مجلة الرسالة/العدد 614/علم العرب الأقدمين بالجراد

مجلة الرسالة/العدد 614/علم العرب الأقدمين بالجراد

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1945



مع نبذ عن غاراته الحديثة

للدكتور محمد مأمون عبد السلام

وكيل قسم النباتات بوزارة الزراعة

بقية ما نشر في العدد الماضي

وقال جندل بن المثنى يصف غارة الجراد:

يثور من مشافر الحنادج ... ومن ثنايا القف ذي الفوائج

من ثائر وناقر ودارج ... ومستقل فوق ذاك مائج

يفرك حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن بالمحالج

(والكنافج هو السمين الممتلئ. والحنادج هي الإبل الضخام شبهت بالرمال).

ومن الطريف أن كتاب العرب الأقدمين كانوا على علم بأطوار الجراد، فقد وصفها صاحب المسالك ابن فضل الله العمري الدمشقي المتوفى 749هـ (1348 ميلادية) إذ قال إن الجراد صنفان أحدهما يقال له الفارس وهو الذي يطير في الهواء عالياً. والصنف الآخر يقال له الراجل وهو الذي ينزوي فإذ فرغت أيام الربيع طلبت أرضاً طيبة رخوة فتنزل هناك وتحفر بأذنابها حفراً وتطرح فيها بيضها وتدفنه وتطير فتفنيها الطيور والحر والنور فإذا تم الحول جاءت أيام الربيع تفقأ ذلك البيض المدفون وظهر مثل الديبب الصغار على وجه الأرض، وقالوا كل جرادة تبيض شيئاً كثيراً فإذا خرج ذلك من البيض أكل ما وجد من الزرع والشجر وغيرها حتى يقوى ويقدر على الطيران فينهض ويذهب إلى أرض أخرى فيفعل ذلك أبداً دائماً تقدير العزيز العليم.

وينطبق ما قاله ذلك العالم العربي على النظرية الحديثة لأطوار الجراد التي وضعها العالم الأستاذ يوفاروف الاختصاصي الشهير في الجراد وبذلك يكون علماء العرب قد سبقوا علماء الغرب في القول بنظرية أطوار الجراد بنحو ستمائة سنة.

وقد نصح كتاب العرب لمقاومة الجراد وإبادته بالتدخين، ورش النباتات بمواد طاردة، وإحراق الجراد ومطاردة فراخه إلى أخاديد محفورة يحرق فيها، وقد شرح ذلك صاح كتاب الدر الملتقط في علم فلاحتي الروم والنبط فقال. أما الجراد والجندب فيدخن مع جري الهواء بقصب القنة والقنب والكبريت وعظام الهداهد والسلاحف والتبن، ويرش على الشجر ما قثاء الحمار والترمس والملح بعد طبخه. أو يطبخ قشر الطلع بالماء حتى يخرج قوته ويرش الشجر والزرع به. ثم قال ويدق الشبوينز أي الحبة السوداء ويريب ببول الجمال على نار هادئة كذلك سبعة أيام ثم يرش ماؤه على الزرع والشجر فإنه يهلك الجراد والزنابير والزراريح وغيرها. ثم قال: وإن كان الجراد فرخاً فلتحفر له الأخاديد ثم يساق إليها ويحرق فيها أو إلى حفائر عميقة أو ابيار معطلة أو تنصب قدور كبار فيها ماء حار يلقي فيها أولاً بأول ليلاً ونهاراً.

غارات الجراد الحديثة

هذا ما أمكنني العثور عليه في مخلفات العرب عن الجراد ومقاومته. أما عن غارات الجراد في العصور الحديثة في الشرق الأوسط فأقول إن من الذين تكلموا عنها بمصر من الحديثين هو الرحالة بورخهاردت وهو سويسري كريم المحتد أرسلته إحدى الجمعيات الإنجليزية في رحلة علميه لبلاد الشرق الأوسط في عهد محمد علي فمكث بالشام عامين جاء بعدها إلى القاهرة عن طريق سينا ثم توجه صعدا إلى أسوان فوادي أم جات المتفرع من وادي العلاقي حيث شاهد أسرابا من الجراد الشره يلتهم أوراق أشجار السيال وفروعه الغضة ثم سار في وادي الطرفاوي وبه الكثير من أشجار الدوم والطرفا ونبات السنامكي ورأى أسراب الجراد تجردها من أوراقها وفروعها الغضة. ومنهم كذلك المسيو بوفيه وهو فرنسي استقدمه المرحوم الحاج إبراهيم باشا نجل محمد علي الكبير ليكون مديراً لمزارعه وحدائقه وقد أرسله في بعثة زراعية إلى بلاد اليمن وسينا وفلسطين، فلما توجه إلى سينا وصل إلى دير سانت كاترينا في أول يونية سنة 1832 فرأى قرب جبل سينا سحابة عظيمة من الجراد من نوع قال عنه إن قريب من ايدوبودا ميجراتوريا فالتهمت ما في طريقها من عشب الأرض وأشجارها فلم تبق ولم تذر.

