مجلة الرسالة/العدد 615/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 615/البريد الأدبي
أريحية كريمة
تأثر كريم عظيم لم يرد أن نذكر اسمه، حين قرأ وصية الرصافي المنشورة في العدد الماضي من (الرسالة) فتبرع بجنيهين مصريين لخادمه عبد، وقد أرسلناهما بالبريد المسجل إلى صديقنا الأستاذ طه الراوي ببغداد ليؤديهما إلى هذا الخادم المسكين.
جواب عن تساؤل واستفهام:
قرأت في العدد 610 من الرسالة الغراء في البريد الأدبي (ص 214) كلمة للسيد أحمد حمد آل صالح تحت عنوان (تساؤل واستفهام)، فأكبرت له إحفاءه في التساؤل، ودقة ملاحظاته في النواحي التاريخية، وأحببت أن أجيبه إلى بعض ما سأل عنه:
1 - من أنعم النظر في معجم الأدباء الذي قام بطبعه المستشرق مارجليوث طبعتين، ثم حذت حذوه دار المأمون في طبعتها المشكولة - علم أن كل هذه الطبعات كانت عن نسخة واحدة لا ثانية لها، وإذا كانت هناك نسخ أخرى فإنما هي ناقصة مخرومة. ومن هنا يجد المتصفح للكتاب المذكور أن بعض الأعلام لم يرد منها في الكتاب إلا النزر اليسير، فإن المسمين - من الأدباء - بعمرو كثيرو العدد جداً، مع أنه لم يرد منهم في هذا المعجم إلا أربعة، وكذلك المسمون بعبد الله لم يرد منهم إلا عشرة، والمسمون بعمر لم يرد منهم إلا بضعة عشر، مما يدل بوضوح على أن قسماً كبيراً من هذا الكتاب لا يزال في طيات الخفاء. يعرف ذلك كل من تصفح هذا الكتاب من أهل المعرفة بكتب الطبقات ومعاجم الأعلام.
2 - هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فإن لياقوت معجمين اثنين واحدا منهما للشعراء والآخر للأدباء. والظاهر أن الأمر قد اختلط على بعض الوراقين فنقلوا من معجم الشعراء ترجمات وضموها إلى معجم الأدباء مثل ترجمة الفرزدق وصريع الغواني وأبي دلامة ومن إليهم.
3 - على أننا نرى أن نترك كلمة الفصل في الجواب لياقوت نفسه إذ قال في مقدمة كتابه هذا ما نصه: (وجمعت في هذا الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويين، واللغويين، والنسابين، والقراء المشهورين، والإخباريين، والمؤرخين، والوراقين المعروفين، والكت المشهورين، وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل من صنف في الأدب تصنيفاً، أو جمع في فنه تأليفاً، مع إيثار الاختصار والإعجاز، في نهاية الإيجاز).
ثم قال: (وكنت قد شرعت عند شروعي في هذا الكتاب أو قبله في جمع كتاب في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء، ونسجتها على هذا المنوال، وسبكتها على هذا المثال في الترتيب، والوضع والتبويب، فرأيت أكثر أهل العلم المتأدبين، والكبراء المتصدرين، لا تخلو قرائحهم من نظم شعر، وسبك نثر، فأودعت ذلك الكتاب كل من غلب عليه الشعر، فدون ديوانه، وشاع بذلك ذكره وشأنه، ولم يشتهر برواية الكتب وتأليفها، والآداب وتصنيفها، وأما من عرف بالتصنيف، واشتهر بالتأليف، وصحت روايته، وشاعت درايته، وقل شعره، وكثر نثره، فهذا الكتاب عشه ووكره. . . وأجتزئ به عن التكرار هناك، إلا النفر اليسير الذي دعت الضرورة إليهم، ودلتنا عنايتهم بالصناعتين عليهم، ففي هذين الكتابين أكثر أخبار الأدباء، من العلماء والشعراء، وقصدت بترك التكرار، خفة محملة في الأسفار. . .)
ومن هذا يعلم القارئ الكريم السبب في إغفال ياقوت في معجمه هذا ذكر حسان بن ثابت والحطيئه والأخطل. . . الخ لأنه ذكرهم في معجمه الثاني. وأن من جاء ذكره من الشعراء في هذا المعجم ممن لم يشتهر بالتأليف مثل الفرزدق، فإنما هو من عمل الوراقين ليس غير.
ونحن لا نشك في أنه إذا تيسر العثور على معجم الشعراء يتبين التمايز بين هذين المعجمين.
