مجلة الرسالة/العدد 608/في المحكمة الشرعية
مجلة الرسالة/العدد 608/في المحكمة الشرعية
صور جاهلية
للأستاذ على الطنطاوي
- 1 -
رجل كهل معتم، له لحية وفي يده سبحة، دخل المحكمة ودخل وراءه مريدون له، ذوو عمائم، يتبعونه متخشعين ويلحظونه مكبرين، فوقف موقف المدعي عليه، وجلسوا من خلفة في مجالس المستمعين، وكان المدعي شيخا هما ترعش يداه، وتضطرب رجلاه، ويزيغ بصره، ويتلعثم إذا تكلم لسانه ويفيض لعابه، وكانت دعواه أن هذا الكهل ابنه، وأن زوجته وهي أم المدعى عليه قد ماتت منذ شهرين، وهذا الولد قد وضع يده على تركتها كلها، فلا هو يعطيه حقه فيها فعل الرجل الشريف، ولا هو ينفق عليه إنفاق الولد البار، فهو يطلب. . . فسئل المدعى عليه ذو اللحية والسبحة، فقال: أن المدعي أبي ولكن له مالا فلا تجب علي نفقته، وأمي مطلقة منه فلا نصيب له في ارثها. فلما سمع الشيخ ذلك بكى بكاء محروق الفؤاد، واستنزل على ابنه غضب الله. إذ يعظ الناس ويأمرهم ببر الوالدين، ويسوق في ذلك الآيات والأخبار والرقائق، ثم يأبى إلا أن يجمع على نفسه بين عقوق أبيه حيا، وأمه ميتة، ويضم إلى ذلك كذبا وافتراء، ولا يرعى حق الأبوة، ولا يرأف بضعف الشيخوخة، ويصم أمه بوصمة الطلاق، وهي تشينها أن كانت حقا فكيف إذا كانت باطلا، وينسى الدين والمروءة، كل ذلك من أجل شيء من المال ماله به من حاجة، وما هو إلى مثله فقير، ولكنه الطمع وحب الدنيا التي يزهد فيها، وقلة الأمانة التي يدعو إليها.
ونصحت المحكمة هذا (الواعط. . .) فما انتصح، وذكرته فما أذكر، ثم كانت النهاية أن خرج فائزاً بدنياه رابحا دعواه، يتبعه مريدوه وتلاميذه مكبرين موقرين، وخلف أباه الشيخ الراعش، يتلمس يداً تسنده ليخرج من المحكمة وفي عينيه الدموع وعلى لسانه اللعنات، وفي قلبه الحسرات. . .
- 2 -
امرأة محجبة مستورة، على صدرها ولد، وفي بطنها ولد، تدعي على رجل أنه زوجها وأبو أولادها وأنه طردها من داره، ولم ينفق عليها، ولم يكلها إلى منفق، والرجل من هؤلاء (الزكرت) الذين يسمون في مصر (الفتوات) حليق الخدين، مفتول الشاربين، عابس باسر، طويل الطربوش أسوده مائله، منتصب القامة. مرفوع الهامة، كأنه مقبل على صراع. فسألته المحكمة عما يقوله فقال، وقد صعر خده، وشمخ بأنفه: لست أعرف هذه المرأة!. . . قالت المرأة: لست تعرفني يا أبا فلان؟ أهذه هي مروءتك وشهامتك؟ تنكر زوجتك، وتجحد ولدك، وأنت ترى طفلي وحملي، وتبيع عرضك وشرفك بعشرين فرنكا في اليوم تريد أن توفرها على نفسك، فتهدم بيدك بيتك. وتكتب بقلمك صفحة عار أهلك، وفضيحة أولادك.
قال: اسكتي يا امرأة، أنني لا أعرفك، فسألتها المحكمة: ألم يسجل هذا الزواج في دفاتر المحكمة وسجلات النفوس؟ قالت: لا يا سيدي؛ انه أبى أن يسجله، وتركه مكتوما لكي يضيعني. وانطلقت تنشج.
