مجلة الرسالة/العدد 61/لا تحزني. . .

مجلة الرسالة/العدد 61/لا تحزني. . .

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 09 - 1934



بقلم جورج وغريس

لا تحزني يا سيدتي. فهكذا شاء القدر أن يدفع بك إلى محيط هذا العالم ذرة مضطربة من ذراته التي لا تستكين ولا تهدأ. كلما حضرني أمرك أيتها السيدة، شعرت بالألم يحز في قلبي، وأحسست بالحياة كلمة غامضة في سجل مبهم، ورأيت السعادة كذبة هائلة انحدرت من شفاء الأبالسة إلى آذان هذه الأجيال التعسة الحالمة. .

لا تحزني أيتها السيدة الكريمة، كفكفي دمعك لأنك لست بمستطيعة أن تغطي الأفق الوسيع بكفك الصغير، ولست بقادرة أن تحولي دون الريح وهبوبها، أو النهر وجريانه. .

قبل أن تغرب شمس اليوم رافعة بأشطانها أوزار العالم وأوحاله لتقدمها إلى صاحب العرش الأعلى. . . . جاءني طفلك الصغير، وكأن أحزان العالم قد وسعها قلبه الغض وهو يلهث من التعب، وأخذ يبكي ويقول لي في كلمات يقطعها البكاء: (تعال لتخفف عن أمي. . . إنها حزينة من الصباح. . . إنها طريحة الفراش. . . باكية ومنتحبة. . . وكلما سألتها السبب قالت: إن أباك لم يعد. . . فمن يكون أبي؟ ومتى يعود. .؟ إنني لا أفهم ما تقوله أمي. .)

فيا رحمة الله أدركيني. . . بأي لسان ينطق هذا الطفل. .؟ أتستطيع ملائكة الرحمة أن تظل واجمة ساكنة؟ أتظنين يا سيدتي أن الرياح حملت فيما تحمل تلك الكلمات التي نطق بها هذا الصبي البريء. . .؟ كلا بل إنها ستبقى خالدة في نفسي ما بقيت. . . وستظل حائمة في فضاء هذا العالم لتصرخ في آذان الجيل بعد الجيل أن الإنسانية ما وجدت إلا لتشقى، وأنه ما من أرض إلا وزرعت فيها التعاسة، وما من حاصد فيها إلا وهو للبؤس ربيب. . .

من يقول لطفلك أيتها السيدة الحزينة إن أباه هو الشر الذي ولد الخير، والحبة النتنة التي أنبتت الزرع الجميل، والحشرة القذرة التي انبثق منها الشهد، والريح الخبيثة التي خلفت النسمة الطيبة، والغيم الحالك الذي بعث ببهجة الأرض، وهو اليد التي دفعت به إلى الحياة. ثم تراجعت متخفية كاليد السارقة التي تأخذ غادرة ولا تعترف بعطاه. . . .

من يقول لطفلك يا سيدتي إنه ما من وليد من أمثاله إلا وله أب يرعاه بعنايته. أما هو فيتيم وإن كان أبوه حياً يرزق، ولكنه يشاء اليتم لابنه ويريد العقم لنفسه، وليس وا أسفاه ف قوانين الأرض ما يرد تلك المشيئة أو يمنع تلك الإرادة، وليس وا أسفاه في نتاج الإنسانية بعد جهاد القرون ما يخفت أنين الطفل وهو يسائل الحقيقة (من يكون أبى. . . .؟)

يا سيدتي الحزينة - خففي عن نفسك فما أردت أن أثير أشجانك. . . دعي الماضي يمر أمامك كالأطياف السريعة. . . ماذا يؤلمك وماذا يبكيك، وأنت ربيبة الألم ووليدة البكاء؟. . . لقد كنت فتاة في منزل أبيك تقاسين من غلظته، وتعانين من زوجته، وتشكين فراق أمك المطرودة البعيدة. . . وكما خرج موسى من أرض مصر، خرجت أنت من سجن أبيك إلى دار زوجك، ولكنك لم تجدي في صحرائه مَنّاً ولا سلوى. . فمسكينة أنت أيتها السيدة. . لقد رضعتِ الشقاء. والشقاء ما زال في أحضانك رضيعاً يترعرع. . . ورشفت الكأس وثمالته أشد مرارة. . .