4 - أما الأئمة العظام الذين لم يشتهروا بقول الشعر أو النثر الفني كالإمام أبي حنيفة والإمام أحمد فلا معنى لإثباتهم في هذا المعجم. أما الإمام الشافعي، فله شعر معروف، ونثر موصوف، لا يزالان خالدين إلى يوم الناس هذا. والمعروف أن الإمام الشافعي طلب الأدب قبل أن يطلب الفقه. وقد روى الرواة أن عبد الملك ابن قريب الأصمعي قال: قرأت شعر الهزليين على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس (يعني الشافعي).
ملحوظة: ذكر الكاتب الفاضل اسم البحتري بين الشعراء الذين أغفلهم ياقوت في معجمه هذا. مع أن ترجمته وردت مبسوطة في الجزء التاسع عشر من (ص248 إلى ص258) ويظهر لنا أن السبب في ذكره بين الأدباء يرجع إلى كونه معدوداً في زمرة المؤلفين، فإن له ديوان الحماسة الذي عارض به حماسة أبي تمام، وقد طبع بمصر في المطبعة الرحمانية سنة 1929 فاستحق بهذا أن يعد بين الأدباء، كما هو معدود في الطليعة من فحول الشعراء.
(بغداد - كلية الحقوق)
هاشم الراوي
في الأدب الحديث
أعتقد أن الذين قرءوا شعر الدكتور إبراهيم ناجي يلذ لهم كثيراً أن يتعرفوا رأيه في الأدب الحديث، واتجاهه في الشعر الحديث، فلا عجب إذا ما احتفت كلية الآداب، بجامعة فاروق الأول بالدكتور ناجي محاضراً في الأدب الحديث.
وقد تجلى احتفاء كلية الآداب السكندرية بالدكتور ناجي في كلمة موجزة شاء الأستاذ العميد عبد الحميد العبادي أن يقدمه إلى الحاضرين بها، فتحدث في إيجاز عن العلم والأدب، وشرح في دقةٍ وعمقٍ كيف تغزر بالعلم مادة الأدب، وكيف ينبغي أن يكون الشعر بعد أن مازجت الثقافة الحديثة بينه وبين العلم، ثم حدثنا الأستاذ العبادي عن أوجه الشبه بين العالم الأديب - الجاحظ - وبين الطبيب الشاعر - ناجي - وبين الفيلسوف المجرب، فرنسيس بيكون، ذلك الرجل الذي نحل مسرحيات شيكسبير لما كان من شهرته في الأدب، تلك الشهرة التي طغت عليها شهرته كعالم وفيلسوف مجرب
وبعد أن غادر الأستاذ العبادي منصة الخطابة وقف الدكتور ناجي وابتدأ حديثه عن الأدب، منكراً على الكثيرين من المشتغلين بالأدب فهمهم لمصطلحات الكلاسيكية، والرومانتيكية، والرمزية، سارداً بعض كلمات الرمزيين من الأدباء، وهي كلمات لا مدلول لها، وكنا نحب أن يذكر لنا الدكتور ناجي أسماء أولئك الأدباء حتى نكون على بينة من الأمر أولا، وحتى نستطيع دراسة هؤلاء الرمزيين بأنفسنا على ضوء من دراساته التي عرض لنا لوناً منها
ومهما يكن من شئ، فقد ضرب لنا الدكتور ناجي مثلاً أوجه الخلافات بين المذاهب الثلاثة، فقال: إن الكلاسيكية تصنع تمثالا من المرمر دقيق الصنع، معبراً عن أرستوقراطية الفن، وترفعه عن الأحاسيس الشعبية، فتأتي الرومانتيكية فتضع أحمر في شفتي التمثال. ولا ندري، أتصنع الرومانتيكية ذلك تظرفا أم نزولا إلى منطقة المحسات الشعبية؟ أما الرمزية فتسدل على التمثال رداء من الحرير المتموج
والدكتور ناجي حريص أشد الحرص على أن يحتفظ المجدون من الشعراء والأدباء بالتراث الأدبي القديم، وأن يتمسك الأولون بعمود الشعر، أو على حد تعبيره أن يضعوا الخمر الجديد في الزجاجات القديمة. فلا جديد في الشعر يمكن أن نزعم أنه منبت عن القديم. وليس من شاعر معاصر إلا وهو متتبع خطوات من سلف. وقد ضرب الدكتور ناجي مثلا بشوقي. فقال إنه كان من أعرف الشعراء بدقائق الشعر القديم.