وأصر الرجل على الإنكار، وأعيت المرأة الوسائل، وكادت المسكينة تغلب على حقها؛ وإذا بطفل في الخامسة يلج قاعة المحكمة فيأخذ بيد أمه المدعية، ثم يرى الرجل، فيقبل عليه، ولكن الرجل يعرض عنه ويتجاهله، فيبكي ويصرخ: (ليش يا بابا، شو عملت لك يا بابا. . .)
. . . ويعترف الخبيث ولولا ذلك ما اعترف!
- 3 -
امرأة قروية برزة ذات جمال ادعت على زوجها الطلاق. فأنكر فكلفتها المحكمة بيان زمان الطلاق ومكانه - فقالت: إنه وقع في دار زوجي. قال المدعى عليه: في داري؟! قالت: لا، بل في دار الآخر. وتنبه القاضي والمستمعون، وسألها: ماذا قلت ويحك؟ قالت: زوجي الآخر. قال القاضي. وما الآخر؟ قالت: انه تركني وأهملني ورماني فتزوجت غيره. قال الرجل: لقد كذبت، لم أهملها ولكنها أحبته وهربت إليه. قال القاضي: وماذا صنعت أنت؟ قال: وماذا أصنع، أنه عسكري وأني أخافه. قال: ومن عقد هذا العقد؟ قال: شيخ البلد وهو هنا.
وأمر القاضي بشيخ البلد فدعي. فحضر شيخ لحيته إلى سرته، له هيبة وشيبة ووقار. فسأله - فقال: نعم أنا زوجت هذه المرأة بفلان العسكري. أنها ذهبت إليه وساكنته فخفت عليهما المعصية!! فزوجته بها الزواج الشرعي على كتاب الله، وسنة رسول الله!
قال القاضي وزوجها الأول؟ قال: نصحناه أن يطلقها فأبى. فهو المسيء إلى نفسه. وما أكرهتها بل زوجتها برضائها وموافقة أبيها. ولقد أنجبت منه أولاداً هم زينة البلد، لا كأولادها من هذا الجاهل الذي لا يقيم الصلاة. . .
قال أبوها وقد أحضر وسئل: نعم، لقد رضيت بما رضى به شيخنا وعالمنا حفظه الله، وأطال عمره. . .
- 4 -
فتاة (على الطراز الحديث. . .) سافرة الوجه، غضة الأهاب، قصيرة الجلباب، تحاول كلما تحركت أن تبدي ما خفي من زينتها ومن فتنتها، وقفت موقف المدعي. وكان المدعى عليه رجلا عليه سيما الصلاح، وكان أباها، فلما تكلمت تكلم معها حاجباها وشفتاها، ورقص في صدرها نهداها، فأمرها القاضي بالأدب، لم رأى من تبذلها واستهتارها، وأن تلقي (منديلها) على وجهها، وأن تجد وتوجز في كلامها، وتسكن من جوارحها، وأن تستشعر حرمة المكان، وجلال المجلس، وإلا حبسها بذنب (الإخلال باحترام المحكمة). فأطاعت ما استطاعت
وكانت دعواها أنها ابنة المدعي عليه، وأنها لا تنكر أن داره رحبة، والمال فيها وفير، والعيش هنئ، وأنه ليس في الدار إلا أبوها وأمها، وأنها لا تشكو شيئاً من جوع أو عري، ولكنها تشكو عدوان أبيها على حريتها، فهو من (الطراز القديم) رجعي جامد، لا يؤمن بالنهضة النسائية. . . فهو لا يفتأ يسألها كلما خرجت، لماذا خرجت، وإن سهرت ليلة، قال لها: أين كنت، وإن سايرت شابا (مهذبا) أو زارته سبها وشتمها. فهي لم تعد تحتمل منه ذلك، وتطلب فرض نفقة لها عليه لتعيش في غير داره. . .
. . . ولا أريد أن أكمل الصورة فحسب القراء هذا الجانب منها. . . وتأويله عند صاحبات (المؤتمر)!
دمشق
على الطنطاوي