد منه حفظة العقائد ليصدوا به تيار المادية التي تتسرب إلى عقول النابتة، وتقذف بهم من الإباحة إلى مكان سحيق؟

لقد أدخلنا الفلسفة في معاهدنا العلمية المدنية والدينية مصبوغة صبغة مادية على ما كانت تعرض بها في القرن التاسع عشر في أوروبا، ولم نتبعها بالآراء التي تنازعها السلطان، ولا بالمكتشفات العلمية التي تحد من غلوائها!

نعم قد نشرت بحوث عن العالم الروحي في هذا البلاد ولكنها قوبلت بردود دلت على أن أصحابها لا يدرون عنها شيئاً، وكان أهون ما قالوه ضدها إنها لا تزال رهن البحث، ولم يبت في أمرها بعد، ونحن لا ندري متى تنضح هذه البحوث بعد ما مر عليها قرن برمته، وصدرت في إثبات صحتها ألوف من المؤلفات، وأعلن اقتناعه بها ألوف من العلماء والفلاسفة؟ وهل بعد دخولها أشهر الجامعات يراد دليل على أن البحث فيها قد استوفى حقه استيفاء يؤهلها لأن تأخذ مكانتها الرفيعة بين سائر المعارف المحققة، وتؤدي للمجتمع المهام الأدبية التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها؟

محمد فريد وجدي