مجلة الرسالة/العدد 609/القصص

مجلة الرسالة/العدد 609/القصص

ملاحظات: إيزرهادن أو آسرحدون ملك آشور Ассирийский царь Асархадон هي قصة قصيرة بقلم ليو تولستوي نشرت عام 1903. نشرت هذه الترجمة في العدد 609من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 5 مارس 1945



إيزرهادن

للكاتب الروسي تولستوي

للأستاذ زكي شنوده

انقض إيزرهادن ملك الأشوريين أنقاض الوحش على دولة الملك ليلليَّ، فعذب فيها الناس، وخرب منها المدن، وأطلق في أطلالها ألسنة النار تأكل ما تبقى من معالمها وأخذ كل من فيها أسرى، وهنالك ذّبحهم وألقى ملكهم في غيابة السجن.

وبينما هو مستلق ذات ليلة في فراشه يفكر في أفظع الوسائل لقتل الملك الأسير إذ سمع حفيفاً خفيفاً يقترب منه فرفع عينيه فرأى أمامه شبح رجل طويل القامة أبيض اللحية في عينيه وداعة وسلام يقترب منه ويهمس في مسمعه هل حقا تريد أن تقتل ليلليَّ؟

فقال الملك: هذا ما أريد فخبرني بربك كيف السبيل؟ فقال الكهل: ولكنه أنت!!

قال - أنا من؟

- ليلليَّ

- ويحك هل جننت؟ إن ليللي هو ليللي وأما أنا فهو أنا!

- وهمت يا صاحبي فأنت وليللي كل لا يتجزأ.

- ولكن لا أفهم: فها أنذا مستلق على فراش وثير، وحولي الجواري والغلمان، وغداً سوف أجلس مع صحابي على سماط نأكل حوله الآكال ونشرب الأشربة ونتسارُّ ونتسامر كما فعلنا اليوم وكما فعلنا بالأمس. بينما ليللي هنالك ملقى في سجنه كطائر في قفص، وغداً يخوزق، ويعلق من لسانه فيظل يتخبط حتى يأخذ روحه الشيطان.

قال الشيخ: ولكنك لن تسلبه الحياة!!

- إذن ما رأيك يا شيخي العزيز في الأربع عشر ألفا من الجنود الذين اقتلعت من حلوقهم الأرواح وصنعت بأجسادهم رابية كجبل الهند. فأين هم الآن؟ لقد قتلتهم وليس ثمة لهم وجود وهاأنذا من أحادثك وتحدثني بترهاتك يا شيخ المخرفين.

- ومن يدريك أن لا وجود لهم؟ - يدريني أنني لا أراهم الآن وقد أكلتهم بالأمس جوارح الطير أمام عيني.

- وفي هذا كذلك أنت واهم فما فعلت إلا أن قتلت نفسك.

- بربك إلا تدعني أفهم هذا الذي تهذي به؟

- أو تريد أن تفهم؟

- نعم.

- إذا تعال. .

وأشار الشيخ إلى طست فيه ماء وقال للملك اجلس فيه، فنهض الملك من سريره، وجلس في الطست. وأمسك الشيخ بقارورة تشف عن سائل، وقال للملك أحن رأسك فأحناه، فسكب عليه من ذلك السائل فانتفض ثم شعر بأنه إنسان آخر:

ورأى نفسه فجأة متكئا على سرير وثير إلى جانب امرأة كاللؤلؤة ما رآها من قبل بل عرف ساعتئذ أنها زوجته. ونهضت المرأة قائلة له أي ليللي زوجي العزيز، لقد رأيت أعمالك بالأمس متعددة متعقدة، أنهكت قواك فرحت مع النوم أكثر من كل يّوم، فضع على منكبك الرداء وهب يا مولاي إلى البهو الأعظم حيث الأمراء والحكماء ينتظرون.

فقام إيزرهادن وقد وقر في نفسه أنه ليللي، وعجب كيف لم يعرف نفسه من قبل؟! ثم تزيا وتمنطق وتهادى في جلاله الملك إلى البهو الأعظم حيث يسوس مع أعوانه شؤون الناس.

حيّا الأمراء ملكهم ليللي وقد عنت منهم الوجوه، ثم جلسوا بأمره واستهل كبير الوزراء الكلام فقال إنه من المستحيل أن تتغاضى المملكة عن تلك الإهانات الوقحة التي ما يفتأ يوجهها الملك المفتون الأحمق إيزرهادن ملك الأشوريين وإن لم يكن ثمة بد من القتال فأنها الحرب

ولكن ليللي انتفض ورفض، وقال إن الأمور تصرف بالسلام لا بالصدام. وأصدر أوامره بأن يبعث من لدنه رسلا يفاوضون الملك الأهوج إيزرهادن وزود الرسل بما يقولون ويفعلون، ثم بعث بهم على بركة الله.

وبعد أن نظر الملك ما عليه - في شؤون الملك من عمل خرج يقتنص من لفائف الغاب طرائد الوحوش، فتلك هي صبابته ولذة نفسه منذ كان في أكناف أبيه يافعا، وما كان أسعده في هذا اليوم إذ صرع بسهمه المراش عجلين من أفحل عجول الإحراج. نظر كذلك إلى هذه اللبؤة العرفاء التي جاءت نحوه تتهادى في دلال الإناث وإقبال الأسد، وعاد الملك بالقنائص طروبا، وقضى الليل مع ندمائه في قصف ورقص.

