مجلة الرسالة/العدد 609/الأميرة علية بنت المهدي

مجلة الرسالة/العدد 609/الأميرة علية بنت المهدي

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 03 - 1945


160 - 210

للأستاذ سعيد الديوه جي

عاشت علية بنت المهدي في أوج الدولة العباسية، ولدت في خلافة المنصور، وتقلبت في نعيم أبيها المهدي وشاهدت بغداد وهي أعظم مدينة في العالم: دار السلام، وعاصمة الإسلام. مقر الخلافة وكعبة الأدب، ودار العلم والحكمة، جنة الأرض، وعرة البلاد، ومجمع المحاسن والطيبات، ومدينة الظرائف واللطائف، فهي حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وقد سأل الأمام الشافعي رجلاً: هل رأيت بغداد قال: لا. قال. ما رأيت الدنيا ولا الناس هذه هي بغداد التي كانت عاصمة الرشيد والتي مثل في قصورها وحدائقها وملاعبها حوادث ألف ليلة وليلة، التي كانت وما زالت مضرب الأمثال في العظمة والسعة والنظام، وفي سبيلها سفكت دماء، وثلت عروس، وانقرضت دول إثر دول. وهي صامدة تقاوم حدثان الدهر، وتضحك من فتنة آدم بها؛ فهي بحق (زوراء) بوجه كل عدو.

أما أمها: فهي مكنونة: من جواري المدينة المشهورات بالحسن والجمال والغناء والدلال والشعر والأدب ولها صوت رخيم، فأجتمع فيها جمال الخلق وجمال الصنعة وافتتن بها الناس، وبلغ أمرها المهدي، وكان يرغب بها ولكنه يخشى غضب أبيه المنصور المعروف بجده، فاشتراها سراً بمائة ألف درهم؛ ولما دخلت القصر غلبته على أمره وملكت قلبه فمال إليها دون بقية جواريه وفضلها حتى على (الخيزران) فكانت الخيزران تقول: (والله ما ملك امرأة أغلظ علي منها).

تولت أمها تربيتها بنفسها فحببت إليها الجمال منذ صغرها؛ فنشأت مطبوعة على حب الفنون الجميلة؛ أمرت بتعليمها الكتابة فأتقنتها؛ واختارت لها الكتب الأدبية فدرستها؛ وسلمتها إلى المؤدبين فأحسنوا تأديبها، وأحضرت لها الفقهاء والعلماء فأخذت عنهم، وكانت تريضها على قول الشعر منذ نعومة أظفارها فصارت من الشاعرات اللاتي يضرب المثل بشعرهن. كما كانت تطلعها على ألحان العرب وأصواتهم وتدربها على آلات الطرب. فكانت بلبل بني العباس وهزارهم.

ولما كمل شبابها تطلع أمراء البيت المالك إليها وكل منهم يتمنى أن يحظى بالفن و والجمال، ولكن أباها آثر بها (موسى ابن عيسى الهاشمي) وهو أحد أبطال بني العباس شجاعة وأدبا ودهاء. وتولى إمارات الولايات المهمة. كمصر؛ والعراق؛ والشام؛ واليمن.

ورثت علية من هذا الأمير أموالاً طائلة وعقارات في الولايات التي تقلدها فاتخذت لها قصراً فخماً يضاهي قصور الخلفاء في السعة والجمال، يقع هذا القصر على ضفة دجلة بالقرب من قصر زبيدة (دار القرار) وقصر الرشيد (دار الخلد) ولقصرها شرف مطلة على دجلة؛ وقد زينت شاطئه بما تحويه من النقوش المتقنة والتصاوير الجميلة؛ والألوان الزاهية؛ كما كان لقصرها شرف أخرى تطل على الميدان - ميدان دار الخلافة - والقصر يضم آلاف الجواري والخدم والحراس؛ وبلغ من أمر القصر أن اتخذه الخليفة المعتصم داراً له بعد وفاتها.

في الشرفات المطلة على النهر كانت تجلس علية؛ تصعد أمامها السُّمرِيَّات والحرَّاقات والزَبازِب إلى دار القرار أو تنحدر إلى دارالخلد مقر عاهل الإسلام أمير المؤمنين الرشيد أعظم خليفة عرفه الشرق والغرب. فيها القواد والأمراء والعلماء وأهل الفن بل يمر أمامها أهل بغداد على اختلاف طبقاتهم. وترى وفود الملوك والعواهل يتقدمون بذلة وخضوع حاملين هداياهم معرضين ولاءهم لأمير المؤمنين.

