مجلة الرسالة/العدد 612/الشيخ عبد العزيز البشري

مجلة الرسالة/العدد 612/الشيخ عبد العزيز البشري

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 03 - 1945



لمناسبة انطواء عامين على وفاته

للأستاذ منصور جاب الله

طويت صفحة المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري في غمار الأحداث فلم تفه الأقلام حقه بحسبانه من أدباء العربية المعاصرين الذين خدموا لغة الضاد وتميزوا بجزالة الأسلوب ورصانة العبارة ووثاقة المعنى.

والحق أن المرحوم البشري كان من حواريي تلك المدرسة الأدبية المحافظة التي نشأت في أعقاب الثورة العرابية، ولقد شرح بنفسه مدى تأثره بأسلوب المويلحيين في الجزء الأول من كتاب (المختار). ولو قد رجعنا إلى أساليب الكتاب قبل هاتيك الثورة لها لنا مقدار تهافتها وركاكتها وبعدها عن أوضاع اللغة الصحيحة ونحوها وصرفها، ومن ثم كان لنا أن نزعم أن الثورة العرابية خدمت - عن طريق غير مباشر - اللغة العربية بما أذكت من الكتاب والخطباء.

ولقد نشأ الشيخ البشري في بيت علم ونعمة وحفاظ، فكان أبوه شيخاً للأزهر حقبة ليست بالقصيرة وكان من الأساتذة المتبحرين في الفقه على المذهب المالكي، فلم يشأ أن يخالف عن تقاليد أسرته فانخرط في سلك طلاب الجامع العتيق، بيد أن النهضة الحديثة كانت أضواؤها تأتلق في جنبات الأزهر بين طائفة قليلة من الطلاب وطائفة أقل من الأشياخ. وكان أن أصدر المرحوم إبراهيم بك المويلحي صحيفته الأسبوعية (مصباح الشرق) وفيها نقد للشخصيات المصرية في القرن التاسع عشر وفيها (حديث عيسى بن هشام) لمحمد بك المويلحي بأسلوبه التهكمي الجزل، وهكذا فتن (البشري الصغير) بالأدب والأدباء وعزف عن حلقات الدرس في الأزهر ودأب على مراسلة الصحف الأدبية القائمة حينذاك، وما كاد يظفر بإجازة العالمية حتى طلبته وزارة المعارف ليكون محرراً فنياً بها.

حدثنا رحمه الله فيما حدثنا أنه كان مغرما بالفن من صباه، وأنه وقد أدرك من المطربين عبده الحمولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وغيرهم، كان لا يفوته مجلس من مجالسهم الموفقة، وإذ كان صغيراً والناس ما يبرحون على الحفاظ والاحتشام، كان ما ينفذ من الخدم والأحراس إلا بالرشوة في أيديهم أو بالزوغان من أعينهم، وكان يمضي الليل ساهراً جله ما تغمض عيناه سويعات قلائل مع مطلع الفجر.

وكان الشيخ البشري يوافي الصحف بمقالاته التي تشيع في جوانبها الجزالة والترف اللفظي، غير أنه كان يطالع كل مقالة على ملأ من إخوانه قبل نشرها، وأخبرنا رحمه الله أنه كان ينهج في رسائل (في المرآة) نهج المويلحي الكبير في تحليله الشخصيات دون خدش للأعراض أو إسفاف في الأداء. وذكر أن أحداً من الزعماء إذا عرف أن نوبته قد أقبلت في (مرآة السياسة الأسبوعية) طوى ليله ساهراً لا يغمض له جفن حتى يطالع ما كتبه عنه البشري!

لقيته - رحمه الله - أول ما لقيت صيف عام 1928، وكان يصطاف في ضاحية (شوتس) الجميلة في رمل الإسكندرية، فتعارفنا من يومها وتوثقت بيننا الصداقة فكان لا يهبط الإسكندرية حتى يعلمني بمقدمه فلا نكاد نفترق طوال مقامه بالثغر البسيم. ولما أراد أن يسوّي من مقالاته المبثوثة في الصحف كتاباً، عهد إلي فأذكيت جماعة من النساخين في مكتبة بلدية الإسكندرية ونقلت بيدي طائفة منها مما كنت أحتفظ به من صحف ومجلات. وقد أحجم عليه رحمة الله طويلا عن جمع مقالاته في كتاب ثم أجاب طلبة أصدقائه على تكره واستثقال، وأشار إلى ذلك في مقدمة الجزء الأول من كتاب المختار فقال: (وكثيراً ما استحثني صُدقائي على أن أُسوَّي من تلك الرسائل مجموعات أطبعها وأنشرها للناس، فإذا اعتلوا على عذري بأن هذا الذي أصنع مما لا أراه يرتقي إلى هذا المكان، رحت أجاريهم بظاهر من القول، وفي التعليق على مشيئة الله تعالى من الكذب منتدح)

