مجلة الرسالة/العدد 603/للضحك أسرار. . .!

مجلة الرسالة/العدد 603/للضحك أسرار. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1945



للأستاذ صلاح الدين المنجد

أدولف فيليت، فنان بارع، ومصور مجيد، أوتي من القدرة على الهزل في تصويره وعلى تبيان المعايب في شخوصه، ما جعله سيد هذا الفن، المتفوق المبرز، فانعطفت عليه الصحف الكاريكاتورية في باريس، ليمدها من حين إلى حين بصور فيها إبداع وأصالة.

وصوره ذات طابع خاص بها، وصفة لا تفارقها. فهي تبدو في النظرة الأولى، صوراً ضاحكة مضحكة، يفور ظاهرها بالسرور تثير في نفسك الإعجاب والتقدير. فإذا أنعمت النظر ودققت في تلك الصور، بدا لك أن ما فيها يدفع إلى التأمل والتفكير، وأن أعماقها كآبة تدفع إلى الحزن وعبرة تبعث الألم.

سألته يوماً فنانة باريسية جميلة عن سر ذلك، فأجابها (نعم. إن في كل شيء مهما كان قليلاً من الأسى ويجب أن نزينه بالضحك ليخفي، لئلا يؤذي أحداً، أو لم يؤلم أحداً!. .

وجواب الفنان جدير بالتأمل. فالحزن في الحقيقة لا يفارق الإنسان لأن هذه الدنيا لا تريح. ربما أوتي أحدنا المال، ولازمته الأمراض؛ أو أوتي العافية، وسلب المال؛ أو قعد به الحظ المنكود عن الترقي، وفي نفسه آمال؛ أو نال بسطة من العلم فأهمله ذوو الشأن؛ أو حسده الأصدقاء والأقران؛ أو اشتهى ولداً يوهب له؛ على سعة من غنى، وعلو في الجاه، فلم يوهب له الولد، فتبقى في نفسه حسرة على ما أمله، وحزن على ما فاته، لكن ماذا يفيد إذا أظهر حزنه؟ وما نفع التحسر والوجوم؟ إن الحزن والشكوى والبكاء، أشياء تثير الشفقة علينا، وتدل على ضعفنا، وفي الشفقة علينا حطة لنا، ثم هي قد تدفع الناس للابتعاد عنا، لأنها تؤذيهم، وتؤلمهم، أو تذكرهم، بآلامهم. فالحزن يبعث الحزن، ويذكر بالشجى. والدمع يستدر الدمع، ويجلب الأسى. والناس تكفيهم أحزانهم، وربما نسوها لحظة أو ساعة، فإذا ذكرناهم بها تألموا. والدنيا وما فيها أقصر من أن نقضيها بالحزن. . . ولابد من التجلد فإذا حزنت فأجعل حزنك في قرارة نفسك، وأظهر الفرح. بل أضحك. . اضحك دائماً، فلا تؤذي الناس.

بل إن هذا الضحك يؤدي، ولو كان يخفي وراءه الحزن، إلى إعجاب الناس بك، والى اكتساء رداء من الجمال، واكتساب مناعة، لا تؤثر فيها، على الأيام، المصائب والآلام ولولا هذا لما كانت العرب تمدح من كان ضحوك السن، بسام العشيات، طليق الوجه. ولولا هذا، أيضاً، ما كانت تذم من كان عبوساً أو قطوباً، أو حامض الوجه، كأنما وجهه منصوح بالخل

وقد تيقنت، أن الضحك، ولو كان يخفي الحزن، يكسب الجسم مناعة، لا يؤثر فيه معها المصائب بعد حادثة شاهدتها بنفسي

ففي عودتي من القاهرة في يناير الخالي، لقيت في القطار سيدة فرنسية تحدر نحو الخمسين، وما تزال ناضرة الوجه، ريانة الجسم، كأنها احتسبت الشباب في جسمها، ولم تفلته. وكان يزيد في جمالها حديث رقيق يغري، ولطف شديد يغوي. فعجبت منها، وتساءلت في نفسي عن سر احتفاظها بالشباب والجمال؟

وكان بجانبها فتاة لم تختط العشرين من عمرها. علمت أنها ابنتها، كانت ذات وجه ساهم، ونفس مكروبة. تلمح الحزن في نظراتها، ولفتاتها، وآهاتها. فقلت في نفسي: ربما تكون مريضة. . . أو أن داء العشق قد لحقها. . . فلما بدأنا الحديث، شدني من ألام فرحها وضحكها، ومن البنت صمتها وعبوسها. كانت ألام تضحك لكل كلمة. . . فيزهر وجهها ويزيد سحرها.

وكانت الفتاة تعبس، فيظلم وجهها، ويحمض جمالها. وكانت ألام، تلفظ الكلمة، ترافقها بالإشارة، وترادفها بالضحكة؛ ضحكة رقيقة تهيج فرحك وسرورك. والبنت ترسل النادرة، إذا تندرت، بلفظ خشن وجفاء ظاهر. فعجبت، ومازلت حتى سألت ألام:

- إني أراها حزينة. . . أتشكو ألماً؟. . .