علية والرشيد:

كان الرشيد مشغوفا بأخته وقلما يصبر عنها، وإذا زارته فانه كان يجلسها معه على سرير الخلافة. وذلك لما يراه من عقلها وأدبها وظرفها؛ ورقة شعرها، وجمال غنائها؛ وحسن توقيعها، وكثيراً ما كان يزورها في قصرها ويطلب منها أن تقيم له الحفلات الغنائية ويقضي ليلة عندها يصغي إلى أصوات الحور العين؛ تردد في جو قصرها ما أبدعته قريحة من علية الشعر وما صاغته من الألحان

وفي إحدى ليالي الربيع وقد نشر البدر أشعته الفضية على بغداد وجناتها وساد المدينة الهدوء وأطفأت أنوار دار الخلافة وأمير المؤمنين على فراشه يتململ تململ السليم. يطلب النوم فلا يجده؛ وتوالت عليه الهواجس والأفكار فضاق صدره؛ بل ضاق به دار الخلد؛ فخرج إلى حدائقه الغناء يتنقل من محل إلى آخر لينفس غمه ويزيل همه. ولكن السرور لم يجد إلى قلبه سبيلاً؛ كأنه لم يشعر بما حوله من الأزهار والرياحين؛ وما يحف به من الحور العين؛ ترك القصر واتجه إلى قصر أخته (علية) هرع الخدم إلى الأميرة يعلمونها بقدوم أمير المؤمنين؛ فأسرعت الأخت إلى أخيها؛ وهي تعلم أن مجيئه في مثل هذه الساعة؛ ومن غير ميعاد؛ لم يكن إلا لأمر أصابه أو هم أقلقه. وعلية أدرى الناس بمعالجة أخيها - كيف لا؟ وهي أميرة الشعر والطرب.

جلس الرشيد في الشرفة المطلة على دجلة. وأمرت علية جواريها أن يلبسن أنواع الثياب المزركشة؛ ورصعت رؤوسهن بالعصائب الحريرية المكللة بالدرر والجواهر؛ وأخذن معازفهن وجلسن قريباً من أمير المؤمنين واندفعت تغني أبياتاً من نظمها وتلحينها والجواري يرددن الغناء:

فرجَّوا كربي قليلاً ... فلقد صرت نحيلاً

افعلوا في أمر مشغو ... ف بكم فعلاً جميلاً

فالشعر من نظمها؛ واللحن من وضعها؛ والصوت من قلبها وما خرج من القلب حل في القلب؛ فتغلغلت النغمات في أعماق قلب الرشيد ودافعت الهموم، فسر بذلك وابتسم فابتسمت الدنيا لعلية؛ إذ أنها فرجت عن أخيها؛ واستزادها فغنت من نظمها:

أوقعت قلبي في الهوى ... ونجوت منه سالمه

وبدأتني بالوصل ... ثم قطعت وصلي ظالمه

توبي فانك عالمه ... أولا فانك آثمه

فطرب الرشيد طربا شديداً. ثم استدناها منه وأخذ يتحدث معها عما كان به من الهم: وأمرت علية إحدى جواريها فغنت من أصوات سيدتها:

قل لذي الطرة والاصداغ والوجه المليح

ولمن أشعل نار الحب في قلب قريح

ما صحيح عملت عيناك فيه بصحيح

وغنت جارية ثانية:

ألبس الماء المداما ... واسقني حتى أناما

وافض جودك في النا ... س تكن فيهم إماما

لعن الله أخا البخل ... وإن صلى وصاما وبقي الرشيد عند أخته يستزيدها من الأصوات فتغنيه هي وجواريها حتى أذّن المؤذن يدعو الناس إلى ذكر الله وإلى الصلاة فلبى الرشيد داعي الله ونهضت أخته تودعه يحف بها الجواري والبشر طافح على وجه الخليفة والسرور قد ملأ قلبه.