ولم تتعد أخبار الجراد ما يقوله المسافرون والرحل عنه. فلم تعن الحكومات بأمره إلا من عهد قريب. وبلادنا بلا فخر من أسبق المماليك في دراسة أحواله والمبادرة إلى مكافحته ولعل أول مجهود حكومي في ذلك هو ما فعلته حكومتنا في غارة سنة 1891 وإليك ما قاله عنها المرحوم ميخائيل بك شاروبيم في الجزء الرابع من كتابه (الكافي): -

وردت أخبار من بعض مديري الإقليمين القبلي والبحري على ديوان الخديوي وديوان الداخلية بظهور الجراد في جهات الصالحية والزنكلون وتل حوين من بلاد الشرقية. وأهوى وباروط وآها من بلاد مركزي النجيلة والدلنجات واليهودية وقبور الأمراء بالبحيرة وطود ودماريس والبرجين والأخصاص وغيرها بمديرية المنيا وأكثر بلاد القليوبية والمنوفية. وكسا أراضي الجزيرة بالبر الغربي من القاهرة، وكان ظهوره في أخريات رمضان فخاف الناس شره واهتمت الحكومة بأمره اهتماما عظيما وأرسلت إلى سائر المديرين والمحافظين بالتشديد على قطع شأفته فجدوا في تأثره، وكانت الأخبار ترد تباعا بتكاثره وانتشاره شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وفتكه بكل ذي خضرة من النبات والشجر والنخيل، وظل الحال على ذلك أياما والناس في دهشة وحيرة حتى أذن الله سبحانه بان هبت ريح في أخريات شوال سنة 1300 هـ ورياح مختلفة بعضها من الشرق وبعضها من الغرب ولبست على اشتدادها أياما فاكتسحته وحملت بعضه إلى الحوف الشرقي وبعضه إلى الجبل الغربي ولم تترك منه إلا القليل في البلاد والقرى التي نزل عليها فأباده أهلها بضرب العصي وسعف النخيل وجدوا في جمع بيضة وفرضت الحكومة قرشين لمن يأتي بأقة من بيضه، فتسابق الناس إلى البحث عن مواطنه وإخراجه منها فكان أكثره في مركز النجيلة بالبحيرة وفي الجبل الغربي وسواحل البحر وفي الفشن بمديرية المنيا.

ومن غريب ما نقل عنه أن سحابة منه نزلت على مزرعة قطن بإحدى بلاد المنوفية فأكلتها وما أتت على آخرها حتى ماتت جميعها فجاءت أخرى إلى مزرعة في جوار المزرعة الأولى فلما رأت ما أصاب الأولى فرت من النزول على شجر القطن وتحول ضرره إلى الأشجار والنباتات الأخرى. وأخبر جماعة من تجار المنوفية مديرها وحلفوا له الأيمان المغلظة بأنهم شاهدوا في بلاد مركز أشمون جريس طيراً كثيراً جداً أقرب شبها بأبي قردان ولكنه أطول منقارا وقد ترك الجبل أسراباً أسرابا واخذ يتتبع الجراد أينما وجده ويكبس عليه ويزدرد منه ألمئين والألوف ثم يتقياه ميتا وهكذا فلا يرحل عن البلد أو المزرعة إلا وقد أفنى ما فيها من الجراد وأباده، وأن بعض الجهلاء من الفلاحين كانوا يخافون من ذلك الطير فيرجمونه بالأحجار وهو لا يلتفت إلى ذلك ولم يثن له عزما. قلت وقد شاهدت شيئاً كثيراً من ذلك الطير نازلا على طول الطريق من نفيشة إلى السويس وهو على هيئة صفوف الجند بعضها خلف بعض ساكن القلب لا يزعجه مزعج ولا يحركه محرك، وقد أخبرني بعض أهالي نفيشة بأنه قد نزل عليهم منذ أيام وهو يترصد الجراد الزاحف من بلاد الشرقية إلى الحوف الشرقي حتى إذا مر قام من فوره وسد عليه الطريق وجعل يضربه بأجنحته ومنقاره ويبتلع منه الألف فلا يستقر في جوفه لحظة حتى يتقياها فإذا أفلت منه شيء تعقبه وقتله ثم يعود إلى مكانه متربصا. قيل وبقى على هذه الحال أياما حتى قامت تلك الريح واكتسحت ما بقى من الجراد، فسبحان مدبر الأكوان ومسلط الأبدان على الأبدان إنه خلاق عظيم سبحانه جل شأنه).