مسكينة أنت أيتها السيدة. بل مسكينة كل امرأة تعيش في كنف زوجها الغاصب، لأنها لا تستطيع أن تلامس أطراف السعادة ولو كانت الجنة تحت قدميها. . . غريب أمر الرجل في هذه الحياة، خلق الله له المرأة ليأتنس بها فخلق هو لها الوحشة، وجعل الله له القوة ليحمي ضعفها فنازلها بقوته. . . ومنذ انحدر آدم إلى هذه الأرض والفضيلة والرذيلة تعتركان، أما الحق فمخبوء أبداً. . .

لا تحزني يا سيدتي لأن الحزن لا يقدم من شأنك ولا يؤخر، فإنما أنت مخلوق ضعيف أسلمته يد الأقدار إلى قبضة عاتية. . . وما دامت المرأة في دولة الرجال، فسوف لا تعيش إلا ذليلة مسكينة. . . لأنهم يصنعون الشرائع ويحتكمون إلى أنفسهم ثم يحكمون. . .

لا زلت أذكر يا سيدتي اليوم الذي أتيت فيه إلى جوارنا، وكان زوجك يتعهد هذا الوكر برعايته، يبادلك الوفاء ويقاسمك السعادة، ولكنه كان متكلفاً في هذا العناء فقبل أن يرى طفلك النور. انسل كاللص السارق ليعيش في الظلام. . . ومنذ ذلك الحين إلى الآن وزوجك مقبور في حفرة الأحياء، لا يتلمس النور ولا يتسقط الماء. . .

ما أغرب هذه الطبيعة البشرية وما أعجب أمرها. . . إذا أصابها التقلب والتلون نسيت ما فعله يومها في أمسها، وبَعُد خيرها عن شرها، وتنكر حاضرها لماضيها. . . فإذا بصاحبها إنسان لا يستأنس، وإن كان الحيوان قد بدأ ينسى ما في أحط غرائزه من غدر وفتك وبطش. . .

قومي يا سيدتي ورفهي عن نفسك فلكل بداية نهاية، ولابد لحقك أن ينتصر اليوم أو غداً. لأن الألم الذي تعاني لم يحترق بمثل ناره قلب من قبل، والدمع الذي ينهمر من عينيك الغائرتين على وجهك الشاحب لم تدانه في حرارته ما سكبته عيون الشقاء منذ ولادته. . .

للمريض آلام وللفقير آلام، للمتعب آلام وللضعيف آلام، للغريب آلام وللطريد آلام. . . وآلامك أنت أيتها الشقية المظلومة تسمو على كل ألم. فيجب أن تسمو نفسك بقدر سموها.

ويجب أن ترفعي رأسك فوق الطوفان الذي يغمرك، وليكن مثلك في ذلك مثل الحادي وراء الإبل يقطع الفيافي على قدميه، وقد أمضه التعب وأضناه الجوع وعضه الفقر، وهو يغنى أنشودة الحياة والحب والفرح. . .

في بكائك المتواصل (قولي ما يقوله الفلاحون عن غيث السماء: هذا المطر كله حنطة). . .

في ظلامك الدامس تطلعي إلى الخيوط الرفيعة البيضاء التي تتراءى لك من وراء الأفق، وارفعي نحوها بصرك. . .

قومي يا سيدتي. ولا تجعلي للألم سلطاناً على نفسك. فقد فعلت بك العلة فعلها. . وارحمي طفلك الذي هوى على صدرك ليمزج أنات قلبه بدقات قلبك. . قومي يا سيدتي وهات يدك. . .

قلت هذا بجوار سريرها. . ثم مددت يدي إلى يدها. فإذا بها باردة!. . .

يا لشقاء نفسي!. لقد كنت بكلماتي الأخيرة أخاطب الأرواح الحائمة حولي. . في استطاعة المرء أن يذكر كل ما يجول بخاطره، ولكنه ليس في استطاعته أن يقول كل ما يبدو لناظره.

أيها الرجل. . . لقد ماتت تلك المرأة!

إسكندرية

جورج وغريس