وكانت عليه كثيراً ما تباغت أمير المؤمنين في الأزياء المبتكرة والألحان التي تضعها أو الشعر الذي تجود به قريحتها

- وفي أحد الأيام كتبت إليه تستزيره كعادتها - وما كاد يتوسط حديقة القصر حتى رأى أخته تستقبله هي وجواريها بأزياء جديدة مبتكرة وهن يرددن صوتاً من نظم أميرتهم وتلحينها:

تفديك أختك قد حُبيت بنعم ... ة لسنا نعد لها الزمان عديلا

إلا الخلود وذاك قربك سيدي ... لا زال قربك والبقاء طويلا

وحمدت ربي في إجابة دعوتي ... ورأيت حمدي عند ذاك قليلا

وكان كثيراً ما يستصحبها معه في سفراته ومتزهاته، لتشاركه في أفراحه وتخفف عنه عناء السفر في أنغامها وأشعارها. خرج مرة إلى الرقة البلدة الجميلة التي كان الرشيد كثيراً ما يرتادها لجمالها وطيب هوائها وكثرة أزهارها وأثمارها، فأحب أن تشاركه أخته بهذا الجمال الفتان فكتب إلى خال المهدي يأمره أن يصحبها معه إليه. وفي طريقها استيقظت صباح يوم على أصوات النواعير. فصغت إلى أنينها يتردد في ذلك الفضاء الواسع يشارك كل مفؤود ويسلي كل محزون ويخفف أتعاب البائس، ويحرك أشجان الهائم ويذكر الألف بألفه والحبيب بحبيبه، والغريب بوطنه، ويشكو إلى الله ظلم البشر - ولم تكن علية قد سمعت هذا الصوت السحري الجميل فحرك أشجانها وهيج قلبها، وذكرها ببغداد وما فيها، ففاض الشعر من قلبها واندفعت تغني على هذا التوقيع الطبيعي:

اشرب وغن على صوت النواعير ... ما كنت أعرفها لولا ابن منصور

لولا الرجاء لمن أملت رؤَيته ... ما جزت بغداد في خوف وتقدير

وصلت الرقة بسلامة وشاركت أخاها الأنس والطرب ثم رجعت إلى دار السلام. ولما سافر الرشيد إلى الري أمر علية أن ترافقه فوافقته كرهاً، ولم يطلب لها الخروج من قصرها جنة الدنيا ونعيمها إلى بلاد لا تعرفها وأناس لا تألفهم، ولما وصل الموكب المرج جلست علية مع الرشيد وكان قلبها معلقاً ببغداد فأظهرت لأخيها شوقها في شعرها فأنشدته:

ومغترب بالمرج يتكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون عن الحب

إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنشق يستشفى برائحة الركب

فأمرها الرشيد أن تعود إلى دار أنسها ومرحها.

وكان الناس يتقدمون إليها لتساعدهم في قضاء حوائجهم عند الرشيد، شفاعتها عنده مقبولة، وكلمتها لا ترد، وقاصدها لا يخيب، وكيف يردها وهي تخاطبه بلسان الشوق وتعبر له بأعذب الألحان.

أما تعلق (زبيدة) زوج الرشيد بالأميرة علية فكان لا يقل عن الرشيد بها. تشكو لها كل هم يصيبها وتطلعها على سرها وتستشيرها وتسترشد برأيها الصائب - كما كانت تبث لها شكواها إذا ما رأت جفوة أو إعراضاً من أمير المؤمنين وتستعين بها عليه.

أهدي للرشيد جارية في غاية الحسن. والجمال وعلى جانب من العلم والأدب فأعجب بها الرشيد وقدمها على جواريه. ثم تعدى الأمر إلى أعظم من هذا حيث قدمها على زبيدة، شق الأمر على زبيدة، فقد أفلت (هرون) من يدها، وظهر لها ضرة نافستها وتقدمت عليها - وداء الضرائر معروف وجد مع تعدد الزوجات فلا يغيظ المرأة أحد بقدر ضرتها (فالضرة مرة ولو كانت جرة) ولكن ما العمل والجارية قد احتلت مكان زبيدة وملأ حبها قلب هرون.

كتبت زبيدة إلى بنت عمها تستزيدها، ولما حضرت عندها عرضت عليها أمرها وشكت ما تقاسيه من مرارة العيش منذ وجدت هذه الضرة وطلبت معونتها فقالت علية: (لا يهولنك هذا الأمر والله لأردنه إليك).

