مجلة الرسالة/العدد 605/الشجاعة الأدبية

مجلة الرسالة/العدد 605/الشجاعة الأدبية

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1945


للأستاذ عباس محمود العقاد

كتبت مقالي السابق بالرسالة أحي ذلك الروح الإنساني الكبير الذي رحل عن الدنيا برحيل رومان رولان

وقد كان للأدباء على ذلك المقال تعقيب يشبه الإجماع، ويتفق كله على تحية ذلك الكاتب العظيم. إلا رسالة واحدة ينزع صاحبها منزعاً، يخالف ما سمعت، وما تلقيت من الآراء في رومان رولان، وفيما كتبت عنه. وخلاصتها أن الأوربيين في حاجة إلى أمثال رومان رولان لقدرتهم على العدوان وإيغالهم فيه، ولكننا نحن الشرقيين أحوج ما نكون إلى التربية الحربية التي نعالج بها الضعيف المقيم، ونحمي بها لحوزة المهددة، وإننا ينبغي أن نتعلم كل ما يحرصنا على منازلة الأعداء ومقاومة المعتدين، ونترك تلك الرسالة التي يبشر بها رومان رولان وأمثاله، حتى يحين موعد الحاجة إليها بيننا نحن الشرقيين

رأى فيه شبهة من الصواب، ولكنها شبهة من الصواب وليست بالصواب في اللباب

لأن الأديب المعترض قد التبس عليه الآمر بين المذهب رومان رولان، ومذهب أولئك القعديين الذين عرفوا في أوربا باسم (الضميريين) من قولهم (إن ضميري يأبى على حمل السلاح ولو دفاعاً عن الأوطان)

فليس رومان رولان من هؤلاء ولا هو ممن ينكرون الحرب حين يفرضها الحق الواجب على المدافعين، ولكنه ينكر البغضاء في سبيل الزهو والطمع، ويرى أن السلاح الآخر ما يعمد إليه الإنسان لعلاج أزمات السياسة، بعد أن تنفذ وسائل الحسنى وحيل السلام

وما دام في الدنيا حرب بغى فالحرب الشريفة مفروضة على الناس لجزاء ذلك البغي ومنعه أن يبلغ مقصده من الغلبة على الآمنين والمودعين. فمن ينكر حرب الإغارة والسطوة لا ينكر حرب المقاومة والدفاع

والفرق عظيم بين من يقول يمنع الحروب وتغليب وسائل السلام، وبين من يرى الحرب الباغية وينكص عن دفعها، لأنه لا يميز بين الاعتداء ورد الاعتداء

بل الفرق عظيم بين أولئك (الضميريين) وبين من يحاربون العنف بالحسنى، لعلهم يخجلون صاحبه، وينهمون فيه تبكيت الضمير، ومن هؤلاء غاندي وتولستوي وطائفة من المصلحين الشرقيين والأوربيين هنا وهناك. وإنهم ليقولوا بالحسنى، ولكنهم لا يتخذون الحسنى عدة في الحروب حين لا مناص من الحروب

ومهما يكن من رأى رومان رولان في ذلك، فليس كاتب هذه السطور بالذي يحمد (الدروشة) الضميرية في هذا المقام، وأقرب الشواهد على ذلك إنني كنت من دعاة المشاركة في الحروب وإن كانت لا توجبها علينا معاهدة من المعاهدات، لأن كفاح الطغيان واجب غنى عن الوثائق والعهود

إلا إن العجيب في كلام الأديب المعترض قوله: إن دعوة رومان رولان وأمثاله قد يحتاج إليها الأوربيون ولا نحتاج إليها نحن الشرقيين

لأن دعوة رومان رولان قائمة على الشجاعة الأدبية وهي الزم ما يحتاج إليه الضعفاء بعد عصور الجهل والظلم والفساد

وإن دعوة الضعفاء الذين طال عليهم مراس تلك العصور لأحوج إلى الشجاعة الأدبية منهم إلى حمل السلاح. لأن الشجاعة الأدبية تشفى أمراض الفساد. كلها وتبدل بها الصحة والسلامة والقوة والكرامة، وليس شيء من ذلك بمكفول من حمل السلاح في أمة تخاف الجهر بالحق ولا تجتري على الباطل، بل لعل السلاح يصيبها قبل أن يصيب أعدائها، كما رأينا في كثير من الدويلات الأوربية والأمريكية والشرقية، حيث يحمل السلاح ولا تعرف الآراء ولا الشجاعة في الآراء

قال أبو الطيب:

والعار مضاض وليس بخائف ... من حتفه من خاف مما قيلا

يريد أن الرجل قد يقدم على الموت ولا يقدم على العار، ويحسب أن العار كله فيما يقوله الناس

فأهون الشجاعات عنده هي الشجاعة على الموت، ثم يجعل الخوف من العار أكرم من الإقدام على الحمام

لكن الحقيقة أن الشجاعة العقيدة ارفع من الشجاعتين بلا مراء، وإن شجاع العقيدة اكرم من الشجاع على الموت، ومن الشجاع الذي يموت لأنه يتقي العار، ويفهم أن العار هو ما يقول الناس إنه عيب ذميم، وأن الشرف هو ما يقوله الناس إنه فضل حميد أكرم من هذا وذاك من لا يبالي بالموت ولا يبالي بما يقوله الناس إذا اعتقد انهم مخطئون فيه