وكان أسلوب البشري وسطاً بين الترسل والسجع، وكانت فواصله بعيدة المدى، وتتقاصر حينما يمزح أو يداعب، ونستميح القارئ في أن نعرض عليه مثلا من الازدواجات (البشرية) الرائعة. قال رحمه الله على لسان مغرم صب (إنني ما رأيت دُرةَّ قط إلاّ حسبت أنها انتزعت من ثغرها، ولا أبصرت مرآة قط إلا ظننت أنها استعيرت من صدرها، ولا طالعت وردة ناضرة إلا خلتُ أنها قطفت من خدَّها، ولا تمثّل لي غصن من ألبان إلا أحضرني صورة قدها، ولا سطع لي عبير إلا شعرت أنه من شذاها، ولا فصحني نور إلا قدّرت أنه من إشراق محياها، ولا سمعت شّدو القُمري إلا سمعتها تتكلم وتلغو، ولا طاف بي النسيم إلا تمثلتها تلعب وتلهو؛ ولا طلعت الشمس إلا رأيتها فيها، ولا استتم البدر إلا خلتها تعلو على الدنيا كبراً وتيها. وإني لأرفع بصري إلى السماء فأرى لها هودجاً في موكب السحاب، وأخرج إلى الفلاة فإذا هي يترقرق بها السراب، فهي سعدي وهي نحسي، وهي نعيمي وهي بؤسي، وهي لذتي وألمي، وهي صحتي وسقمي، وهي نعمتي وبلائي، وهي حياتي وفنائي)

وقال البشري الشعر في صباه، وكان يرسله في جريدة (الظاهر) هجواً في المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد تشيعّاً منه للمرحومين مصطفى كامل ومحمد المويلحي، ثم أجبل زمانا، فلما توفي صديقه المرحوم الدكتور حلمي المنشاوي في ريق الشباب ومشرق الفتوة جرى لسانه بالشعر مرة أخرى ونشرت له (الرسالة) قصيدة باكية في ربيع عام 1934، وكانت آخر قصيدة له فيما أعلم؛ فلم يقل بعدها شعراً.

والشيخ البشري. كما عرفه أصحابه، حسن العشرة، بارع الحديث، سريع الخاطر، يجيد المفاكهة، ويستضحك بنوادره الباكي الحزين. ومن ثم اتخذه كثير من عظماء المصريين صاحباً وخدينا، وقبلوا وساطاته وشفاعاته في الناس، ولكنه كان إلى ذلك عصبي المزاج يثور لأقل بادرة، وفي سبيل ذلك يهدر الصداقة القديمة، ومن أجل هذا المغمز كان كثير من أصدقائه يتقونه ويتحاشونه، ويخافون سقطات لسانه.

زرته في مطالع عام 1934، وكان يسكن بضاحية الزيتون، فأخذ بيدي وأدخلني قاعة الاستقبال وأشار بيده إلى صور معلقة إلى الجدار قائلا (هؤلاء الثلاثة الذين أجلّهم وأحترمهم بين المصريين جميعاً) وتفرست في الصور فإذا هي لعظماء ثلاثة: المرحوم أحمد شوقي بك، والدكتور علي إبراهيم باشا، والدكتور عبد الحميد بدوي باشا. وقد رجعت الآن إلى كتابه (المختار) فألفيته يهديه إلى صديقه المرحوم محمد راغب عطية بك الوزير السابق بهذه العبارة (أهدي عصارة ذهني مدة الحياة، إلى من أهدت مودته إلي أحلى ذكريات الحياة).

كان الشيخ عبد العزيز البشري أديبا ملء إهابه، ولو قد قصر عملة على الأدب والكتابة لجاء فيهما بالعجب العجاب، ولكن أريد له أن يكون موظفا، وأريد له أن يكون رئيساً إدارياً، وليس ينتقص من قدر الأديب الصحيح سوى الوظائف التي لا توائم طبائعه، ولا تتفق مع سليقته، ومن ثم بدأ عجز أديبنا العظيم واضحاً حين جيء به وكيلا لإدارة المطبوعات، ثم مراقباً إداريا لمجمع اللغة العربية، وقد توفي وهو يشغل المنصب الأخير، كان لابد مما ليس منه بد، وترك رحمه الله الحبل للغارب لبعض صغار الموظفين، فأحفظ ذلك سائرهم، وكان فيهم أدباء معروفون، وكان فيهم أصدقاء قدماء له. فقام ذلك دليلا على أن الأديب الممتاز ينبغي ألا يشغل عن الأدب بما هو دون الأدب.

وبعد، فلقد غدا عبد العزيز البشري في المنسيين، لا بل لقد أصبح وأمسى في المذكورين. وبين أيدينا الساعة كتاب (المرآة) وهو أول كتاب من نوعه في الأدب العربي، يجد فيه ويمزح، ثم لا يقول إلا حقا، وبين أيدينا جزءان من كتاب (المختار) وقد جمع فيه أروع وأجمل ما أرسله في الصحف الدائرة، ثم هو قد ألف كتاب (التربية الوطنية) لتلاميذ المدارس وشارك في وضع (المجمل في الأدب العربي) لطلبة المدارس الثانوية. ومثل هذه الآثار مجتمعة ومتفرقة لا ينسى صاحبها، ولسوف تمضي سنون وسنون وهذا البلد وبلدان العروبة قفر من بيان البشري الساحر وملحه الطريفة، وشخصيته الفذة. تداركه الله برحمته، وجزاه عن لغة الضاد أحسن الجزاء.

(الرمل)

منصور جاب الله