قالت: أوه! كلا. إن هذا الجيل لا يعرف كيف يحيا. إن في الحياة سراً، لا يهنأ بها، إلا من عرفه. دعها، إنها لا تسمع مني. الحياة عابسة ولا تغلب إلا بالضحك. قلت لها ذلك فلم تعقل. وهذا ما كنا نسمعه من عجائزنا اللواتي عشن سعيدات. أما اليوم، فالحياة تعبس وهم يعبسون. عبوس يجر الحزن، وحزن يدفع إلى الموت البطيء. أليس الأمر كذلك يا سيدي. . .؟

ثم أطرقت. . . وعادت تقول: (يا أسفا على ذلك الزمان، أيام كانت أمي توصيني أن أضحك دائماً. لقد ضحكت كثيراً، فهنئت. كنت أضحك لأتفه سبب، وفي قرارة نفسي حزن جاثم شديد. أوه! ماذا أحدثك؟ لقد جعلتني ضحكاتي أجمل فتاة بين صواحبي. ثم وجدت فيها ما يخففن من آلامي، ثم صرت إذا أصابتني مصيبة تعمدت أن أضحك، لأنسى همومي. أتدري أنني رزئت في ابنتي وبنيتي؟ لقد أبتلع البحر ابني وهو في العشرين من عمره، وماتت ابنتي الصغيرة في الألب، وأصابتني في هذه الحرب كوارث تحطم، وكنت أحزن وأبكي، ثم أعود إلى الضحك. . . وأصبر، فيذهب الحزن!.

قلت لها: إنها وصاه جديرة أن تتبع يا سيدتي. لو عرف الناس هذه الإسرار، لضحكوا. . .

قالت: أؤكد كذلك أنهم لو عرفوها لما تركوا الضحك أبدا.

كانت أمي تقول: إن في الضحك أسرار ليست في شيء غيره، ضحكة بل بسمة ترضي زوجك إذا كان مغضباً. وضحكة رقيقة تأسر عقل زائرك ولو كان جافياً. أضحكي، استعيني على قضاء حاجاتك بالضحكات والبسمات. اضحكي، وأنت في نزعك. . فإن ذلك يثير شفقة الناس، ويزيد في دعائهم لك، وحبهم إياك. أضحكي وأنت خانقة مغيظة، فان الضحك يهدئ ويرضي. بل اضحكي إذا أهنت يوما، ولم تستطيعي أن تنتقمي، فإن ضحكك يزيد في غيظ خصمك. فإذا واتتك الفرصة بعد ذلك فانتقمي منه.

لقد أثر حديثها في نفسي. وأنست به. وأدركت هذه النضارة التي تسيل في جسمها وترف على خديها، وهذا النور الذي يتألق في عينيها.

إن الناس جميعاً لا يستطيعون أن يفعلوا كل هذا. ولكن ألا يمكن أن يفعلوه إذا اعتادوه؟

ثم إنه يظهر بعد هذا، أن في الضحك، ولو كان يخفي الحزن، سراً.

وأن هذا السر يقاوم الأمراض، أو يدفع الجراثيم. إن علماء النفس يشيرون إلى النشاط الذي يتدفق في الجسم إبان الفرح. وكأن هذا النور الذي يفيض في الابتسام والضحك، ينشط ويقوي، وأن مادة كهربية تريح الأعصاب، وتزيد في العافية، بل كأن فيه ما يشفي فعلاً من بعض الأمراض.

فقد ذكرت أن (برغسون) الفيلسوف الفرنسي الشهير، أجهد التفكير والعمل، قبل موته بعشر سنين، فضعفت أعصابه، وبدت عليه إمارات النورستانيا، فلجأ إلى الأطباء، فلم ينج بعقاقيرهم مما هو فيه. حتى أشار عليه واحد منهم بأن الضحك. فعجب الفيلسوف، وألح الطبيب: (إن دواءك الفرد هو أن تضحك يا سيدي. فأضحك كل يوم ساعة، أو ساعتين. .

)

وأنطلق الفيلسوف إلى داره يضحك من نفسه، ومن الطبيب. ولكن كيف يضحك ساعة أو ساعتين؟ وتعمد الضحك وتكلفه، ثم لجأ إلى الملاهي، يشهد كوميديات موليير إلى تثير الضحك. فكان يضحك، في أعماق قلبه. ولم تمض غير شهور قلائل حتى شعر أنه شفي: وعندئذ تساءل عن السر الذي يشفي، ووضع دراسته المسماة

فالشفاء هنا، أتى من موافقة الضحك الجسم ومداواته المرض أراحته الأعصاب.

ورأيت من قبل أن بالضحك حفظت السيدة الفرنسية شبابها وبنت لحمها. واعتقد أن الجاحظ العظيم قد فطن لذلك، فقال: (وما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببه. وكيف لا يكون موقعه من السرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع، وفي أساس التركيب. لان الضحك أول خير يظهر من الصبي، وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره، ومادة قوته. . .).

فاضحكوا. . فإن ضحكة واحدة تخرج من أعماق قلبي، فيستريح بها عقلي، ويشفي حسمي، وتبعث في القوة والنشاط، لهي خير مما يجمعون.

دمشق

صلاح الدين المنجد