مجلة الرسالة/العدد 605/علل المجتمع المصري

مجلة الرسالة/العدد 605/علل المجتمع المصري

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1945



للدكتور محمد صبري

لكل مجتمع علله وآفاته، ولكننا إذا استعرضنا علل المجتمع الأوربي كانت هذه العلل خاصة بمجتمع قد تهيأت له جميع المشخصات القومية، وتجلت مظاهر الضعف فيه. أما المجتمع المصري، فهو مجتمع في طور الانتقال. وقد بدأت مرحلة الانتقال هذه منذ بداية القرن التاسع عشر، ولم تنته إلى اليوم، في حين أن شعباً كالشعب الياباني قطع فترة الانتقال في سنوات.

فما لاشك فيه، مثلاً، أن اللغة قد قطعت شوطاً في طريق التقدم والدقة والمرونة، فتركنا السجع والإطناب وما إليهما، ونحت الكتاب ألفاظاً جديدة ردت إلى اللغة شبابها وبهاءها، ولكن اللغة لا تزال بعيدة من غاياتها، ولا تزال في حالة انتقالية ظاهرة، كما لا يزال تعليمنا العالي في الأزهر والجامعة، وكذلك محاكمنا وقوانيننا مزيجاً من تعاليم القرون الوسطى والعلم الحديث، كما أن حركتنا النسائية بتجاذبها عامل الرجعية والعزلة والجمود من ناحية، وعامل الطفرة والمطالبة بإلغاء نون النسوة من ناحية أخرى.

ومعلوم أن كل حركة تتجاذبها عوامل متضادة، ولا تجد قادة يدفعونها بقوة في طريق الانتقال والتجديد، لابد أن تضطرب في سيرها، وأن تتعثر وتتباطأ ويختل نظامها.

وهذا الاضطراب، أو التردد، يعتور جميع حركاتنا الاجتماعية، لأن قادة الرأي مختلفو الأمزجة ووجهات النظر، ولم نسمع مرة إن مفكرينا وضعوا أساساً ثابتًا لإقامة أي إصلاح؛ بل يغتبط كل منا مطبوع على الأنانية وحب التفرد والظهور بأنه صاحب المشروع الفلاني، فيجب أن يسجل التاريخ باسمه - فرداً كان أو حزباً - ذلك المشروع. إما كيف يدرس المشروع، وكيف ينفذ، وهل ينفذ دفعة واحدة، أو على مراحل، وهل يراعي في تنفيذه الحال والمستقبل، وارتكازه على قواعد من البيئة والظروف، فهذا كله في المحل الثاني وهانحن أولاء قد أنشأنا جامعة فؤاد في القاهرة، ثم أنشأنا جامعة فاروق في الإسكندرية، ونفكر في إنشاء جامعة ثالثة في أسيوط دون أن نتأكد من أن أولاها بلغت الكمال كله أو بعضه، وحققت أغراضها في خدمة العلم الصحيح. وقد أنشأنا في إحداها صالة احتفالات بلغت تكاليفها، فيما يقال، مائة وأربعين ألفاً من الجنيهات، بينما يشقى بعض علمائنا وأدبائنا الأعلام في الجري وراء القوت اليومي، ولا يجد عض طلبة العلم ما يسدون به رمقهم في بعثة علمية منزهة عن المحسوبية وما إليها.

والواقع أن عللنا وآفاتنا كثيرة نشأ معظمها من الاستعباد وطول عهوده، وقد أصبحنا وفينا مركب الشعور بالنقص ? وهذا واضح جلى في (معاملات) المصريين والأجانب، وما بقيت هذه العلة بغير علاج حاسم فستظل (الامتيازات) في نفوسنا وأخلاقنا وإن تكن قد محيت في الورق والمعاهدات

وقد أصبحت هذه الحالة مدعاة لليأس والتشاؤم؛ ففريق من المصريين يقول: إنه لا أمل في إصلاح هذا الشعب. وفريق من الأجانب، وعلى رأسهم المؤرخ الكبير جبرائيل هانوتو، يقولون: إن مصر لا غنى لها عن الأجانب، وإن مركزها الجغرافي إلى جانب ذلك يفرض عليها قبول سيطرة الدولة التي تهيمن على البحر الأبيض، أي قبول الاستعباد في شكل من أشكاله

وقد أخطأ الفريقان في نظرهم وتشاؤمهم، ويرجع ذلك الخطأ إلى انهما قد أصدرا حكماً على الشعب المصري باعتباره قد استكمل أداته للكفاح، وأخذ أهبته وجرب وكبر واستقر، وبعبارة أخرى قد قطع مرحلة الانتقال وظهرت ملامح شخصيته الثابتة من حسنات وعلل وعورات

ولو أنهما انتبها إلى أن حالة مصر اليوم لا تزال حالة انتقالية، وأن بعض العلل التي نراها ليست من العلل (المزمنة)، وقد تكون غريبة عن جوهر الخلق المصري الصحيح، وإنها إذا عولجت انتفت عنه، وزالت كما يزول كل عرض، أقول لو انهما انتبها إلى ذلك لفهما أن تشاؤمهما أكبر خط يتهدد الفكرة الإصلاحية بل وكل فكرة تطمح إلى المثل العليا، والسير بالبلاد إلى ابعد الغايات.

محمد صبري