ولا شجاعة في الجري مع القطيع حين يثور ويعدو في الطريق الذي تدفعه إليه الغرائز الهوجاء، ولكن الشجاعة أن يقف الرجل أمام ذلك القطيع ثم يتخلى عن مكانه حتى يصد القطيع أو يغلب على أمره غير مختار عن مكانه ولا ملوم

وهذه الشجاعة الأدبية التي تعلو درجات على شجاعة الموت وشجاعة العار هي الشجاعة التي نتمثلها في رومان رولان الذي يقول: (إن الأيمان - وليس النجاح - هو غاية الحياة)

وهي هي التي نحتاج إليها نحن الشرقيين قبل كل حاجة، ونتحلى بها قبل كل حلية، ونجترئ بها إذا كان لابد من الاجتزاء بفضيلة واحدة من الفضائل تغنى عن سائرها؛ لأن الأمة التي تحسن أن تجهر بالحق وتجترئ على الباطل تمتنع فيها أسباب الفساد، أو يكون مجرد اقتدارها على تلك الفضيلة دليلاً لا دليل بعده على امتناع أسباب الفساد

ومن الخطأ البين أن يقال إن التربية الحربية أو التربية العسكرية تخاف الشجاعة حيث لم تخلق في طباع الأمم جيلاً بعد جيل

وأبين ما يكون ذلك الخطأ إذا قيل أن الضعفاء يتعلمون الشجاعة بتلك التربية الحربية في العصر الحديث على التخصيص

ولا نبدأ بالتعليل قبل أن نمهد له بالإشارة إلى الواقع الذي لا جدال فيه

فهذا مثال الفاشية في إيطاليا غنى عن الإفاضة في مراجعة المثلات وضرب الأمثال؛ لأن الفاشية زعمت إنها تبعت النخوة بعثاً جديداً في بقايا الأمة الرومانية القديمة، وزعم أناس من الشرقيين مثل هذا الزعم فظنوا أن التربية الحربية منذ الصبا الباكر صنعت في الأمة الإيطالية الأعاجيب، وهي خليقة أن تصنع مثل تلك الأعاجيب في النهوض بعزائم الشرقيين، وراح بعض الدعاة يحاكونها محاكاة لا ترجع إلى فهم ولا اختبار، وكل ما كانت ترجع إليه تخيل كاذب ومظهر خلاب

والحق أن التربية الحربية أو العسكرية - كما كانوا يسمونها هناك - كانت أولى بالفلاح في التجربة الإيطالية لو إنها كتبت لها أن تفلح في بلد من البلدان

لأنهم كانوا ينشئون الأطفال عليها من الخامسة، ويتعهدون بها إلى ما بعد العشرين. ومضى على التجربة منذ بدايتها نيف وعشرون سنة بدأت قبل الزحف الفاشي على روما وانتهت قبل الزحف عليها بجيوش الخلفاء الديمقراطيين

فماذا أفاد كل ذاك؟

لقد كان أولئك الجنود الفاشيون اسبق المقاتلين إلى الفرار في ميدان الصحراء وفي ميدان اليونان، وكانت هذه التربية مجبنة لهم ولم تكن سبيلاً إلى الشجاعة ونهوض العزيمة، لأن العزيمة والجفجعة قلما تجتمعان

ثم ذهب موسيلني - إمام الفاشية - بين عشية وضحاها فلم يسرع إلى نجدته أحد من جنوده في طول البلاد وعرضها سواء ما وقع منها في قبضة الحلفاء الديمقراطيين، وما بقي منها في قبضة الألمان النازلين، وجاءه المدد حين جاءه من هؤلاء ولم يجئه من أبطاله الذين دربهم على نظامه سنوات بعد سنوات

وتعليل ذلك غير بعيد على من يكلف نفسه مؤونة النظر وراء المواكب والصيحات، أن لشجاعة خلق من الأخلاق، وليست نظاماً من النظم المدروسة، وكل خلق من الأخلاق فلابد له من الشعور بالتبعة ومن الحرية التي يقتضيها الشعور بالتبعة، لأنك لا تحمل الإنسان تبعة خلقية وأنت توثق مشيئته بوثاق الطاعة العمياء، ولا تعود خلقاً قط، وهو ملقى التبعة على السواء

وأظهر من هذه العلة البديهية علة الإحجام عن معونة الدولة المدبرة ومن حولها أولئك الأنصار الناشئون على يديها

فإن جنود الفاشية قد نبتوا في حمايتها وقاموا على يديها، فهي التي تحميهم وهي القوية وهم العاجزون أن يحموها يوم تزول عنها القوة. ومن قام على يد فهو يضرب بها ولا يضرب دونها، ويسقط معها ولا يقيمها بعد سقوطها

وهكذا صنع الجنود الفاشيون بالدولة الفاشية، وهكذا يصنع أمثالهم بأمثالها في كل زمن وبين كل قبيل

فالتربية على الشعور بالتبعة - أو على الشجاعة الأدبية بعبارة أخرى - هي حاجتنا اليوم نحن المصريين أو نحن الشرقيين على التعميم، وأمثولة رومان رولان ألزم لنا من أمثولة العسكرية المزعومة التي رأينا قصارى جهدها في تاريخ قريب لا تزال نشهده، ولا حاجة بنا إلى التاريخ البعيد.

عباس محمود العقاد