ولقد كان نصيب الأدب الإنجليزي - القديم والحديث - من عناية الدكتور المحاضر نصيب الأسد كما يقولون! فقد طاب له أن يسرد لنا نماذج عدة من ذلك الشعر على سبيل الاستشهاد
على أن إحجامي عن إثبات ما استشهد به الدكتور ناجي من شعر مترجم لا يمنعني من أن أعتب عليه، وهو الداعي في غضون محاضرته إلى شعر القوة، قراءته ذلك الشعر - العريان - على حد تعبيره في حشد من طالبات الجامعة، وكان بحسبه أن يشير إلى من شاء بأن يقرأ شعر (لورنس - إن يرد أن يطلع على لون من الأدب المكشوف)
الإسكندرية
علي حسن حموده
وحدة الروح والهوى:
أربعة من الشباب جمعت بين قلوبهم آمال حلوة، وعقدت بين أرواحهم أواصر القربى آلام مرة، ولم شملهم صلات من الفكر واتفاق النظرة إلى الحياة، ونزعات من خلجات الفؤاد.
كنا - ولانزال - نلتقي كل ليلة عند صديق لننفس عن نفوسنا بما نعي من أحاديث، وبما نتداول من آراء، وبما نتطارحه من أخبار الشعر والأدب: فنتعرض للحرب، وننقد الأوضاع، ونقرظ الحسن، ونسخر مما يدعو إلى السخر.
ففي ليلة من ليالينا اللاهية الجادة، أقبل علينا صديق، وبيده الأعداد الأخيرة من مجلة (الرسالة) الغراء. فقلت: هاتها، هاتها، هات مصر مثقفة، هات الينبوع السلسال! فقال: كلا ولكن انصت؛ فصمت وصمت الآخرون، وراح صديقنا يقرأ: (لاحت في جوانب العام المنصرم تباشير السلم كما تلوح في هوادي الليل تباشير الفجر الكاذب، فانبعثت روافد الأماني هنا، وتحلبت أشداق المطامع هناك، وابتهل العالم العربي إلى الله أن يوقيه ويلات السلم، كما وقاه ويلات الحرب، فأوحى إليه أن يتحد. . .)
وهنا هتف صديقنا الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: إنها والله زياتية يا رفاق، فقلت: لعلك تعني هذه الفقرة من المقال، فقال: أي والله، أمعن في قوله (فأوحى إليه أن يتحد) فصمتنا جميعاً نتصور مبلغ ما أوتيت هذه العبارة من جمال
ومضى صاحبنا يقرأ حتى بلغ: (ذلك وحي الضرورة نزل على قلوب الساسة فصدعوا به، وعملوا له؛ وهنالك وحي الطبيعة أوحته القرابة الواشجة، واللغة الواحدة، والوطن المشاع. والتاريخ المشترك) فصمت صاحبنا وقد غرقت عيناه بالدموع وكان مؤثراً في قراءته، فالتفت إلى صديقي الأنصاري وقلت: ماذا؟ فقال: حسب الزيات أن يبكي من جراء قلمه الأدباء! ثم وضع جبهته على كفه وراح يفكر، وللأنصاري في عوالم الفكر سبحات
يا لروعة البيان! سطور ثلاثة تجمع كل روابط العرب في بيان ضاحك باك، هذه الروابط التي يبعث ماضيها في النفس سروراً وبهجة، ويسكب حاضرها الكسير في القلب لوعةً وشقاءً!!!
سطور ثلاثة طوت التاريخ منذ خلق الله البشرية إلى اليوم الذي نعيش فيه، (فالوطن المشاع) ما هو غير هذه البلاد العربية؛ مصرها وشآمها، ونجدها وعراقها وحجازها ويمنها وحضرموتها.
ما هو الوطن المشاع غير هذه المقاطعات المقسمة المحددة المبعثرة المفرقة (واللغة الواحدة) ما هي غير لغة القرآن؟ ما هي غير لغة الخلود، لغة الضاد أمنا الزءوم وعزنا القوي، ورجاؤنا الكريم؟
ما هي (هذه اللغة الواحدة) غير ما قلت وغير ما ثار عليه صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا؟ عفى الله عنه.
(والتاريخ المشترك) ما هو غير هذه الصفحات الوضاء بأسطار المجد وآيات النضال؟ ما هو غير هذه السطور الشعاعة بالعظمة والخلود
ما هو هذا التاريخ المشترك غير ما نقول، ويقولون، وغير ما يقرره الشرق، فيعترف به الغرب، ما هو غير هذا وأكثر من هذا؟
وهذه (القرابة الواشجة) أليست مستقاة من الدين واللغة والرحم والوطن.
فما نحن وهذه الروابط؛ أليست داعيا قويا إلى أن نتحد ثقافةً ولغةً ووطناً؛ فنقوى بعد ضعف، ونعرف بعد جهل، ويقام لنا ويقعد، بعد أن كنا غفلا من كل عناية لا يؤبه لنا، ولا يقام لنا وزن!
لهذا فلنتحد. وقد أوحى الله إلينا بالاتحاد لننجو من حرب ما بعد الحرب.
ورضى الله عنك أبا رجاء وأرضاك.
(مكة)
عبد الله الفاطي