وأغار الجراد بعد ذلك على الديار المصرية في سنة 1904 فورد أول بلاغ عن ظهوره من منطقة العريش في 21 مارس سنة 1904 ثم تلته بلاغات أخرى طول شهر إبريل عن ظهوره في الوجه البحري وشمال القاهرة. وكانت أرجاله قد جاءت من صحراء العرب وشبه جزيرة سينا، فأغارت على مديريات الدقهلية والشرقية والقليوبية وكل بلاد مصر الوسطى ومديرية المنيا حتى سمالوط. وصار يضع بيضه أينما حل. واستمرت غاراته طول شهر مايو والنصف الأول من شهر يونيه فلم يترك بلداً من بلاد مصر إلا ونزل بها. وكانت وزارة الداخلية المنوطة بمقاومته وتخليص البلاد من شره فأصدرت إلى رجالها في الأقاليم المنشورات ليحثوا الأهالي على مكافحته.

وأغار الجراد على مصر بعد ذلك عدة إغارات صغيرة في سنة 1914 شوهدت أرجاله خلالها في أسوان وكوم امبو وأدفو والمعادي وفارسكور وسيدي براني. ثم تلت هذه الغارات غارة كبرى في سنة 1915 فظهرت أسرابه أول الأمر في الواحة البحرية في شهر يناير ولكنه لم يبلغ عنه إلا في 2 فبراير. وقد شوهدت أرجال الجراد في وادي الريان والواسطي والصف والعياط وشبين القناطر ونوى وفي أسوان، ولم ينتصف شهر فبراير إلا وأطبقت جحافله على الوجه البحري ومديريات الجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وجرجا وقنا وشبه جزيرة سينا، واستمرت غاراته حتى أوائل يونيه فلم تسلم منه بلد في القطر المصري حتى واحة الفرافرة. ووقع حمل مقاومته في هذه الغارة الكبرى على عاتق وزارة الزراعة فلم تأل جهداً على حداثة سنها (ولدت سنة 1913) في مكافحته مستعينة في ذلك بأحدث ما وصل إليه العلم من وسائل الكفاح مما تجده مفصلا في تقريرها عن (غارة الجراد الكبرى على مصر سنة 1915) فكان مما فعلته أن قررت مكافأة قدرها جنيه واحد لمن يدل على موضع بيض جديد في الصحراء فكشفت بذلك مغارز عديدة لبيضه فبلغ ما جمع من البيض في هذه الغارة ثلاثمائة وأربعين ألف أقة تحوي ثمانية وعشرين بليون بيضه. وبلغ مقدار ما جمع من الجراد نفسه عشرة ملايين أقة أي نحو ثمانية بلايين جرادة سوى النطاط

واستعانت وزارة الزراعة في هذه الغارة بعدة مصالح حكومية كالمالية والمساحة وخفر السواحل وعينت دوريات من الهجانة للبحث عن الجراد في الصحاري وقد بلغت نفقات هذه الحملة سبعة عشر ألفا من الجنيهات.

وأغار الجراد بعد ذلك على مصر في أواخر سنة 1929 وأوائل سنة 1930 غارته الكبرى التي كلفت البلاد في مقاومته ربع مليون من الجنيهات.

ومن ثم أخذت وزارة الزراعة في دراسة أحوال الجراد وغاراته دراسة علمية منظمة، فأنشأت فرعا لأبحاثه ومكتبا لمقاومته، وأخذت ترسل حملات الاستكشاف في صحاري مصر وبلاد العرب لتتبع حركاته ومقاومته في مواطنه قبل أن يستفحل أمره وتصعب مقاومته، وعقدت المؤتمرات مع الدول المهددة بغارته للتعاون وتبادل الرأي في مكافحته. وقد سجل الأخصائيون المصريون بوزارة الزراعة صفحة عالمية مجيدة في أبحاث الجراد وطرق مقاومته. وقد وضعت وزارة الزراعة نظاماً دقيقاً لمقاومة الجراد كفل للبلاد الوقاية التامة من شره وأذاه.

الدكتور محمد مأمون عبد السلام