وهكذا عاش الملك مقسما بين ضرورات الحكم ومسرات القلب أياما وأسابيع في انتظار عودة الرسل الذين بعث بهم إلى الملك إيزرهادن، وعاد الرسل بعد شهر ولم تعد معهم أنوفهم ولا آذانهم، إذ أن الملك إيزرهادن قد أخذ رهينة على أن يقولوا لمليكهم ليللي إن ما حل بهم سيحدث له كذلك إن هو لم يحمل على ظهور المطايا أو ساقا من الفضة والذهب والأخشاب الثمينة ويقدمها للملك ايزرهادن ومن خلفها يذهب الملك ليللي بنفسه ويقدم للملك العظيم فروض الولاء

وجمع ليللي أمراءه فتشاوروا ودبروا وقدروا، وقرروا أن الملك قد أهين، وبالإجماع أعلنوها حربا على ملك الأشوريين، وعلى رأس جيش يتقد حمية وحماسة كان الملك ليللي يزحف إلى عدوه وقضى سبعة أيام يكابد هو وجيشه مشقة السفر ووعثاء الطريق.

وفي اليوم الثامن تقابل الجيشان في بطن واد مكشوف. ويا أكثر ما روع الملك الباسل ليللي إذ رأى جيش غريمه ينهمر كالسيل من أعلى الجبل ويكتسح الوادي بآلاف مؤلفة فدافع ليللي ببضع مئاته دفاع الأبطال.

ولكنه سرعان ما جرح وحمل أسيراً وذهب جيشه من قتيل وأسير وسيق به وبهم إلى نينوى حيث ألقى الملك في كهف مسوج بالقضبان.

ولم يعان الملك ليللي في هذا الأسر من آلام الجوع وإيلام الجروح كما عانى من إلام الروح: فها هو ذا ملطخا بالخزي والعار لا حول له ولا قوة، يكابد عذابه وأوصا به شجاعا صابراً لا شاكيا ولا متذمراً.

اثنتا عشر يوما ينتظر الملك الموت وهو يرى في كل لحظة خلصاءه وندماءه يساقون إلى الذبح كالخراف ولكنه تجمَّل وتحمل وكتم: رأي زوجته التي يحبها كل الحب مغلولة اليدين يسوقها عبدان إلى حيث تلقى مع جواري إيزرهادن فسكن وسكت.

وأخيراً صرصرت السلاسل وفتح باب السجن، ودخل جنديان، فأنهضا الملك وكبلاه بالحديد وساقاه إلى ساحة الإعدام، وخلعوا أثواب الملك وزجروه وزجوه إلى حيث الموت، وحينئذ صاح الملك: إنه الأجل. لا أستطيع. وفقد الملك شجاعته وبكى، ووقع الملك على أقدام الجلادين يبكي ويسترحم، ولكن لا سامع ولا مجيب: وشهروا السيف وأرادوا أن يُهووا به على عنقه.

وهنا صاح الملك: هذا لا يمكن. أنه حلم، ونفض الملك رأسه فعاد كما كان: إيزرهادن.

وقال إيزرهادن: يا إلهي كم قاسيت من العذاب. وكم طال هذا الكابوس.

فأجاب الشيخ ذو اللحية: كم طال هذا الكابوس!؟ إنه لحظة يا صاحبي دونها غفوة العين. . . فهل فهمت الآن؟

فنظر الملك في رعب ولم يجب.

فقال الشيخ أرأيت أن ليللي هو أنت، وأن الجنود الذين عذبتهم وقتلتهم ليسوا أحداً غيرك؟ إنك تظن أيها الملك أن الحياة تجري في عروقك وحدك، ولكنني أريتك أنك بعمل الشر للآخرين إنما عملته لنفسك لأن الآخرين وأنت شيء واحد، فالحياة واحدة في الجميع وإنما حياتك جزء من هذه الحياة العامة وصورة منها مصغرة: وإلا فخبرني هل يمكنك أن تجعل الحياة أسوأ مما هي أو أحسن مما هي؟ هل يمكنك أن تمدها حتى تطول، أو تقبضها حتى تقصر؟. . . كلا فما في استطاعتك أن تحقق الحياة إلا في نفسك وذلك بأن تحطم الحواجز بين حياة الآخرين وحياتك، وبأن تنظر إلى الآخرين النظرة التي تنظرها إلى نفسك وتحبهم كما لو كانوا منك. بهذا تزيد نصيبك في الحياة، إنك تنظر إلى حياتك كأنها الحياة الوحيدة في الكون وتريد أن تزيدها بما تأخذ من حياة الآخرين، وأنا أقول لك إنه بنفس هذا العمل إنما تخطئ في حق نفسك لأنه مستحيل وفوق قدرتك أن تسلب الحياة التي توجد في الآخرين. وخطأ أن تظن أن حياة الذين قتلتهم قد اختفت في الواقع أبداً، فالحياة لا تعرف الزمان ولا المكان.

حياة لحظة وحياة ألف عام وحياتك أنت وحياة كل الكائنات الكثيرة والمتنوعة في الوجود، كل هذا سواء، وواحد لا يختلف. مستحيل أن تسلب الحياة أو تّهبها لأحد. الحياة هي الشيء الوحيد الذي يوجد إلى الأبد؛ وكل شيء عداها نتخيل أنه موجود وهو وهم باطل.

قال الشيخ هذا واختفى.

وفي الصباح أصدر الملك إيزرهادن أمره بإطلاق سراح الملك ليللي وإلغاء كل أحكام الإعدام. وفي الثالث استدعى إليه ابنا أشور بانّي يال وتنازل له عن الملك بكل قوته وسطوته.

وأما الملك إيزرهادن فقد خرج إلى الغابات يتأمل في كل ما عرفه وطاف في المدن العساكر يبشر الناس بأن الحياة واحدة خالدة، وأن الناس إذ يسيئون للغير لأنفسهم لأن غيرهم وأنفسهم واحد خالد.

زكي شنودة

المحامي