نظمت عُليةُ أبياتاً. وصاغت فيها لحناً وجمعت جواريها وجواري زبيدة عندها وأمرتهن أن يلبسن أفخر ثيابهن ويأخذن أجمل حلاهن، وكلت رؤوسهن بالأزهار والرياحين، وعطرتهن بالطيب والغالية، وطرحت عليهن اللحن حتى أتقنه. انتشر الجواري بين أشجار جنائن الخلد وأزهارها، ولما كان وقت العصر خرج الرشيد للصلاة في مسجد قصر الخلافة، وما كاد يتوسط القصر حتى باغته الجواري وكأنهن حوريات أفلتن من الجنة، بأيديهن المعازف يتقدمهن عُلية وزبيدة، وهن يرددن بصوت واحد:

منفصل عني وما قلبي عنه منفصل ... يا قاطعي قل لي: لمن نويت غيري أن تصل؟ فطرب الرشيد غاية الطرب وتقدم إلى زبيدة وأخذ بيدها واعتذر منها، ونادى يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما إلا نثرته على الجواري. فيقال إنه نثر عليهن ستة ملايين درهم ولم يشاهد الرشيد في يوم مسروراً كسروره في هذا اليوم. عادت المياه إلى مجاريها وكفى الله زبيدة داء الضرائر بفضل عُلية. فسبحان محول القلوب!!.

قلما تصفو الدنيا الغدارة لأحد فهي لا تلبث أن تبدل الصفو بالكدر، والسرور بالقهر، والفرح بالحزن، والهناء بالعزاء، تضحك اليوم وتبكي غداً، وتعطي هذا وتحرم ذاك.

وبينما عُلية في شرف قصرها، تطل على القاصدين لدار الخلافة تترقب عودة أخيها الرشيد من (طوس) رأت حركة منكرة في دار الخلد، واضطرابا في القصر بل في بغداد أجمع، فقد اجتمع الأمراء والولاة والقضاة وأرباب الحكم على اختلاف طبقاتهم بثياب العزاء فتفرست بهم فإذا بوجوههم عانية، وقلوبهم خانقة، وعيونهم دامعة، وألسنتهم خرس. لا تقدر أن تعبر عن هول المصيبة التي حلت بأمير المؤمنين، والرزء الذي أصاب العرب والمسلمين: - أن أمير المؤمنين الرشيد قد قضى نحبه في طوس - اسودت الدنيا بعين عُلية وضاق بها القصر الواسع فقد فجعت بأخيها أمير المؤمنين الرشيد أعظم خليفة أظهر للعالم عظمة العرب والإسلام، وأنفق في سبيل العلم والعمران ما يعجز عنه غيره - وكانت عاقبة هذا العاهل الذي خضعت له ملوك الأرض، ودانت له الأمم، وانقادت إليه الشعوب صاغرة، أن أدلى في لحده وأهيل عليه التراب بعيداً عن عاصمة ملكه. فقد ضن عليه الزمن أن يدفن في دار السلام، المدينة التي جعلها كعبة العلم والأدب والفن، بل عز على بغداد أن ترى الرشيد ميتاً يقبر في لحودها بعد أن زانها حياً وجعلها سيدة البلاد.

رفعت المعازف. وبحت الحناجر وساد الهدوء والخشوع في قصر عُلية فلا يسمع إلا صوت المؤذن وقراءة القرآن، ولا ترى عُلية إلا في محرابها تصلي، أو بكتابها تقرأ، أو تندب أخاها، أو تنتقل في خمائل قصرها تطلب العزلة لتخفف عنها أحزانها.

عز على الأمين أن يرى أميرة الشعر والطرب وهزار بني العباس على هذه الحالة المؤلمة فكان يتردد إلى زيارتها كثيراً ويدعوها إلى قصره. والحزن لا يجد قراراً في قلب شب على الشعر والأدب والعزف والطرب فلم تلبث أن وانقت الأمين في لهوه ومرحه.

عُلية اليوم قد ذهب نور شبابها، واشتعل الشيب في رأسها، وتغيرت نبرات صوتها، ولكن نفسها لم تشب، بل بقيت نفساً طاهرة، تحب الجمال، وتسمع الصوت الجميل، وتعشق كل جميل، وما زالت هذه الزهرة تذبل حتى ذوت وفارقت الدنيا سنة 210هـ وقد مضى عليها خمسون ربيعاً.

وفي صبيحة يوم رأى أهل بغداد أمير المؤمنين المأمون يسير خاشعاً أمام نعش مهيب يحف به الأمراء والوزراء والعلماء فخف به أهل بغداد، وقف النعش على مقابر قريش وصلى عليه الخليفة، وأدليت جثة عُلية ودفنت درة بني العباس في هذا التراب.

للحديث بقية

سعيد الديوه جي