مجلة الرسالة/العدد 607/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 607/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1945



رئيس. . .!

عدت إلى منظاري فوضعته على أنفى وقد أزلت عنه ما علق به من الغبار والصدأ؛ وما زال لهذا المنظار سحره العجيب. فهو يريني من دنيا الناس ما لا تريني العين المجردة؛ فلولاة مثلاً ما استوقف بصري هذا الذي أحدثك عنه، والذي أضيف إليه لقب الرياسة العظيم، وما هو من ذوي الجاه ولا العظمة، إذ ما زاد على أنه كبير الخدم بالمدرسة التوفيقية الثانوية.

وأنا يا قارئي العزيز رجل بسيط، فقد لا أرى شيئاً من العظمة ولا من الرياسة في بعض من تواضع الناس على أنهم عظماء ورؤساء، وقد أرى العظمة كل العظمة والرياسة كأحسن ما تكون الرياسة في رجل كالذي أحدثك عنه. ولست بالضرورة أدعوك إلى أن ترى ما أرى، فأنت وشأنك، وإنما أدعوك لأن تقرأ هذا في غير سخرية مني. . .

إن (عم أحمد حسين) كما يسميه الطلاب (والريس أحمد العهدة) كما يدعوه زملاؤه، أو على الأصح مرؤوسوه، هو رجل يريني منظاري من خلقه وسمته ما يحملني على أن أرى فيه رئيساً بل ورئيساً محبوباً أن أردت الحق.

أول ما حببه إلى وقاره إذا تكلم أو مشى، ووفرة شعوره بشخصيته. والأنفة ممن كان في مثل موضعه تحمل على الإعجاب والمحبة؛ فكم نسى الأنفة كثيرون هم أرفع درجات منه بحكم العمل. وليس في أنفته شيء مما يرى في غيره من ذوي الرياسات من صلف أو غرور، وإنما هي الكرامة تلمحها في وجه (عم أحمد حسين) حين يأمر في صلف أو ينهر في غير موجب، فنراه عندئذ يرشق آمره أو ناهرة بنظرة ثائرة فيها التمرد الصامت، والعتاب الذي يشبه الازدراء، وبين يديه ثمانية وثلاثون عاماً قضاها بين جدران ذلك المعهد العتيق. فمثله ليس بالشخص الذي يرهب سلطان متسلط وقد درج تحت بصره في هذا المعهد مئات من رجالات هذا البلد فما أساء إليه أحد بكلمة.

وحببه إلى كذلك حيويته ودأبه وإخلاصه في عمله وعظيم تأثيره في مرءوسيه وقد علت به السن؛ فما تدور بسببك في ركن من أركان الدار إلا طالعك منه (عم أحمد) في جلبابه الجيد النظيف وقد تجعد شعر فوديه الأبيض تحت طربوشه القاتم الطويل يدفعه دائماً إلى الخلف قليلاً بحيث تتدلى خيوطه فوق أذنه اليمنى، وكأنما يكسبه هذا الوضع مهابة إلى جانب ما يكسبه منها شعره الأبيض وطول أعوام خدمته، أو هكذا خيَّل إلى منظاري. . .

ويعجبني منه ذكاؤه وسرعة خاطره وخفة روحه. فهو سريع الفطنة إلى ما يسرك من ألوان الحديث وكيفية الخطاب، فيحدثك وهو ينظر بعينيه اللامعتين إذ تسمع، فإن لمح أثر ارتياحك على محياك استرسل، وأن آنس فيه كدرة أدار الحديث في لباقة وسرعة حتى يقع على ما تحب.

وأجمل حديثه ما كان عن تاريخ المدرسة وتلاميذها القدماء، فيسمعك أسماءهم كما كانت تسمع في فناء الدار، خالية من ألقاب العزة والسعادة والمعالي وما إليها، وكأنه يريد أن يلقي في روع طلاب اليوم أن هؤلاء كانوا بالأمس مثل ما هم عليه الآن، وهو إيحاء يحبه الطلاب. ومن يدري فلعل فيهم من يحمل في غد أكبر الألقاب، أو من يستغني بنباهة اسمه عن جميع الألقاب.

على أن أكرم خلال ذلك الرئيس هي وفاؤه لكل من يعمل معهم، وغيرته على سمعة ذلك المعهد الذي يعمل فيه، وإن جميع من عرفوه ليلمسون فيه هذا الوفاء.

وإذا شئت دليلاً على وفاء هذا الرجل، فاعلم أنه يرسل كل عام في عيد الميلاد خطاباً إلى مستر اليوت بانجلتره؛ ومستر اليوت هذا كان ناظراً للمدرسة التوفيقية منذ ربع قرن، وهو لا يملك له اليوم ضراً ولا نفعاً، ولذلك فوقاره لا تعلق به شائبة من تلك الشوائب التي قلما خلا منها (وفاء) في هذه الأيام، وقل في الناس من يوادك إلا لعلة.

أرأيت معي أن (عم حسين) خليق بأن يدعى الرئيس، وبأن رياسته خليقة بأن تحب؟ أن كنت في ريب من هذا فأخطر ببالك من تطمئن إلى الاعتراف لهم بالرياسة، وأنظر أن كنت نجد فرقاً بينه وبينهم، ومرد الأمر فيما تحكم إلى ذمتك، أما أنا فلست أشك في أنه أكرم عندي من كثيرين، وإذا كان هذا الخطاب الذي أشير إليه دليلاً على ديمقراطية الناظر القديم، فإن فيه لك شهادة على أن كبير الخدم أحمد حسين جدير بأن يذكر وبأن يحب.

الخفيف