مجلة الرسالة/العدد 616/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 616/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1945



كتاب التصوير الفني في القرآن

تأليف الأستاذ سيد قطب

للأستاذ نجيب محفوظ

قرأت كتابك (التصوير الفني في القرآن) بعناية وشغف، فوجدت فيه فائدتين كبيرتين:

أولاهما للقارئ: خصوصاً القارئ الذي لم يسعده الحظ بالتفقه في علوم القرآن، والغوص إلى أسرار بلاغته. بل حتى هذا القارئ الممتاز لاشك واجد في كتابك نوراً جديداً ولذة طريفة، ذلك أن كتاباً خالداً كالقرآن لا يعطى كل أسراره الجمالية لجيل من الأجيال مهما كان حظه من الذوق وقدرة في البيان، فللجيل الحاضر عمله في هذا الشأن، كما سيكون للأجيال القادمة عملها. والمهم أنك وفقت لأن تكون لسان جيلنا الحاضر في أداء هذا الواجب الجليل الجميل معاً، مستعيناً بهذه المقاييس الفنية التي يألفها المعاصرون ويحبونها ويسرون في وادي الفن على هداها ونورها. إن عصرنا - من الناحية الجمالية - عصر الموسيقى والتصوير والقصة، وهاأنت ذا تبين لنا بقوة وإلهام أن كتابنا المحبوب هو الموسيقى والتصوير والقصة في أسمى ما ترقى إليه من الوحي والإبداع. ألم نقرأ القرآن؟ بلى. وحفظنا - في زمن سعيد مضى - ما تيسر من سوره وآياته، وكان - وما يزال - له في قلوبنا عقيدة وفي وجداننا سحر، بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق، تحسه الحواس، ويهتز له الضمير، دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوق، كان كالنغمة المطربة التي لا يدري السامع لماذا ولا كيف أطربته، فجاء كتابك كالمرشد للقارئ والمستمع العربي من أبناء جيلنا، يدله على مواطن الحسن ومطاوي الجمال، ويجلى له أسرار السحر ومفاتن الإبداع. كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعاً.

ولقد قلت بعد نظر طويل وتدبر (التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور. وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقى بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة؛ وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. .) ومضيت تستشهد لكل حالة بالأمثال مفسراً شارحاً موضحاً، ولم تقتنع بذلك فتوثبت للبحث عن القواعد التي يقوم عليها هذا التصوير المعجز من التخيل الحسي والتجسيم في فيض من الأمثال والشواهد. ثم لم تقنع بما فتح الله عليك من سحر هذا الفيض الإلهي فقلت (حينما نقول إن التصوير هو القاعدة الأساسية في تعبير القرآن وإن التخيل والتجسيم هما الظاهرتان البارزتان في هذا التصوير لا نكون قد بلغنا المدى في بيان الخصائص القرآنية عامة ولا خصائص التصوير القرآني خاصة. . . هنالك التناسق الذي يبلغ الذروة في تصوير القرآن.) فكان هذا الفصل الذي بلغت به أنت أيضاً الذروة في النقد والذوق والفهم. كنت أود لو أستشهد ببعض ما جاء في كتابك من النقد التطبيقي للآيات الكريمة، ولكن تضيق عن ذلك كلمتي الموجزة ويأباه ذوقي الذي يأبى المفاضلة بين آي الذكر على أي وجه من الوجوه. ومهما يكن من أمر فينبغي أن أقرر هنا أنه في فصلي (التناسق الفني) و (القصة في القرآن) قد بارك القرآن مجهودك فرفعك إلى مرتقى يتعذر أن يبلغه ناقد بغير بركة القرآن. .!

أما أخرى الفائدتين: فهي لك أنت! لأن الكتاب في جملته إعلان عن مواهبك كناقد. إنك تستطيع أن تعبر أجمل التعبير عن أثر النقص في نفسك، ولا تقف عند هذا فتجاوزه إلى بيان مواضع الجمال في النص نفسه وما يحفل به من موسيقى وتصوير وحياة، ثم تستنطق الموسيقى أنغامها وضروبها، وتستخبر الصورة عن ألوانها وظلالها، وتستأدي الحياة حرارتها وحركتها. ولا تقنع بهذا كله! فيقرن ذهنك بين النص والنص، حتى تظفر وراء الظواهر بوحدة، وخلف الآيات بطريقة عامة، تجعل من الكتاب شخصاً حياً ذا غاية واضحة، وسياسة بارعة، وخطة موضوعة، تهدف جميعاً إلى الإعجاز الفني فتناله عن جدارة. فهذا ذوق جمبل، وتذوق عسير وفكر ذو نفحة فلسفية. . .

والآن اسمح لي أن أوجه إليك سؤالاً، وأن أسوق ملاحظة: أما السؤال: فإنك تحدثت عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفني، وكل أولئك روح الشعر ولبابه قبل أي شيء آخر، أفلم يخطر لك أن تحدد نوع كلام القرآن على ضوء بحثك هذا؟ وأما الملاحظة فعن الفصل الذي خصصته للنماذج الإنسانية، فقد وجدت فيما استشهدت به آيات ما يعبر عن طبائع بشرية وسجايا نفسية لا نماذج إنسانية، فالنموذج الإنساني بمعناه العلمي شيء أشمل من هذا، وهو قد يحوى الكثير من هذه الطبائع كما قد يحوى غيرها، والمهم أنه يعرضها على نحو خاص يتفق ومزاجه الأساسي. والنماذج الإنسانية محدودة معروفة - على اختلاف تقسيم علماء النفس لها - أما الطبائع فلا حصر لها، فلعلك قصدت الطبائع لا النماذج.